الفصل الخامس
وأما قوله: إن هذا هو موضعه في عهد إبراهيم الخليل عليه السلام، وينسب القول بذلك إلى ابن أبي مليكة وإلى مالك بن أنس فهو كاذب على ابن أبي مليكة في عزوه إليه فلم يقع من ابن أبي مليكة ذكر لإبراهيم في خبره حتى فيما رواه عنه بنفسه، وهذا نص لفظه المصرح به في نقضه: روى الأزرقي: حدثني جدي قال: حدثنا عبد الجبار بن الورد قال: سمعت ابن أبي مليكة يقول: موضع المقام هذا الذي هو به اليوم هو موضعه في الجاهلية وفي عهد النبي ﷺ وأبي بكر وعمر إلا أن السيل ذهب به في خلافة عمر فجعل في وجه الكعبة حتى قدم عمر فرده بمحضر الناس. انتهى. وقد أخذ ذلك النووي فساقه بلفظه، فقد عرفت كيف حرف الكلم عن موضعه فقلب الجاهلية باسم إبراهيم ونسب القول بصحة ذلك إلى ابن أبي مليكة، ومعلوم أن زمن إبراهيم زمن نبوة ليس بزمن جاهلية، وأن أكثر الأنبياء من ذريته كلما مضى نبي خلفه نبي بعده كما قال تعالى: ﴿وَتِلۡكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيۡنَٰهَآ إِبۡرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦۚ نَرۡفَعُ دَرَجَٰتٖ مَّن نَّشَآءُۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٞ ٨٣ وَوَهَبۡنَا لَهُۥٓ إِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَۚ كُلًّا هَدَيۡنَاۚ وَنُوحًا هَدَيۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَمِن ذُرِّيَّتِهِۦ دَاوُۥدَ وَسُلَيۡمَٰنَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَٰرُونَۚ وَكَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ ٨٤ وَزَكَرِيَّا وَيَحۡيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلۡيَاسَۖ كُلّٞ مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ ٨٥ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَٱلۡيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطٗاۚ وَكُلّٗا فَضَّلۡنَا عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ ٨٦﴾ [الأنعام: 83-86].
فهؤلاء كلهم من ذرية إبراهيم الخليل عليه السلام وخبر ابن أبي مليكة هذا ليس لإبراهيم فيه ذكر ولا يمت له بصلة، وإنما أكثر من ذكره والقول بصحته لقصد الترويج به، وهكذا الأمر في كل مسألة يتبع صاحبها فيها الهوى أولا، ثم يطلب لها المخرج من كلام ينسبه إلى العلماء أو من أدلة ينسبها إلى الشرع وهي غير صريحة في المعنى، ومَنْ هذا شأنه جدير بأن يزيغ فهمه ويزل قدمه، وواجب المؤمن أن يكون عند الحق بلا خلق، وعند الخلق بلا هوى.
أما الجاهلية فإنها إنما نشأت زمن الفترة فيما بعد عيسى عليه السلام، وهي زمن عمرو بن لحي الذي سيَّب السوائب وغيّر دين إبراهيم، وقد زالت هذه الجاهلية ببعثة محمد ﷺ، أما المقام فقد كان في زمان الجاهلية في لصق الكعبة حتى باعتراف صاحب النقض نفسه كما روى الأزرقي في أخبار مكة عن نوفل بن معاوية الديلي قال: رأيت المقام في عهد المطلب ملصقًا بالبيت مثل المهاة. وكذلك ما رواه الإمام مالك بن أنس في المدونة قال: بلغني أن عمر بن الخطاب لما ولي وحج ودخل مكة أخر المقام إلى موضعه الذي هو فيه اليوم، وقد كان ملصقًا بالبيت في عهد النبي ﷺ وعهد أبي بكر وقبل ذلك وكانوا قدموه في الجاهلية مخافة أن يذهب به السيل، فلما ولي عمر أخرج أخيوطة كانت في خزانة الكعبة قد كانوا قاسوا بها ما بين موضعه وبين البيت إذ قدموه مخافة السيل فقاسه عمر فأخرجه إلى موضعه اليوم فهذا موضعه الذي كان فيه في الجاهلية وعلى عهد إبراهيم. انتهى.
