الفصل الثاني عشر
وأما قوله: إن الله أمر أن يتخذ منه مصلى، وفسر لنا رسول الله ﷺ مقتضى هذا الأمر بتلاوته للآية وصلاته خلفه وما أمر الله رسوله من شرعه الذي أوحاه إليه أمر توقيفي لا اجتهاد فيه لأحد.
فالجواب: أما تلاوة النبي ﷺ للآية وصلاته خلف المقام سنة الطواف فصحيح ثابت لا مجال للشك فيه، وإنما النزاع في صحة ما يدعيه من أن موقف رسول الله ﷺ من المقام لصلاة سنة الطواف أنه هو المأمور بأن يتخذه مصلى دون غيره، وأنه لو نقل المقام إلى محل قريب منه فإن الصلاة عنده فاسدة غير صحيحة لوقوعها في غير موقعها المأمور به في الآية، فإن هذا وأمثاله مما لا شك في بطلانه لانعقاد الإجماع على خلافه، أما تلاوة النبي للآية فليست بدالة على سبيل القطع أن المقام النازل فيه القرآن هو هذا الحجر دون غيره، فقد حصل الخلاف بين السلف والخلف في تعيينه، فمنهم من قال: إنه الحج كله. قاله ابن عباس، ومنهم من قال: إنه المسعى وعرفة ومزدلفة ورمي الجمار. قاله مجاهد وعطاء، ومنهم من قال: إنه الحجر الذي قام عليه إبراهيم الخليل عليه السلام لبناء البيت الحرام. كما اختلفوا في الصلاة أيضًا فمنهم من قال: إنها الدعاء لكون الخطاب للمؤمنين زمن إبراهيم عليه السلام وصلاتهم ليست كصلاتنا. ومنهم من قال: إنها الصلاة المعروفة ذات الركوع والسجود وهي سنة الطواف، وقد ثبت مشروعيتها من قول النبي ﷺ وفعله وإقراره، وقد روى الخمسة عن جبير بن مطعم أن النبي ﷺ قال: «يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ».
فهذه الصلاة لا تتغير عن مشروعيتها بتحويل المقام عن محله ولا ببقائه على حاله، وقد صلاها الصحابة عند المقام حال كونه ملصقًا بالكعبة زمن النبي ﷺ وزمن أبي بكر ثم صلوها بعد تحويل عمر له إلى محله الآن، ولم يقع في نفس أحد منهم حرج من هذا التحويل لعلمهم أن الصلاة عنده لله رب العالمين لا لمقام إبراهيم، ولأن المقام لا يتعلق به شيء من مشاعرالحج ولا مناسكه، فلم يشرع مسحه ولا تقبيله ولا الطواف به ولا الصلاة فوقه، وإنما شرعت الصلاة عنده عبادة لرب العالمين وتكرمة لإبراهيم لتخليد ذكره الجميل، وقد جعل الله استدامة بقائه في المسجد الحرام بمثابة الدليل والبرهان على صحة بناء إبراهيم عليه السلام لهذا البيت الحرام الذي جعله مثابة للناس وأمنًا، فتحويله من محله إلى محل قريب منه حيث دعت الضرورة والحاجة والمصلحة إليه لا يتغير به شيء من حرمته، ولا تنحط به كرامته، أشبه تحويل عمر له في زمانه وإجماع الصحابة على استحسانه، وهذا التصرف يعد من المصالح المرسلة والتصرفات الجزئية الحسنة الملائمة لمقاصد الشرع ومحاسنه بحيث لا تنافي أصلاً من أصوله ولا دليلاً من دلائله، والتي تتمشى على حسب الحاجة والمصلحة وتختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، وحاصله يرجع إلى راحة الأنام ووقايتهم من السقوط تحت الأقدام فيما بين الركن والمقام، فهو إن لم يكن للصواب فيه ملمح ففيه للاجتهاد مسرح، أشبه التصرف في المسجد الحرام بتوسعته وتغيير بنيانه عن حالته زمن النبي ﷺ وهو أعظم حرمة من حجر المقام، ولأن الصلاة فيه بمائة ألف صلاة في غيره.
