الفصل الثالث
قال في النقض: إن مقام إبراهيم مشعر إسلامي ومنسك من مناسك الحج قد وضعه النبي ﷺ في موضعه هذا وهو موضعه في عهد إبراهيم عليه السلام، وقد أمرنا الله عز وجل بأن نتخذ منه مصلى، وفسر لنا رسول الله ﷺ مقتضى هذا الأمر بتلاوته للآية الكريمة وصلاته خلفه بعد طوافه في حجة الوداع، وما أمر الله به رسوله من شرعه الذي أوحاه إليه أمر توقيفي لا اجتهاد فيه لأحد، ولا يسوغ لأحد من الناس أن يفتي بنقله من موضعه الذي هو فيه ولا التصرف فيه بأي نوع من أنواع التصرف، ولا يجوز الاحتيال على ذلك بأي حيلة؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿ثُمَّ جَعَلۡنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ فَٱتَّبِعۡهَا وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ١٨﴾ [الجاثية: 18].
فالجواب: إن في غضون هذا الكلام من التمويه والإيهام وقلب حقائق الأحكام وإغراء سذج العوام ما لا يخفى على الخاص والعام. أما المقام النازل في شأنه القرآن فقد وقع الخلاف بين السلف والخلف في تعيينه على أقوال، وإن منهم من قال: إنه الحج كله. ومنهم من قال: إن مقام إبراهيم عرفة ومزدلفة والجمار. ومنهم من قال: إنه المسجد الحرام. ومنهم من قال: إنه الحجر المعروف الذي قام عليه إبراهيم عليه السلام لبناء البيت الحرام. ورجح ابن جرير هذا الأخير وقال: إنه أولى الأقوال بالصواب. ثم إنه على فرض قصر الكلام على هذا الحجر المعروف في المسجد الحرام فإن قوله إنه مشعر إسلامي ومنسك من مناسك الحج ليس بصحيح في المعنى المراد، وكأن الرجل لا يعرف التفريق بين مشاعر الحج وغيرها، فإن مشاعر الحج هي كل ما كان من أعماله كالإحرام والطواف والسعي والوقوف بعرفة ومزدلفة والرمي والحلق والنحر وغير ذلك، ذكره في النهاية.
وكذلك المنسك فإنه المتعبد، ويقع على المصدر وعلى الزمان والمكان، ثم سميت أمور الحج كلها مناسك، ذكره في النهاية أيضًا، وهذا الحجر المسمى بالمقام لم يتعلق بذاته شيء من الشرائع والأحكام، فلم يؤمر الناس في حجهم بمسحه ولا بتقبيله ولا الطواف به ولا الصلاة فوقه، وقد ضرب عليه بصندوق من حديد لإبعاد الناس عن مسحه وتقبيله، بخلاف الحجر الأسود فقد ورد الشرع بتقبيله، وكذلك الركن اليماني ورد الشرع بمسحه وكذلك الحجر - بكسر الحاء - ورد الشرع بالأمر بالصلاة فيه لما روى البخاري أن النبي ﷺ قال: «من لم يقدر على الصلاة في البيت فليصل في الحجر فإنه من البيت».
أما هذا الحجر المسمى بالمقام فلم يثبت عن النبي ﷺ فيه إلا أنه طاف في حجة الوداع ثم جاء إلى المقام وقرأ قوله تعالى: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِۧمَ مُصَلّٗى﴾ [البقرة: 125] فجعل المقام بينه وبين القبلة - وكان إذ ذاك ملصقًا بالكعبة- فصلى ركعتين، وهذه الصلاة تسمى سنة الطواف تستحب في حق كل من طاف بالبيت في حج وغيره، وقد أجمع العلماء على أنه ليس لهذه الصلاة مكان محدود. ويقول الفقهاء في بعض كتبهم: وحيثما ركعهما من المسجد فثم مقام إبراهيم، وقد صلاها عمر بذي طوى وصلتهما أم سلمة خارج الحرم، والنبي ﷺ صلى هاتين الركعتين في مقامه اللائق به كما ذكرنا، وانتشر أصحابه وسائر من حج معه من أهل مكة وغيرهم في المسجد الحرام كل واحد منهم يصلي ركعتي الطواف منفردًا، ويحتمل أن يكون بعضهم أبعد عن مقام رسول الله ﷺ بمائة ذراع وأكثر وأقل كما قال جابر بن عبد الله في صفتهم: نظرت إلى مد بصري من بين راكب وماش وعن يمينه مثل ذلك وعن شماله مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك ورسول الله بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله فما عمل به من شيء عملنا به. فهؤلاء على كثرتهم رجالهم ونسائهم قد انتشروا في المسجد الحرام كل واحد منهم يصلي ركعتي الطواف، ورسول الله ﷺ ينظر إليهم بعين الرضا عنهم ويصدق عليهم أنهم قد اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى؛ لأن النبي ﷺ لم يعين لهذه الصلاة مكانًا محدودًا، ولم يأمر أحدًا بالتقدم إلى مكانه ولا القيام مقامه، ولم يقع منهم الزحام على مواقع أقدام رسول الله في المقام لفقههم الراسخ وعلمهم الواسع أن المسجد الحرام كله مقام إبراهيم.
