متقدم

فهرس الكتاب

 

الفصل العاشر

قال في النقض ص 45: إن المقام زمن إبراهيم عليه السلام لم يتعلق به شيء من الأحكام ولم ينزل في شأنه قرآن، ولم يؤمر الناس بالصلاة حوله إلا بعد حجة الوداع وبعد نزول قوله تعالى: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى [البقرة: 125] وهذه الآية إنما نزلت في حجة الوداع.

فالجواب: متى كان الأمر بهذه الصفة وأن المقام زمن إبراهيم عليه السلام لم يتعلق به شيء من الأحكام، فما الفائدة في ترديد هذا الكلام وتركيزه في الأذهان وإلحاقه بالشرائع والأحكام؟! ليثبت بذلك تحريم تحويل المقام عن محله الآن، ليوهم بذلك ضعفاء العقول والأفهام بأن هذا هو محله زمن إبراهيم عليه السلام، وأن استدامة بقائه في محله هو من الشرع القديم اللازم والحكم التوقيفي الدائم، وأن الرسول بادر برده إلى محله، وجعل هذا القول أصلاً في استدلاله وغاية في اعتماده واستناده حتى إنه ذكره في أكثر من عشرين وجهًا من كتابه لقصد التمويه والتهويل به، على أن قوله: إن الناس لم يؤمروا بالصلاة حوله إلا بعد حجة الوداع وبعد نزول قوله تعالى:. ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى. فإن هذا كله يعد من الكذب على الله وعلى رسوله، وكأنه لا علم له بمواقع التنزيل، أو أنه يعلم ولكنه يتجاهل، فإن سورة البقرة هي أول ما نزل بالمدينة بإجماع علماء التفسير على ذلك ما عدا آية واحدة وهي قوله تعالى: ﴿وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا تُرۡجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ٢٨١ [البقرة: 281]. فقيل:إنها نزلت في حجة الوداع، وقيل: إنها نزلت قبل موت النبي ﷺ بثلاثين يومًا، وقيل: باثني عشر يومًا. والله أعلم. وفي البخاري عن عائشة قالت: ما نزلت سورة البقرة إلا وأنا عند النبي ﷺ. ولم يرو عن أحد من الصحابة ولا التابعين ولا العلماء المعتبرين أن أحدًا منهم قال بقوله، وأن الناس لم يؤمروا باتخاذ المقام مصلى إلا في حجة الوداع.

وإنما أخرج هذا القول من كيس نفسه في سبيل نصر رأيه وإعلاء كلمته، كيف وقد ثبت من فعل النبي ﷺ أنه صلى ركعتي الطواف عند المقام حال كونه ملصقًا بالكعبة في عمرة القضاء وفي الفتح بطرق صحيحة ثابتة؟!.

ففي البخاري قال: «حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سَيْفٍ قَالَ سَمِعْتُ مُجَاهِدًا قَالَ أُتِىَ ابْنُ عُمَرَ فَقِيلَ لَهُ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ دَخَلَ الْكَعْبَةَ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ فَأَقْبَلْتُ وَالنَّبِىُّ قَدْ خَرَجَ، وَأَجِدُ بِلَالاً قَائِمًا بَيْنَ الْبَابَيْنِ، فَسَأَلْتُ بِلَالاً فَقُلْتُ أَصَلَّى النَّبِىُّ فِى الْكَعْبَةِ قَالَ نَعَمْ رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ عَلَى يَسَارِهِ إِذَا دَخَلْتَ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى فِى وَجْهِ الْكَعْبَةِ رَكْعَتَيْنِ».

وفي البخاري: «عن ابن عباس: أن النبي دخل البيت فَلَمَّا خَرَجَ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فِى قُبُلِ الْكَعْبَةِ وَقَالَ « هَذِهِ الْقِبْلَةُ»».

وفي النسائي: «عن عطاء عن أسامة بن زيد أن النبي دخل البيت ثم خرج فصلى خلف المقام ركعتين وقال: «هَذِهِ الْقِبْلَةُ»».

وفي الطبقات الكبرى: «عن محمد بن سعد في قصة الفتح قال: ثم طاف النبي بالبيت ثم جاء إلى المقام وهو لاصق بالكعبة فصلى خلفه ركعتين».

