متقدم

فهرس الكتاب

 

الفصل الرابع

وأما قوله: إن النبي ﷺ قد وضع المقام في موضعه هذا وهو موضعه في عهد إبراهيم عليه السلام.

فالجواب: أما وضع النبي ﷺ للمقام في موضعه الآن فلم يثبت ذلك لا بحديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف، بل ولم يثبت القول به عن أحد من أصحابه، والصحيح الثابت أنه من فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان زمن النبي ﷺ ملصقًا بالكعبة، وصلى النبي ﷺ عنده في عمرة القضاء وفي الفتح وفي حجة الوداع، وتوفي رسول الله وهو على حالته ملصقًا بالكعبة، ثم كان الأمر كذلك زمن أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر، فلما اتسعت فتوح الإسلام وكثر الوافدون إلى حج بيت الله الحرام من جميع البلدان، ورأى عمر أن المصلين عند المقام يعرقلون سير الطائفين بالبيت الحرام، كما أن الطائفين يؤذون المصلين بوطئهم بالأقدام، فمن أجل شدة الزحام اقتضى رأيه أن ينقل المقام من لصق الكعبة إلى موضعه الآن، ووافقه على هذا الرأي جميع الصحابة الكرام، حتى لم ينكر ذلك عليه منهم إنسان فجعله على حد المطاف بقدر ما يسع الناس في ذلك الزمان، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: كان عمر يرى أن إبقاء المقام في لصق الكعبة يلزم منه التضييق على الطائفين وعلى المصلين، فوضعه في مكان يرتفع به الحرج وتهيأ له ذلك؛ لأنه الذي كان أشار باتخاذه مصلى ولم تنكر الصحابة فعله ولا من جاء بعدهم فصار إجماعًا. انتهى.

وهذا التصرف الحاصل من عمر في نقله المقام من لصق الكعبة إلى موضعه الآن يعد من المصالح المرسلة الملائمة لمقاصد الشرع ومحاسنه بحيث لا تنافي أصلاً من أصوله ولا دليلاً من أدلته؛ لأن هذا التصرف يرجع إلى راحة الطائفين بالبيت الحرام وحفظ حياتهم من ضرورة الزحام والسقوط تحت الأقدام، ثم التمكن من الإتيان بركن الحج على التمام بخشوع وخضوع واطمئنان، فهو من الأمور الجزئية التي تتمشى على حسب الحاجة والمصلحة وتختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة أشبه توسيع المسجد الحرام عندما تدعو الحاجة إلى توسعته، وكان زمن النبي ﷺ شبه الصحراء ليس له جدران ولا سقوف ولا أبواب، فجرى التصرف من عمر بعد النبي ﷺ بتوسعته وجعل له جدرانًا تحيط به، ونقل المقام من لصق الكعبة ووضعه موضعه، وكما جرى له التصرف أيضًا في المسجد النبوي الذي بناه رسول الله بيده فدعت الضرورة والمصلحة إلى هدمه لتوسعته، فهو أول من وسع المسجد الحرام والمسجد النبوي، وقد عد العلماء هذا التصرف من العمل المبرور والسعي المشكور، فالقائل بتحريم نقل المقام عن محله ولزوم بقائه على حالة ما كان عليه زمن النبي ﷺ يلزمه أن يقول بوجوب استدامة بقاء المسجد الحرام على حالة ما كان عليه زمن النبي ﷺ، وأن يقول بتحريم التصرف بتوسعته وتغييره عن حالته سواء كان ذلك من عمر أو غيره، ويلزمه أن يقول بتحريم التصرف في المسجد النبوي الذي بناه رسول الله ﷺ بيده إذ هذا كله من لوازم قوله.

ومن المعلوم أن المسجد الحرام والمسجد النبوي هما أعظم حرمة من حجر المقام، وقد جاءت هذه الشريعة السمحة بجلب المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها، ومن قواعدها المعتبرة أنه إذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير، والحرج منفي عن الدين، فمتى تبين لعلماء الإسلام والعارفين بالنصوص والأحكام أن في نقل المقام عن محله إلى محل قريب منه مصلحة راجحة ودرء مفسدة واضحة فثم شرع الله ودينه، إذ ليس بين أيدينا ما يحرمه والحكم يدور مع علته، وقد سبق العمل من الصحابة بمثله، فهؤلاء الذين أفتوا بنقل المقام عن محله إلى محل قريب منه عندما تدعو الحاجة إليه، نرى أنهم أبعد الناس عن الملام وأولى بالثناء العام؛ لأنهم لم يتجانفوا في فتواهم لإثم ولا تغيير شرع ولا حكم بل هم أقرب إلى الصواب والعدل من القائل بالتحريم بدون نص ولا قياس ولا قول صاحب ولا دليل: ﴿ٱئۡتُونِي بِكِتَٰبٖ مِّن قَبۡلِ هَٰذَآ أَوۡ أَثَٰرَةٖ مِّنۡ عِلۡمٍ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ [الأحقاف: 4].

وقد اتفق أهل السنة على أن الله بعث نبيه محمدًا ﷺ بدين كامل وشرع شامل صالح لكل زمان ومكان ليس بحرج ولا أغلال دون الكمال يأمر بالصلاح وينهى عن الفساد، فإذا كان الفعل فيه صلاح وادعى مدع فيه بالفساد رجحوا الراجح منهما، وألحقوه به؛ لأن الدين مبني على جلب المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها، والله سبحانه لا يضيع أجرمن أحسن عملاً.

* * *