الفصل السادس
وأما قوله: إنه لا يسوغ لأحد من الناس أن يفتي بنقل المقام عن موضعه ولا التصرف فيه بأي نوع من أنواع التصرف.
فالجواب: إن هذا الخطاب يعد من رموز الجهالة والحمق، فكأنه بهذا الكلام أقام نفسه مقام المشرع العام وحاكمًا على جميع العلماء والحكام، وإلا فكيف يحرم على جميع علماء الإسلام على سبيل الجزم والإلزام الاجتهاد في الفتوى في شأن تحويل المقام؟! يريد بذلك غلق باب الاجتهاد في النوازل وعدم استنباط الحق بالبراهين والدلائل، حتى يتم له مقصوده في نصر رأيه وإعلاء كلمته، ثم إنه يتناقض من حيث لا يشعر، فتراه ينحي بالملام وتوجيه المذام على صاحب رسالة المقام ويقول: إن هذه القضية لو وقعت زمن عمر بن الخطاب لجمع لها المهاجرين والأنصار واستشارهم فيها. ثم هو يضرب بمقالته هذه عرض الجدار ويقدم على تحريم الإفتاء بالتحويل بدون مشورة ولا مستشار، وأكبر من هذا وأنكر، دعواه أن تحويل المقام عن موضعه إلى محل قريب منه إلحاد في الدين وتغيير لشعائره:
ألا تسألان المرء ماذا يحاول
أنحب فيقضى أم ضلال وباطل
إنه لو كان معتدلاً في رأيه، منصفًا في قوله لساق ما لديه مما أدى إليه فهمه ووصل إليه علمه ثم ترك الباب للاجتهاد مفتوحًا والمجال مفسوحًا، إذ قد يحفظ الإنسان شيئًا وتضيع عنه أشياء، فقد أصابت امرأة وأخطأ عمر:
وكم من عائب قولاً صحيحًا
وآفته من الفهم السقيم
والحاصل أن هذا التشدد والتشدق إنما نشأ من حرج الصدر وضيق العطن عن سعة العلم بأحكام هذه الشريعة السمحة وما اشتملت عليه من جلب المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها، وهذا التصرف بنقل المقام عن محله إلى محل قريب منه لتوسعة المطاف للناس ليتمكنوا من أداء هذا الركن، أي الطواف بالبيت بتمام وبخشوع وخضوع واطمئنان؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب - يعد من المصالح المرسلة الملائمة لمقاصد الشرع ومحاسنه بحيث لا ينافي أصلاً من أصوله ولا دليلاً من أدلته.
وهذا التصرف إنما تظهر مصلحته وعموم منفعته من بعد تمهيده في محله عند طرف المطاف بعد توسعته أشبه توسيع المسجد الحرام وأشبه توسيع المسجد النبوي على السواء، بل إن المسجد الحرام والمسجد النبوي هما أفضل من حجر المقام، فالقائل بتحريم تحويل المقام يلزمه أن يقول بتحريم توسعة المسجد الحرام وبتحريم التصرف في المسجد النبوي؛ لأن هذا من لوازم قوله.
فدعواه بأن هذا التصرف إلحاد في الدين وتغيير لشعائره كله من الكذب على الله وعلى دينه وعباده المؤمنين، فمن لوازم هذا القول أن عمر بن الخطاب في تحويله المقام من لصق الكعبة إلى موضعه الآن - ملحد في الدين مغير لشعائره، وأن الصحابة الذين أجمعوا على استحسان فعله أنهم مثله؟! ﴿كَبُرَتۡ كَلِمَةٗ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبٗا﴾ [الكهف: 5] فهو كما قيل: رمتني بدائها وانسلت. فقد ألحق بالدين ما لم يأذن به الله حيث جعل حجر المقام من مشاعر الحج المحتمة وشرائع الإسلام اللازمة والله سبحانه لم يتعبد الناس بشيء من شأن هذا الحجر، وإنما تعبدهم بالصلاة حوله وحول الشيء ما حاط به من جوانبه ولو غير ملاصق له أو قريب منه، وهذا الرجل يتقلب مع الأهواء ويخبط خبط العشواء، أحيانًا يسمي حجر المقام بمشاعر الحج المحتمة ومناسكه الهامة، وأحيانًا يسميه بالشرع اللازم والحكم التوقيفي، لكونه لا يعرف التفريق بين مشاعر الحج وغيرها ولا بين الشرائع وغير الشرائع، فإن مشاعر الحج اللازمة هي أعماله، مثل الإحرام والطواف والسعي والوقوف بعرفة ومزدلفة فهذه لا تتغير عن مشروعيتها بتغير الزمان والمكان فلا يجوز تحويلها ولا تبديلها ولا النظر في أمر خالفها بحال، فتغييرها هو أن يقول بإسقاط الإحرام أو إسقاط الطواف أو السعي بين الصفا والمروة أو بعدم الوقوف بعرفة ومزدلفة أو أن يوقع الحج في غير أشهره ونحو ذلك، أما تغيير الشرائع فهو أن يقول بإسقاط الصلاة أو الزكاة أو الصيام، أو أن يجعل صلاة الظهر ركعتين أو أن يستبيح الإفتاء بالفطر في رمضان من غير عذر، أو أن يبدل رمضان بغيره من الأشهر، فهذا هو التغيير الحقيقي لشرائع الإسلام ومشاعر الحج، ولم يحم أحد حول القول به نعوذ بالله من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء.
* * *