فهذه الأحاديث كلها تدل بطريق الصراحة على أن النبي ﷺ صلى سنة الطواف عند المقام حال كونه لاصقًا بالكعبة في عمرة القضاء وفي الفتح بل وفي حجة الوداع كما في صحيح مسلم من حديث جابر في صفة حج النبي ﷺ وفيه: أن النبي ﷺ طاف بالبيت سبعًا ثم تقدم إلى مقام إبراهيم وقرأ: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى [البقرة: 125] فجعل المقام بينه وبين القبلة فصلى ركعتين. وهو يدل بمفهومه على أن المقام كان إذ ذاك في لصق الكعبة؛ لأن التقدم إنما يوصف به التقدم إلى القبلة، فلو كان في محله الآن لقال: ثم تأخر فصلى ركعتين. كما في حديث أبي سعيد الخدري، أن النبي ﷺ رأى تأخرًا في أصحابه، فقال: «تَقَدَّمُوا فَأْتَمُّوا بِى وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ»[169]، فمعناه التقدم إلى القبلة، وصاحب النقض يعترف بصلاة النبي ﷺ عند المقام في عمرة القضاء وفي الفتح، ولكنه -ويا للأسف- يصف هذه الصلاة بأنها من فعل الجاهلية وأنهم فعلوها قبل أن تشرع لهم، ليقطع بذلك سلسلة الإسناد ويفصم عروة وثيقة الاستناد حتى يتسنى له عدم الاعتداد بفعل النبي ﷺ وبفعل أصحابه، ودونك نصُّ لفظه نزاهة لعرضنا وإزاحة لعذره:

قال في النقض ص 63: وأما ما روي من صلاة النبي ﷺ خلف المقام تحت البيت في عمرة القضاء فذلك في زمن الجاهلية حينما كان ملصقًا بالبيت قبل تحويله، وعمرة القضاء في ذي القعدة عام سبعة من الهجرة. انتهى.

فقد عرفت تسميته زمن النبوة التي هي بعد عشرين عامًا من البعثة بزمن الجاهلية، ثم وصف صلاة رسول الله ﷺ وصلاة أصحابه عند المقام بأنهم فعلوها قبل أن تشرع لهم وقبل أن يؤمروا بها، وهذا كله من الكذب على الله وعلى كتابه وعلى رسوله، ومعلوم أن الكذب على الله وعلى رسوله ليس كالكذب على الناس، وإنني لأعجب جدًّا من جرأة هذا الرجل على فساد هذا التعبير، فحالة تبلغ بهذا الشخص إلى حد يسمي فيها زمن النبوة بزمن الجاهلية، ويصف صلاة رسول الله ﷺ عند المقام بأنها غير شرعية، إنها لحالة سيئة، وإلا فإن الجاهلية اسم لما قبل البعثة حينما يقال حروب الجاهلية، وأشعار الجاهلية، ونكاح الجاهلية، وهذا الشيء لن يخفى على مثله، ولكنه يتجاهل والتجاهل بالشيء أقبح من الجهل به؛ لأن الجهل منسوب إلى عدم العلم وإلى عدم اتباعه، فإن من لم يعلم الحق فهو جاهل جهلاً بسيطًا، فإن عرفه وعمل بخلافه فهو جاه ل جهلاً مركبًا، وفيه الحكاية المشهورة:
قال حمار الحكيم تُوما
لو أنصفوني لكنت أركب
لأنني جاهل بسيط
وصاحبي جاهل مركب
أما صلاة النبي ﷺ وصلاة أصحابه عند المقام في عمرة القضاء وفي الفتح، فإنها كحكمها في حجة الوداع، كما أن أصحاب النبي ﷺ صلوا عند المقام حال كونه ملصقًا بالكعبة، ثم صلوا عنده بعد تحويل عمر له إلى محله، ولم يجدوا في أنفسهم حرجًا من صلاتهم عنده بعد تحويله، لعلمهم أن الصلاة لله رب العالمين لا لمقام إبراهيم.