فهذا قول مالك وفيه ارتباك وهو من الشيء الذي لا نجزم بصحته حيث لم يروه عن رسول الله ﷺ، ولا عن أحد من أصحابه وعلى فرض صحته فإنه حجة عليه لا له؛ لأن فيه إبطالاً لما يدعيه في نقضه، فقد نفى أشد النفي تحويل النبي ﷺ للمقام زمن الفتح، كما ينفي وقوعه من أبي بكر ويثبت تحويل عمر له إلى موضعه الآن ابتداء من غير سبق، كما أن خبر ابن أبي مليكة أيضًا ينفي بقاء المقام في لصق الكعبة يومًا من الدهر، حتى ولا في زمن الجاهلية كما ينفي تحويل النبي ﷺ للمقام كما ينفي تحويله أيضًا من عمر لدعواه باستمرار بقاء المقام في موضعه الآن زمن الجاهلية وزمن النبي ﷺ وزمن أبي بكر وعمر بدون استثناء ما عدا ذهاب السيل به ثم رد عمر له إلى موضعه، وهذا لا شك أنه معلوم البطلان وبطلانه لا يحتاج إلى مزيد بيان حتى عند صاحب النقض، وهذه النقول التاريخية يأتي الناس فيها بالغث والسمين والصحيح والسقيم، ويختلف نقل الناس للحوادث التاريخية من قريب فما بالك من بعيد كما قيل:
لا تقبلن من التوارخ كلما
جمع الرواة وخط كل بنان
وإنني لأعجب أشد العجب من كثرة احتجاجه بخبر ابن أبي مليكة، وهو لا يؤمن بموجبه ولا يمت إلى صحة ما يدعيه بصلة، أما خبر الإمام مالك ففيه أن الجاهلية قدمت المقام إلى لصق الكعبة خيفة السيل عليه وأن عمر أخرجه إلى موضعه اليوم فهذا موضعه الذي كان فيه في الجاهلية وعلى عهد إبراهيم. انتهى.
ومعلوم أن بين مالك وبين إبراهيم الخليل عدد ألوف من السنين تحتاج إلى ألوف من الرواة. وهذه الأمور التاريخية كأخبار الحوادث والأمم الماضية لا يزال يتحدث بها الناس فيما بينهم على سبيل الفكاهة والتسلية بدون تدقيق ولا تحقيق ولا تكذيب ولا تصديق، لعلمهم أن هذه الأخبار لا تتعلق بالعقائد والأحكام ولا أمور الحلال والحرام، وقد روى عثمان بن سليمان - عند الفاكهي - عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ما يخالف قول مالك ولفظه: فلما بلغ - أي إبراهيم- الموضع الذي فيه الركن وضعه يومئذ موضعه وأخذ المقام فجعله لاصقًا بالبيت. وقوله أقرب إلى الصحة والصراحة من قول مالك لاحتمال أن يكون سمعه من النبي ﷺ، ومع هذا فإننا لا نحكم بصحة ما قاله ابن عباس وبطلان ما قاله مالك ولا بضد ذلك، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن أخبار الأمم الماضية كبني إسرائيل وغيرهم: إن هذه الأمور طريقة العلم بها هي النقل، فما كان منها نقلاً صحيحًا عن النبي ﷺ قبل، فإن نقل عن أهل الكتاب ككعب ووهب وقف عن تصديقه وتكذيبه، وكذا ما نقل عن بعض التابعين وإن لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب فإننا لا نصدقه ولا نكذبه، ومتى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض، وما نقل عن الصحابة نقلاً صحيحًا فالنفس إليه أسكن مما ينقل عن التابعين لاحتمال أن يكون سمعه الصحابي من رسول الله ﷺ أو من بعض من سمعه منه ولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين. انتهى.
فقد عرفت أنه لم يجزم بصحة ما رواه الصحابي عن أهل الكتاب، وإنما قال: النفس إليه أسكن، فما بالك بهذا الخبر الذي ألقاه مالك بدون سند إلى أحد ثم ألصق صاحب النقض القول بصحته إلى ابن أبي مليكة كذبًا عليه بدون أن يجده معزوًّا إليه ثم بالغ في نصره وتأييده ورفعه وتشييده وبنى أصول كتابه عليه فتراه يذهب عنه ثم يعود إليه، وهب أن إبراهيم الخليل عليه السلام بعد فراغه من بناء البيت الحرام وضع هذا الحجر في موضعه الآن، أفيكون وضعه له من الشرع اللازم والحكم الدائم الذي لا يجوز تغييره ولا تحويله؟ ولا النظر في أمر خالفه أشبه قواعد البيت الذي بوأه الله له وأمره أن يبنيه في محله، إن هذا من الشيء الذي لا نقول بصحته لعدم ما يدل عليه: ﴿تِلۡكَ أُمَّةٞ قَدۡ خَلَتۡۖ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَلَكُم مَّا كَسَبۡتُمۡۖ وَلَا تُسَۡٔلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ١٣٤﴾ [البقرة: 134].