الفصل الثامن
قال في النقض ص45 و46: صادف تحويل النبي ﷺ للمقام يوم الفتح وكلٌّ مشغول بنفسه والناس ما بين قاتل ومقتول، ولم يكن للمقام إذ ذاك كبير أهمية؛ لأنه لم ينزل فيه بعد قرآن ولم يشرع اتخاذه مصلى ولم يشتهر أمره شهرة تلفت أنظار الناس إليه. قال: ومبادرته ﷺ إلى ذلك في تلك الحالة مع اشتغاله بأمر الفتح وتدبير أمر الناس وقتل من أمر بقتله مما يدل على العناية وعظيم الاهتمام بأمر المقام، وأن هذا الشيء قد أمر به؛ لأنه ﷺ لا يفعل شيئًا من التشريع إلا بأمر الله. انتهى.
فالجواب أن نقول: إن صاحب النقض قد بالغ في نسبة النقل للمقام إلى النبي ﷺ بأقوال كلها متناقضة وحجج ساقطة عارية عن الدليل غارقة في التحريف والتبديل، لا تقيم له حجة ولا توضح له محجة، ولكن ديدن الحائر المبهوت أن يتمسك بما هو أوهى من سلك العنكبوت، أشبه من يحاول اقتباس ضوئه من نار الحباحب والتماس ريه من السراب الكاذب، ولن يخر فريسة لتعاليمه السخيفة سوي همجي رعريع قليل العلم والمعرفة بحقائق العلوم النافعة، وكأنه بهذا التهور وفساد التصور يوهمنا أن النبي ﷺ دخل مكة عام الفتح على حين غفلة من أهلها، فعمد حال وصوله في هيئة السرار والخفا إلى المقام فنقله من لصق الكعبة إلى موضعه الآن بدون أن يعلم بذلك أحد من أصحابه، وإنما استباح القول بهذا من أجل أنه أوحش أمامه الطريق وعدم الصاحب والرفيق ممن يتبلغ به إلى محل التحقيق، لعلمه أن هذا العمل وهذا التصرف لم يثبت عن رسول الله ﷺ لا في حديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف، ولم يثبت القول به عن أحد من أصحابه، ولم يذكر في شيء من كتب الصحاح ولا السنن ولا المسانيد ولا في شيء من السير المعتبرة كسيرة ابن إسحاق وابن هشام وابن سعد، ولا في تاريخ ابن جرير ولا ابن الأثير ولا في زاد المعاد لابن القيم ولا في شيء من الكتب المعتبرة ما عدا أن ابن كثير نسب القول به في البداية والنهاية إلى موسى بن عقبة ورده في التفسير وقال: إنما أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أحد الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة. انتهى.
ومن المعلوم بالنقل وبديهة العقل أنه لو وقع هذا التصرف وهذا التحويل من رسول الله ﷺ لنقل نقلاً متواترًا ترتفع به الجهالة والشك لكون المقام في المسجد الحرام، وهو من الشيء الذي يهتم بأمره ولا يستهان بذكره، فعدم نقلهم لتحويله هو من الدليل الواضح على عدم وقوعه، كيف وقد أحاط برسول الله ﷺ عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار، ومن سوى أهل مكة وكلهم محدقون برسول الله ﷺ يقومون لقيامه ويقعدون لقعوده، قد شخصوا أبصارهم وصرفوا جل عقولهم واهتمامهم لحفظ ما يقوله ويفعله، أفيخفى على أمثال هؤلاء تحويله للمقام لو وقع منه؟! حتى لم ينسب القول به عن واحد منهم؟! إن هذا يعد من المحال ومن القول الباطل الشاذ، وهذا القول يشبه من يقول: إن الرسول أوصى بالخلافة لعلي بدون أن يعلم بذلك أحد من أصحابه، فهذا وأمثاله مما يعلم بطلانه بالنص، وفي مسودة آل تيمية ذكر القاضي أن الخبر يُرد من جهة المخبر بخمسة أمور:
الأول: أن يخالف موجبات العقول.