وأما دعواه بأن قوله تعالى: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى [البقرة: 125] وأنها لم تنزل إلا في حجة الوداع فإننا لم نر من قال بذلك من علماء الحديث والسير والتفاسير، فهذه أصول التفاسير الموجودة بأيدي الناس كتفسير ابن جرير و ابن كثير و البغوي و القرطبي و الزمخشري و تفسير المنار وغيرها لم تذكر نزول هذه الآية في حجة الوداع، بل قد اتفقوا على أن سورة البقرة من أول ما نزل بالمدينة.

قال في الفتح: اتفق العلماء على أن سورة البقرة مدنية وأنها أول سورة نزلت بالمدينة وفي البخاري عن عائشة قالت: ما نزلت سورة البقرة إلا وأنا عند النبي ﷺ. ولما حصل الانكماش من الناس في وقعة حنين وهي عام ثمانية من الهجرة، أمر رسول الله ﷺ العباس في أن يصرخ بالناس: يا أهل سورة البقرة، فعطفوا عليه حتى إن الرجل لا يستطيع أن يصرف بعيره فينزل عنه ويدعه. نعم، إن الرجل وجد في لباب النقول عن السيوطي على قوله: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى قال: وروى البخاري وغيره عن عمر قالوَافَقْتُ رَبِّى فِى ثَلَاثٍ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى فَنَزَلَتْ: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى، وقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَمَرْتَ نِسَاءَكَ أَنْ يَحْتَجِبْنَ، فَإِنَّهُ يُكَلِّمُهُنَّ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ. فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ، وَاجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِىِّ فِى الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُنَّ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ» كذلك له طرق كثيرة منها ما أخرجه أبو حاتم وابن مردويه عن جابر: «لما طاف النبي قال له عمر: هذا مقام أبينا إبراهيم؟ قال: نعم، قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فأنزل الله ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى﴾». وأخرج ابن مردويه من طريق عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب أنه مر من مقام إبراهيم، فقال: «يا رسول الله أليس نقوم مقام خليل ربنا؟ قال: «بلى». قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فلم نلبث يسيرًا حتى نزلت: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى. قال: وظاهر هذا وما قبله أن الآية نزلت في حجة الوداع». انتهى.

فقد عرفت اضطراب الرواة في هذا الحديث وأن الصحيح هو ما رواه البخاري، ثم إن السيوطي لم يجزم بالقول بنزول هذه الآية في حجة الوداع، ولم يعزه إلى أحد من العلماء وإنما قال: إن ظاهر هذا وما قبله أن الآية نزلت في حجة الوداع وهو خطأ فهم منه عفى الله عنه، إذ من المحتمل أن يكون عرض هذا الرأي من عمر على النبي ﷺ وقع منه في مكة قبل أن يهاجر أو في المدينة عند ذكر الحج والعمرة، لكون سورة البقرة من أول ما نزل بالمدينة بإجماع علماء التفسير على ذلك، أشبه النظائر التي عرضها ونزل القرآن بموافقته فيها، وهي الأمر بالحجاب وهي مدنية وآية التخيير مدنية أيضًا، فليس في موافقته في الصلاة والمقام ما يدل على أنه عام حجة الوداع، وتلاوة النبي ﷺ للآية بعد فراغه من الطواف يدل على سبق نزولها، وهذا واضح جلي لا مجال للشك في مثله.

ولكن هذا الرجل يتهمه الناس بالشذوذ في آرائه والطفور في أفكاره، يتكلم في القرآن وفي الحديث وفي العلماء بغير عقل وبغير عدل، فهو لفرط جهله وهواه يقلب الحقائق في المعقول والمنقول فيأتي إلى الأحاديث الصحيحة والآثار الصريحة التي تدل على المعنى المراد منها، لكنها لا توافق هواه فيصرفها عن حقيقتها ويقول: إنها غير صحيحة، أو أنهم فعلوها قبل أن تشرع لهم، أو قبل أن يؤمروا بها أو أن النبي صلاها زمن الجاهلية. فيخالف الحقائق مخالفة غير خافية على أحد. ولا يقول بمثل قوله إلا من هو أحمق الناس وأجرؤهم على الكذب وأقلهم حياءً ودينًا، ولا يروج إلا على أجهل الناس وأقلهم معرفة وعلمًا.

* * *

[169] أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري.