متقدم

فهرس الكتاب

 

الفصل السابع

قال في النقض ص183 في صفة حج النبي ﷺ: قال جابر: طاف رسول الله ﷺ ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فجعل المقام بينه وبين القبلة وصلى ركعتين. قال: وهذا تشريع منه لأمته وبيان لما أنزل إليه من ربه وتعيين منه للمصلى الذي أمره الله باتخاذه من مقام إبراهيم، وهذا توقيف ليس لأحد تغييره، وهذا التعيين يقتضي أن المصلى لا ينتقل عن المكان بنقل المقام عن مكانه، فلو أزيل حجر المقام عن مكانه فحكم المصلى الذي عينه باق ولا يقوم غيره من المواضع مقامه، وقد ذهب غير واحد من السلف إلى أن المقام المأمور باتخاذه مصلى هو المصلى الذي خلف المقام ورجح هذا القول أبو جعفر محمد بن جرير.

فالجواب أن نقول:
أعوذ برب الناس من كل طاعن
علينا بسوء أو ملح بباطل
ومن كاشح يسعى لنا بمعيبة
ومن ملحق في الدين ما لم نحاول
إن صاحب النقض قد سار في نقضه على سنة سيئة من أمره، وذلك بأن يأخذ من الأقوال الضعيفة والموضوعة ما يوافق مذاقه ويجعلها قضايا مسلمة وأصولاً معتمدة غير قابلة للمناقشة، ويلتمس الدلائل الضعيفة لإثباتها وإبطال ما خالفها ولو بالكذب والاحتيال والتأويل والاحتمال.

من ذلك قوله: إن تحويل المقام من لصق الكعبة إلى موضعه الآن هو من فعل رسول الله ﷺ وإن استدامة بقائه في موضعه الحالي هو من الشرع اللازم والحكم التوقيفي، وإن مقام رسول الله ﷺ في نفس المقام هو المأمور بأن يتخذ منه مصلى دون غيره، وإن هذا التعيين يقتضي أن المصلى لا ينتقل عنه إلى غيره بنقل المقام عن مكانه، ولا يقوم غيره من المواضع مقامه، ثم يدعي صحة هذا القول ورجحانه بنسبته بصريح الكذب إلى ابن جرير وغيره وهو بريء منه.
تراه مُعدًّا للخلاف كأنه
بِرَدٍّ على أهل الصواب موكل
فالعاقل البصير والعالم النحرير يجب أن يكون مستقل الرأي والتفكير وألَّا ينخدع بما يدعي صحته من هذا القبيل لقصد التهويل والتضليل، فإن غالب ما يدعي صحته لا صحة له أصلاً لا في حديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف فضلاً عن نفي الخلاف فيه فقد أجمع العلماء على أنه ليس لسنة الطواف مكان محدود، فمن ذا الذي قال من العلماء أن مكان سنة الطواف هي موضع أقدام رسول الله من المقام دون غيره؟! وأنه لو صلى في غير هذا المكان لم تصح صلاته؟! ثم ينسب ترجيح القول بهذا إلى إمام المفسرين محمد بن جرير وهو بريء منه، بل ولم يسبق صاحب النقض أحد إلى القول به فيما علمنا لا ابن جرير ولا غيره، وإنني أهيب بعلماء المسلمين إلى مراجعة تفسير ابن جرير وهل يجدون فيه صحة ما يدعيه؟!

نعم، إن ابن جرير حينما ساق في التفسير أقوال علماء السلف في تعيين المقام النازل في شأنه القرآن وأن منهم من قال: إنه الحج كله، ومنهم من قال: إنه عرفة ومزدلفة ورمي الجمار، ومنهم من قال: إنه الحرم، ومنهم من قال: إن الحجر المعروف بهذا الاسم الذي هو في المسجد الحرام.

قال: وأولى الأقوال بالصواب عندنا ما قاله القائلون: إن مقام إبراهيم هو المقام المعروف بهذا الاسم الذي هو في المسجد الحرام. قال: ولا شك أن المعروف في الناس بمقام إبراهيم هو المصلى الذي قال الله جل ذكره: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى [البقرة: 125]، فقال بعضهم: هو المدعى. وقال آخرون: تصلون عنده. أي: اتخذوا أيها الناس من مقام إبراهيم مصلى تصلون عنده عبادة منكم لي وتكرمة مني لإبراهيم. انتهى.