فأول من تصرف فيه بتوسعته عمربن الخطاب ثم زاده عثمان بن عفان ثم زاده ابن الزبير ثم زاده الوليد بن عبد الملك ثم زاده بنو العباس، وكل هذه التصرفات وقعت في القرون المفضلة ولم ينكرها أحد من العلماء، بل جعلوا للزائد حكم المزيد في الفضيلة، ثم حصلت التوسعة في هذه الأزمنة من الحكومة السعودية في المسجد الحرام وفي المسعى وفي المواقف، كإزالة الجبل الراكب على جمرة العقبة ليتسع المرمى للناس، فحصل للحجاج بذلك راحة وسعة، وحمدوا عاقبة هذه التوسعة وعدوها من العمل المبرور والسعي المشكور، ثم جرى منهم التوسعة في المطاف للناس وذلك بإزالة سائر البنايات المحيطة بالمطاف، كالبناء المجعول فوق زمزم والمنبر وبقي المقام كالقائم وسط صحن المطاف، ولولاه لاتسع المطاف للناس من جميع الجهات، ومتى بقي على حاله وفي محله فإنها ستكثر بسببه الإصابات ولا يتمكن أحد عنده من فعل الصلاة من أجل شدة الزحام والخوف من السقوط تحت الأقدام، فلأجله وقع تبادل الآراء بين العلماء في موضوعه، وأدخلت قضيته في الجامعة الإسلامية للحاجة إلى الإفتاء في خصوصه، والحاجة هي أم التدقيقات والتوسع في التحقيقات كما أنها أم الاختراعات لأمور الحياة، فصدر من مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم الإفتاء بجواز تحويله إلى محل قريب منه لمصلحة توسعة المطاف للناس، وكما سبق نظير هذا العمل من فعل عمر بطريق القياس وإجماع الصحابة الأكياس ووافقه على هذا الرأي أكثر العلماء العارفين بالعلل والأحكام.
ونحن نرى أن هؤلاء الذين أفتوا بذلك لم يتجانفوا في فتواهم لإثم ولا لتغيير شرع ولا حكم، فهم أقرب إلى الصواب والعدل من القائل بالتحريم بدون نص ولا قياس ولا دليل؛ لأن من قواعد الشرع المعتبرة أنه إذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير، ويجوز ارتكاب أدنى الضررين لدفع أعلاهما، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، والضرورة تبيح المحظور، وما حرم لذاته يباح للضرورة، وما حرم لسد الذريعة يباح للحاجة وكون الحرج منفيًّا عن الدين جملة وتفصيلاً: ﴿وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖ﴾ [الحج: 78] ولكن الإنسان طائش بطبعه إذا جهل شيئًا أسرع بإنكاره، وذلك لا يغنيه من الحق شيئًا، وإلا فإن هذا التحويل يجري مجرى التصرف في المسجد الحرام بتوسعته، وكذا المسجد النبوي الذي بناه رسول الله بيده، فالقائل بتحريم تحويل المقام ووجوب بقائه على حالة ما كان عليه زمن النبي ﷺ يلزمه أن يقول بتحريم التصرف في المسجد الحرام وتحريم التصرف في المسجد النبوي الذي بناه رسول الله ﷺ بيده، إذ هما أعظم حرمة منه، ومن المعلوم أن بقاء المقام على حاله مع توسعة المطاف من جميع جهاته أنها تتضاعف الإصابات منه بحيث إن الطائفين لكثرتهم يظلل بعضهم دون بعض فيسقطون عليه بدون أن يروه وربما دفع بعضهم بعضًا بالعنف والشدة إليه، وهو حجر وقد ضرب عليه بصندوق حديد، وبهذا السبب يتزايد خطره، وربما تكثر وفياته وضرره، وزوال الدنيا بأسرها أهون على الله من قتل رجل مسلم، ولما طاف النبي ﷺ بالبيت قال: «مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ وَإن حُرمة المسلم عِنْدَ اللَّهِ أَعْظَمُ مِن حُرمتك، مَالِهِ وَدَمِهِ وَأَلا يظُنَّ بِهِ إِلَّا خَيْرًا»[170].
وإنما حول عمر بن الخطاب المقام من لصق الكعبة إلى موضعه الآن حينما اتسعت فتوح البلدان وكثر الوافدون إلى حج بيت الله الحرام فرفعه إلى حد يرى أنه كافٍ لمطاف الناس في ذلك الزمان.
قال في الفتح: كان عمر يرى أن إبقاء المقام في لصق الكعبة يلزم منه التضييق على الطائفين وعلى المصلين فوضعه في مكان يرتفع به الحرج، وتهيأ له ذلك؛ لأنه الذي كان أشار باتخاذه مصلى، ولم تنكر الصحابة فعله ولا من جاء من بعدهم فصار إجماعًا. انتهى.
والحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، فمتى وجدت العلة وجد المعلول، وقد عظم الجمع في هذا الزمان أشد منه بكثير من زمن عمر بن الخطاب وأخذ يتزايد عامًا بعد عام من أجل سهولة المواصلات وقصر المسافة بالآلات البرية والبحرية والهوائية، وقد قلت عقبات التعويق، وقطع دابر قطاع الطريق، واستتب الأمن على النفس والمال في أنحاء الحرم وخارجه وسائر السبل المفضية إليه، حتى إن الناس فيه آمن منهم في دورهم وديارهم، فمن أجله هبَّ الناس من كل فج إلى أداء فريضة الحج والتزود منه مرة بعد أخرى فعظم الجمع واشتد الزحام عند رمي الجمار، وفيما بين الركن والمقام حتى تسبب في وفاة بعض الأعيان، وما من شيء من شؤون العبادات يقع الناس لأجله في الشدة والحرج إلا وبجانبه باب من التيسير والفرج: ﴿وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡ﴾ [النساء: 83]؛ لأن الحرج منفي عن الدين جملة وتفصيلاً، قال تعالى: ﴿وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖ﴾ [الحج: 78] والحرج هو الضيق والمشقة فيما يمكن فيه إدراك غرض الشارع، والعمل بالمشروع بدون مشقة، فأشد ما يقع الناس فيه من المشقة في شؤون مناسك الحج هو في مقامين أحدهما عند رمي الجمار، والثاني في الطواف خاصة فيما بين الركن والمقام. فالمشقة الحاصلة على الناس عند رمي الجمار إنما حصلت بإلزام الناس برمي الجمار فيما بين الزوال إلى الغروب، فهذا التحديد هو الذي أوقعهم في الحرج والمشقة، على أنه لم يثبت عن رسول الله ﷺ ما يقتضي صحة هذا التحديد لا بحديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف، والتحديد بابه التوقيف فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد، فإزالة هذه الشدة وتخفيف هذه المشقة يحصل بالإفتاء بتوسعة الوقت للرمي، وكونه يجوز للإنسان أن يرمي في أية ساعة شاء من ليل أو نهار كما ورد الأمر بذلك للرعاة، وقاس عليه الفقهاء السقاة ومن خاف على نفسه وأهله وماله فيجوز لهم أن يرموا في أية ساعة شاؤوا من ليل أو نهار، قاله في الكافي و الإنصاف، وما من أحد من الناس إلا وهو يخاف على نفسه وأهله ورفيقه عند رمي الجمار أشد من خوفه على خمسين دينارًا، التي أبيح له في أن يرمي جماره من أجل الخوف عليها في أية ساعة شاء من ليل أو نهار، وصار الناس كلهم من أجل ضرورة الزحام والسقوط تحت الأقدام بمثابة المعذورين الذين أبيح لهم أن يرموا في أية ساعة شاؤوا من ليل أو نهار، على أن التحديد بما بين الزوال إلى الغروب ليس له أصل يرد إليه ولا نظير يقاس عليه فالحكم على الجمع الكثير في خاصة هذا الوقت القصير قد صار من تكليف ما لا يستطاع، والله لا يكلف نفسًا إلا وُسْعَهَا مع العلم أنه عمل يفعل بعد التحلل من الحج كله فناسب التسهيل وعدم التشديد في التحديد، والقول بسعة الوقت للرمي هو مما يؤهل الناس أن يرموا جمارهم بسهولة وسعة، ويختار أحدهم من الوقت أوسعه، ويعلم عن طريق اليقين أن رميه للجمار قد وقع موقعه.
الأمر الثاني: الشدة الحاصلة على الناس في المطاف خاصة فيما بين الركن والمقام، فهذه الشدة والمشقة يحصل إزالتها والتخفيف منها بتحويل المقام عن محله إلى محل قريب منه؛ لأن هذا من المصالح المرسلة والتصرفات الجزئية الحسنة لكون الطواف هو ركن الحج الأعظم فهو واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وبتوسيع المطاف يتأهل الإنسان لأداء هذا الركن بتمام وخشوع وخضوع واطمئنان بدلاً من أن يدفع بالكره إلى الوراء أو يسقط من شدة الزحام تحت الأقدام، وههنا أمر خفي ينبغي التفطن له، وهو أن الشرائع اللازمة كالصلاة في أوقاتها وكالزكاة المفروضة وكالصيام وكمناسك الحج المحتمة مثل الإحرام والطواف والسعي والوقوف بعرفة فهذه كلها تلتزم حالة واحدة فلا تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة، وليس لأحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر في أمر خالفها، أما ما عدا ذلك فإنه يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، وقد كان عمر في خلافته يجمع أولي الأمر من كبار الصحابة فيشاورهم في كل ما لا نص فيه ولا سنة متبعة فيعمل بمقتضى رأيهم، وكان من سنته وحسن سيرته أن يأمر عماله بأن يوافوه في الحج في كل سنة للسياسة والمشاورة فيما يلزم بشأنهم.
* * *
[170] أخرجه ابن ماجه والترمذي من حديث عبد الله بن عمر.