الثاني: أن يخالف الكتاب والسنة المتواترة.
الثالث: أن يخالف الإجماع.
الرابع: أن يروي ما يجب على الكافة علمهم به.
الخامس: أن ينفرد بما جرت العادة بنقله.
وهذا التحويل لو وقع من النبي ﷺ لوجب على كافة الصحابة علمهم به؛ لأنه من الشيء الذي يهتم بذكره وتتوفر الهمم والدواعي على نقله، ولم تكن في العادة ولا في الشرع ترك مثله حتى لو انفرد بالقول به واحد منهم لشككنا في صحته، ولو كان صحيحًا عن موسى بن عقبة لم تقم به حجة لكونه شاذًّا خلاف ما رواه الثقات الأثبات وخلاف ما يجب على الكافة علمهم به، فدعواه بأن النبي ﷺ بادر بنقله والناس مشتغلون عنه بالقتل والقتال، فهذا وأمثاله من أبطل الباطل وأمحل المحال، فإن أصحاب رسول الله لم يشتغلوا عن متابعته ولا مراقبته بأهل ولا مال ولا قتل ولا قتال، وأمر الفتح هو من الشيء المشهور الذي أشرقت شمس معرفته على جميع الناس حتى عرفه منهم العام والخاص، فكل عالم ومتعلم ومجالس، حتى الغلمان في المدارس يعرفون بأنه لم يقع بين رسول الله ﷺ وبين قريش قتل ولا قتال، وإنما دخلها في حالة أمن واطمئنان وفرح وابتهاج ودخول الناس في الدين أفواجًا أفواجًا.
وملخصها أن رسول الله ﷺ خرج من المدينة لعشر مضين من رمضان عام ثمانية من الهجرة ومعه عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وسائر من أسلم من قبائل العرب، فسار رسول الله ﷺ في الجيش حتى إذا انتهى إلى ذي طوى وعرف من هناك أن قريشًا قد أعطت له بالطاعة، وأنها لن تقاومه انحنى لله شاكرًا أن فتح الله عليه مهبط وحيه ومقر بيته ليدخله وجميع المسلمين آمنين مطمئنين، وقد استعمل رسول الله ﷺ سائر وسائل الحزم ففرق الجيش إلى أربع فرق وأمرها جميعًا بألّا تقاتل ولا تسفك دمًا إلا إذا أكرهت عليه إكراهًا واضطرت إليه اضطرارًا، فلم يلق أحد من الفرق الأربع مقاومة ما عدا جيش خالد بن الوليد فقد كمن له في أسفل مكة أشد قريش عداوة لرسول الله ﷺ، وهم صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل، فلما دخلت فرقة خالد إلى مكان يسمى الخندمة أمطروهم بنبالهم فناوشهم المسلمون شيئًا من القتال، ثم ولّوا مدبرين فقتل من المسلمين رجلان وقتل من المشركين ثلاثة عشر رجلاً ثم انهزموا، وفي الحديث قصة، وذلك أن رجلاً يدعى حماس بن قيس كان يحد حرابه قبل قدوم النبي ﷺ فقالت له امرأته: ما تصنع بهذا السلاح؟ فقال: لمحمد وأصحابه، وإني أرجو أن أخدمك بعضهم.فقالت: والله إني ما أرى أن يقوم لمحمد وأصحابه شيء. ثم أخذ ينشد:
إن يقبلوا اليوم فمالي عله
هذا سلاح كامل وألَّه
وذو غرارين سريع السِّله
ثم إنه شهد الخندمة مع صفوان وسهيل وعكرمة فلما غشيهم خالد ومن معه انهزم حماس حتى دخل بيته مذعورًا وقال لامرأته: أغلقي علي الباب. فقالت: أين ما كنت تقول؟! فأنشد:
إنك لو شهدت يوم الخندمهْ
إذ فر صفوان وفر عكرمهْ
واستقبلتنا بالسيوف المسلمهْ
يقطعن كل ساعد وجمجمهْ
لهم نَهِيتٌ خلفنا وهمهمهْ
لم تنطقي في اللوم أدنى كلمهْ
