متقدم

فهرس الكتاب

 

الفصل التاسع

وأما استدلاله بأنه من قول موسى بن عقبة ص 40 قال: وموسى بن عقبة من رجال الصحيح، وقد أدرك بعض الصحابة وهو ثقة فقيه وإمام في المغازي ومغازيه من أصح المغازي. قال الشافعي: ليس في المغازي أصح من مغازي موسى بن عقبة. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: مغازي موسى بن عقبة من أصح المغازي. انتهى.

فالجواب: إن هذا القول هو أصل مستنده وغاية معتمده، وقد بالغ في رفعه وتشييده ونصره وتأييده بالحق وبالباطل، أما موسى بن عقبة فإنه ثقة عدل ومن رجال الصحيح لكن ثقته وعدالته لا يحكم بها على صحة كل ما رواه، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يصدر منهم أقوال تنكر عليهم ولا يتابعون عليها فما بالك بمن بعدهم؟ لأن الله سبحانه لم يخلق أحدًا معصومًا من الخطأ غير الرسول فيما يبلغه عن ربه، فهذا ابن عباس حبر الأمة وحافظ علوم السنة قد أخرج له البخاري ومسلم أن النبي ﷺ تزوج ميمونة وهو محرم فعده الصحابة وهمًا منه رضي الله عنه وقالوا: الصحيح أنه لم يتزوجها إلا وهو حلال. كما ثبت ذلك عن ميمونة نفسها، وعن أبي رافع، فنسبة القول بهذا إلى ابن عباس صحيح ثابت ومطابقته للواقع غير صحيح ولا ثابت، وكذلك خبر موسى بن عقبة الذي خالف به علماء السير كابن إسحاق وابن سعد والواقدي وغيرهم، فعدالة الراوي شيء وصحة ما يروي شيء آخر، ولا تلازم بينهما، قال السيوطي في ألفية الحديث:
وما اقتضي تصحيح متن في الأصح
فتوى به كعكسه وضح
ولا بقاه حيثما الدواعي
تبطله والوفق للإجماع
ولا افتراق العلماء الكمل
ما بين محتج به وذي تأول
وهذا الخبر يعلم ضعفه من وجوه:

الأول: أنه روي عن موسى بن عقبة، والروايات الصحيحة الصريحة عن عائشة وعروة وعن مالك ومجاهد وعطاء وسفيان بن عيينة وابن سعد ترد هذا القول.

والثاني: أن مدار هذا الخبر على نقل ابن كثير في البداية وقد ضعفه في التفسير وقرر أن النقل إنما وقع من عمر.

الثالث: أنه ليس فيه إسناد متصل بالسماع إلى أحد من الصحابة فضلاً عن رسول الله ﷺ.

والرابع: أن هذا التحويل بتقدير وقوعه في المسجد الحرام عام الفتح فإنه مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله ويجب على الكافة علمهم به، ومعلوم أنه لم ينقل عن أحد من أصحاب رسول الله ﷺ القول به.

الخامس: أنه لو وقع من فعله ﷺ لتقدمه شيء من القول في سبيل تمهيده وتوطين الناس له مما يجب أن يحفظ عنه ويعلم به كل الصحابة أو أكثرهم، وبالخصوص أهل مكة، ذلك بأنه ليس كل ما كان قطعيًّا عند شخص يجب أن يكون قطعيًّا عند غيره، وليس كل ما ادعت طائفة أنه صحيح عندها يجب أن يكون صحيحًا في نفس الأمر والواقع، فهذه الوجوه من تدبرها وكان عارفًا بالأدلة القطعية يجزم قطعًا بأن النبي ﷺ لم يقع منه تحويل للمقام، إذا ثبت هذا فإن ثناء الشافعي وشيخ الإسلام على مغازي موسى بن عقبة باق على أصله، وهم إنما يعنون بذلك الأكثر من أقواله لا كل قول يقوله، إذ ليس مراد من أثنى عليه بالصحة أن كل قول يقوله يكون صحيحًا وما خالفه فيه غيره يكون باطلاً؛ لأن "أصح" من أفعل التفضيل الدالة على المشاركة والزيادة، فقد يكون في أقوال المفضول ما هو أصح من الفاضل كما في الحديث: «خَيْرُ الْقٌرُونِ قَرْنِى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»[168] فإن هذا وأمثاله يعد من تفضيل الجملة، وهي لا تقتضي تفضيل كل فرد على كل فرد، إذ من المعلوم أنه قد وجد في قرن النبي ﷺ بل وفي بلده النفاق والمنافقون قال تعالى: ﴿وَمِمَّنۡ حَوۡلَكُم مِّنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مُنَٰفِقُونَۖ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ [التوبة: 101]. فهذا النفاق قد وجد في خير القرون ولا ينتقض به قاعدة تفضيل قرنه على سائر القرون.

* * *

[168] أخرجه البخاري من حديث عمران بن حصين بلفظ: «خيركم قرني...».