وهذه معجزة من معجزات النبوة، إذ لو أمرهم بالتقدم إلى مكانه أو جعل مكانًا معينًا لهذه الصلاة، لوقع الناس في الشدة والمشقة التي تنافيها شريعته السمحة.
فإقرار النبي ﷺ للصحابة يصلون سنة الطواف متفرقين في أنحاء المسجد الحرام هو التشريع الشرعي الذي قال الله فيه: ﴿ثُمَّ جَعَلۡنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ فَٱتَّبِعۡهَا وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ ١٨﴾ [الجاثية: 18].
وعن قتادة في قوله تعالى ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِۧمَ مُصَلّٗى﴾ [البقرة: 125] قال: إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه، ولقد تكلفت هذه الأمة أشياء ما تكلفته الأمم قبلها، ولقد ذكر لنا بعض من رأى أثر عقبه وأصابعه فيه فما زالت هذه الأمة يمسحونه حتى اخلولق وانمحى، والمقصود أن المشروع المأمور به هو صلاة سنة الطواف لله رب العالمين لا لمقام إبراهيم، لما روى جبير بن مطعم أن النبي ﷺ قال: «يَا بَنِى عَبْدِ مَنَافٍ لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنَ لَيْلِ أو نَهَارِ»[163]. فلو قدر أن السيل ذهب بهذا الحجر فلم يعثر له على عين أو خبر فإنه لن يتغير بذلك شيء من مشاعر الحج ولا مناسكه ولبقي العمل بسنة الطواف جاريًا مستمرًّا إلى يوم القيامة؛ لأن المحافظة على فعل هذه الصلاة آكد من المحافظة على محل ما تفعل فيه، وقد صلاها أصحاب النبي ﷺ عند المقام حال كونه لاصقًا بالكعبة زمن النبي وزمن أبي بكر، ثم صلوها عند المقام بعد تحويل عمر له إلى موضعه الآن، ولم يقع في نفس أحد منهم حرج في صحة هذه الصلاة لعلمهم أنها وقعت موقعها في الصحة والامتثال لكونها تفعل في الحرم وفي خارجه، وهي من الشرائع المستحبة الثابتة بالكتاب والسنة فلو أنكر أحد مشروعيتها لحكمنا بكفره؛ لأنها مما علم بالضرورة من دين الإسلام، فإدخال المقام في مشاعر الحج المحتمة ومناسكه اللازمة غير صحيح وغير صواب؛ لأنه لا يتعلق بذات هذا الحجر شيء من العبادات، فلا يجوز في الشرع مسحه ولا تقبيله ولا الطواف به ولا الصلاة فوقه، فاعتقاد ما ليس بمشعر ولا منسك أنه مشعر ومنسك يعد من تغيير الكلم عن مواضعه، ومن تبديل الشريعة بغيرها، كما لو اعتقد ما ليس بفرض أنه فرض ثم عمل على حسب اعتقاده، ولكن الله سبحانه جعل استدامة بقاء المقام في المسجد الحرام بمثابة الآية والبرهان على صحة بناء إبراهيم الخليل عليه السلام لهذا البيت الحرام الذي هو أول بيت أسس في الأرض لعبادة الله عز وجل، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكٗا وَهُدٗى لِّلۡعَٰلَمِينَ ٩٦ فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗا﴾ [آلعمران: 96-97] فجعل وجود المقام بمثابة الآية والشاهد على ذلك، وفي البخاري عن أبي ذر قال: سئل رسول الله ﷺ عن أول بيت وضع للناس. قال: «الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ». قُلْتُ: ثُمَّ أَىٌّ؟ قَالَ: «الْمَسْجِدُ الأَقْصَى». قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: «أَرْبَعُونَ سَنَةً»». الحديث، وبيت المقدس بناه سليمان عليه السلام.[164]
* * *
[163] أخرجه أبو داود من حديث جبير بن مطعم. [164] سنن النسائي (٣٤/٢) بإسناد صحيح قاله ابن حجر في فتح الباري (٨٠٤/٦) وقيل إن سليمان جدد البناء ولم يكن أول من بناه.