ثم إنها اجتمعت الفرق الأربع برسول الله ﷺ وهو بالحجون وبسط رداء الأمن على جميع الناس ما عدا ستة أشخاص، ثم إن رسول الله ﷺ نهض متوجهًا إلى البيت والمهاجرون والأنصار من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، فطاف بالبيت سبعًا على راحلته يستلم الركن بمحجن معه ويقبل المحجن، ثم دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له فدخلها ثم أغلق باب الكعبة عليه ومعه أسامة وبلال وعثمان بن طلحة وقد امتلأ المسجد بالناس صفوفًا ينظرون ماذا يصنع رسول الله ﷺ، قال ابن سعد: ثم خرج من الكعبة وجاء إلى المقام وهو لاصق بالكعبة فصلى خلفه ركعتين ثم قال: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَا تُرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ فِيكُمْ؟» قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم. قال: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطُّلَقَاءُ»[164]. فهذا ملخص القصة وقد استقصى جميع الصحابة والتابعين والعلماء المعتبرين سائر تصرفات رسول الله ﷺ في الفتح، فحفظوا دخوله مكة بغير إحرام وعليه عمامة سوداء، وأنه طاف على بعير ليسمعوا كلامه ويروا مكانه ولا تناله أيديهم، وحفظوا دخوله الكعبة ومعه بلال وأسامة وعثمان، وحفظوا أذان بلال فوق الكعبة وتواجد قريش عليه حين سمعوه، وحفظوا أخذه لمفاتيح الكعبة من عثمان بن طلحة ووقوع المحاورة بينه وبين زوجته حيث امتنعت عن دفع المفاتيح خشية ألّا يردها عليهم، وحفظوا طلب علي رضي الله عنه من النبي ﷺ في أن يجمع له بين السقاية والحجابة فامتنع عليه ورد المفاتيح إلى عثمان وقال: «الْيَوْمُ يَوْمُ وَفَاءٍ وَبِرٍّ»[165]. وحفظوا تكسيره للأصنام حتى الحمامة من العيدان، وحفظوا إتيانه بيت أم هانئ وصلاته عندها وذلك ضحى، وشكواها أخاها حيث أراد قتل رجلين من أحمائها قد أجارتهما وقول النبي ﷺ لها: «قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ»[166]. وحفظوا إتيان أبي بكر بأبيه أبي قحافة ورأسه كالثغامة بياضًا، وقول النبي ﷺ: «غَيِّرُوهُ بِشَيْءٍ، وَجَنِّبُوهُ السَّوَاد»[167]. إلى غير ذلك من تصرفاته، ولم يقع في شيء من الصحاح ولا السنن ولا المسانيد ولا السير المعتبرة كسيرة ابن إسحاق و ابن هشام و الواقدي وغيرها أن رسول الله نقل المقام عام الفتح مع العلم أنه في المسجد الحرام، ولو وقع منه في تلك الحال لنقل نقلاً متواترًا ترتفع به الجهالة والإشكال لكونه من الشيء الذي لا يستهان بذكره، فعدم نقلهم له يدل على عدم تحويله لكون الأمور العدمية لا يتحدث بها الناس وإنما يتحدثون بالأمور الوجودية.
[164] سيرة ابن هشام 2/412. [165] ورد هذا الحديث في المعجم الكبير للطبراني من حديث سراقة وفي مصنف عبد الرزاق من حديث ابن أبي مليكة «لا ينتزعه منكم إلا ظالم». [166] أخرجه البخاري ومسلم من حديث أم هانئ. [167] أخرجه أبو يعلى والطبراني في الأوسط من حديث جابر.