فقد عرفت كيف أعرض عن تصويب ابن جرير في المقام وأنه المعروف بهذا الاسم في المسجد الحرام ثم أخذ قوله: إن المعروف في الناس بمقام إبراهيم هو المصلى، ولا شك أن تصحيحه للمقام شيء وحكايته عن عرف الناس شيء آخر ولا تلازم بينهما، وإلا فمن المعلوم أن هذه التسمية جارية في عرف الناس حتى الآن فتراه يقول: صليت في مقام إبراهيم، ورأيته يصلي في مقام إبراهيم. يعنون بذلك الحوض المحوط؛ لأن ما جاور الشيء أعطي حكمه واقتبس من اسمه، أشبه البيت فإنه يراد به نفس المسجد وفيه الكعبة ويطلق ويراد به حدود الحرم كما في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى ٱلۡبَيۡتِ ٱلۡعَتِيقِ [الحج: 33] يعني: حدود الحرم، إذ من المعلوم أن البدن لا تنحر في الكعبة ولا في المسجد. وصاحب النقض أخذ حكاية ابن جرير عن عرف الناس وترك تصحيحه للمقام، وأنه المعروف بهذا الاسم في المسجد الحرام لقصد التدليس والإيهام والتلبيس على الأذهان، قال تعالى: ﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَلۡبِسُونَ ٱلۡحَقَّ بِٱلۡبَٰطِلِ وَتَكۡتُمُونَ ٱلۡحَقَّ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٧١ [آل‌عمران: 71] فلبس الحق بالباطل هو تغطيته به بحيث يظهر للناس أنه حق وهو في الحقيقة باطل، وهذا اللبس مستلزم للكتمان فإنه من لبس الحق بالباطل فلا بد أن يكتم من الحق ما يناقض ذلك الباطل لعلمه أنه إذا اتضح الحق افتضح الباطل وإن لم يكتمه لم يتم مقصوده، ثم إن من لوازم هذا القول أن صلاة أصحاب النبي ﷺ حين انتشروا في المسجد الحرام يصلي كل منهم سنة الطواف وبعضهم أبعد عن موقف رسول الله ﷺ بمائة ذراع أو أكثر، أن صلاتهم هذه تذهب عليهم سدى لفسادها، حيث لم تقع منهم في الموقع المأمور به فهم عاصون بفعلها لم يمتثلوا أمر الله فيها، حيث لم يقفوا موقف رسول الله من المقام، هذا معنى صريح لفظه ومقتضاه:
إذا غلب الشقاء على سفيه
تنطع في مخالفة الفقيه
ولا شك أن هذا واضح البطلان بإجماع علماء الإسلام، فقد انعقد الإجماع على أنه ليس لهذه الصلاة مكان محدود، إلا أن الناس يحبون الاقتراب من المقام لسنة الطواف لما يجدوا في نفوسهم من محبة رسول الله ﷺ والحرص على الاقتداء بآثاره، والله سبحانه أمر بأن يتخذ من مقام إبراهيم مصلى، أي عنده، وعند الشيء ما أحاط به من جوانبه نظيره قوله تعالى: ﴿فَإِذَآ أَفَضۡتُم مِّنۡ عَرَفَٰتٖ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلۡمَشۡعَرِ ٱلۡحَرَامِ [البقرة: 198] إذ ليس المراد بالذكر عند المشعر الحرام أنه نفس الجبل أو موقف رسول الله منه، بل المراد ما هو أوسع من ذلك وأفسح، فلو ذكر الله تلك الليلة في أقصى بقعة من صحراء مزدلفة لصدق عليه أنه امتثل أمر الله في الذكر عند المشعر الحرام، وكذلك إذا صلى في أقصى بقعة من المسجد الحرام صدق عليه أنه قد اتخذ من مقام إبراهيم مصلى، لكون الصلاة لله رب العالمين وليست لمقام إبراهيم، وهذا هو التشريع الشرعي المنطبق على قول الرسول وفعل الرسول وإقراره، وهذا واضح جلي لا مجال للشك فيه، ولكن هذا الرجل يتهمه الناس بالشذوذ في آرائه والطفور في أفكاره، وقد صارت هذه التهمة يقينية ظهرت على فلتات لسانه وصفحات كتابه ﴿وَٱللَّهُ يَدۡعُوٓاْ إِلَىٰ دَارِ ٱلسَّلَٰمِ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ ٢٥ [يونس: 25].

* * *