الفصل الثاني
إن أول كلمة بدأ صاحب النقض بردها وسار في سائر صفحات كتابه يرددها للتنديد بها هي قول صاحب رسالة المقام: هذه رسالة في شأن مقام إبراهيم وما الذي ينبغي أن يعمل به عند توسعة المطاف، حاولت فيها تنقيح الأدلة ودلالتها على وجه التحقيق.
فأجاب سليمان قائلاً: إنا إذا أمعنا النظر في كلامه وجدناه يدل على أمرين:
الأول: إنه يتضمن جواز التصرف في مقام إبراهيم وأن بحثه ينحصر فيما ينبغي أن يعمل به.
الأمر الثاني: إنه يحاول تنقيح الأدلة ودلالتها على وجه التحقيق، وهذا يدل على أنه لم يجد من الأدلة ما يصح الاستناد عليه؛ لأن المحاولة إنما تكون فيما فيه مشقة وصعوبة ولا يتأتى إلا بالاحتيال، هذا معنى كلامه ومقتضاه في اللغة، قال صاحب النهاية: والمحاولة طلب الشيء بحيلة. وكلا الأمرين اللذين ذكرهما غير جائز شرعًا. انتهى.
فالجواب أن نقول: إن هذه الكلمة التي بدأ صاحب النقض بإنكارها وحمل صاحب الرسالة على سوء الظن من أجلها هي من لطيف الخطاب الجاري على ألسنة الكتاب من العلماء والفقهاء والحكماء وعلماء اللغة وفصحاء البلاغة وسائر الفرسان في هذا الميدان، بحيث ينطق بها أحدهم عندما يحاول إنشاء تأليف أو مقالة أو رسالة ذات أهمية بدون أن يسبق صاحب النقض أحد منهم إلى إنكارها ولو أنصف لعرف، ولكنه تجاهل فحرف وقد قيل: ويل للشعر من رواة السوء.
فدعواه أن المحاولة هي طلب الشيء بحيلة وأن هذا هو معناها في اللغة حسبما ذكره صاحب النهاية، فهذا كله من الكذب على اللغة وعلى صاحب النهاية حيث نسب إليه تفسير المحاولة على هذا المعنى السيئ دون غيره، حتى كأنه لا معنى لها سواه، وهذا يعد من خيانة البحث وعدم الوفاء بأدائه كاملاً.
لأنه بكشفه على النهاية وإشرافه على تفسير المحاولة قد عرف سعة القول في معناها، فنبأ ببعضه وأعرض عن بعض، وقد كان من واجب الأمانة في نقل الرواية أن ينقل ما قاله فيها صاحب النهاية، أو يشير إلى أن هذا من بعض معانيها دون أن يوهم الناس في نقله بأن هذا هو المعنى المراد منها دون غيره، وصاحب النهاية نفسه قد استعمل هذه الكلمة في مادة المحاولة فقال: في تفسير لا حول ولا قوة إلا بالله، أن المراد من هذه الكلمة إظهار الفقر إلى الله بطلب المعونة على ما يحاول من الأمور وهو حقيقة العبودية. انتهى.
فقد عرفت كيف نطق بها وهو إمام في اللغة ومعدود من علماء البلاغة، وعلى صحة حملها على الحيلة فليست كل حيلة تكون محرمة كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، فالحيلة التي يتوصل بها إلى تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فهي الحيلة المحرمة، وفيه الحديث: «لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتِ الْيَهُودُ، فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ»[160] لأن الوسائل لها أحكام المقاصد، أما الحيلة التي يتوصل بها صاحبها إلى أمر حسن من رضى الله وطاعته ونشر ما ينفع الناس من القول الحسن، والمبالغة بتلقينه وتفهيمه لا سيما إذا كان من الأمر الخفي الذي ينكر العامة جواز فعله ولم يتمرنوا على مثله، فإنها من الحيلة المباحة. ولم يزل العرب حتى الشعراء يفتخرون بالحيلة التي توصلهم إلى المكارم وتخلصهم من المكاره، ومنه قول بعضهم:
إذا المرء لم يحتل وقد جد جده
أضاع وقاسى أمره وهو مدبر
وقال الأقرع القشيري:
تخادعنا وتوعدنا رويدًا
كدأب الذئب يأدو للغزال
فلا تفعل فإن أخاك جلـد
على العزاء فيها ذو احتيال
وقال الأعشى:
فرع نبع يهتز في غصن المجـ
ـد غزير الندي عظيم المحال
قال في القاموس: الاحتيال والتحول والتحيل الحذق وجودة النظر والقدرة على التصرف، قال: وحاول محاولة أي رام. وقال في مختار الصحاح: حاول: أي أراد.
فقول صاحب الرسالة حاولت تنقيح الأدلة، أي أردت وقصدت لا يحتمل المعنى المراد غيره، فحملها على الحيلة المحرمة هو من تحريف الكلم عن موضعه، والكلام يحمل على المتبادر إلى الأذهان وعلى ما يسبق إليه فهم كل إنسان حتى في كلام الله عز وجل. وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تظن بكلمة خرجت من أخيك شرًّا وأنت تجد لها في الخير محملاً[161]. فإنما ينشأ سوء الظن من خبث النية وسوء السريرة، والعجب أنه قد شنع على صاحب الرسالة بنقد هذه الكلمة الرائجة في الاستعمال وغفل عن تسمية كتابه نقض البنيان، فإنه بهذه التسمية قد طبعه بطابع البطلان؛ لأن النقض ضد الإحكام والإبرام، وقد ورد مطردًا فيما هو من قبيل الذم في السنة والقرآن كنقض العهود ونقض الإيمان وإحباط صالح الأعمال: قال تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهۡدَ ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مِيثَٰقِهِۦ﴾ [الرعد: 25] وقال تعالى: ﴿وَلَا تَنقُضُواْ ٱلۡأَيۡمَٰنَ بَعۡدَ تَوۡكِيدِهَا﴾ [النحل: 91]، ﴿وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتۡ غَزۡلَهَا مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثٗا﴾ [النحل: 92]،
ومنه حديث ابن عمر أن النبي ﷺ قال: «وما نقض قوم عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ شديدًا»[162].
فهي تسمية تدل بمعناها على اعتلال مسماها وعدم اعتداله.
[160] أخرجه ابن بطة في الإبانة من حديث أبي هريرة. [161] أخرجه ابن عساكر في تاريخه عن سعيد بن المسيب. [162] أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عمر.