الفصل الأول
رب صاحب عزيمة قوية وطريقة قويمة ينهض بجده وجهده إلى خدمة أمته ومنفعة أهل ملته بتقديم تأليف لطيف كرسالة المقام المحتفة بالآثار الصحيحة والحكم الصريحة التي يقبلها الذوق السليم، وتوافق أصول الدين القويم، فما يخطو بعض خطوات حتى يتصدى له السعاة المماحلون فينصبون في طريقه العواثير ويخدون له الأخاديد ويأتون إليه من كل فج عميق ليقطعوا عليه الطريق ويلجئوه إلى الحرج والضيق، فتضعف عزيمته وتنحل شكيمته ويكسل عن المضي في سبيل عمله والنصح لأمته ويؤثر الميل إلى الراحة والخمول.
أما النقد بالحق وبلسان الصدق فإنه من واجبات الدين ومن النصيحة لله ولعباده المؤمنين، ولا نزال بخير متى يوجد فينا من يقوِّم اعوجاجنا ويصلح ما فسد من منهاجنا، فإن الإنسان مهما بلغ من الإتقان ومن سعة العلم والعرفان فإنه عرضة للخطأ والنسيان، فلا يكاد يخلو عمل من خلل ولا كلام من زلل، شهدت بذلك كتب المؤلفين وتاريخ المتقدمين والمتأخرين، يخطئ أقوام فيصلح خطأهم آخرون بحسن قصد وسداد نقد فيستنير الحق ويتجلى وجه الصواب والصدق.
غير أن المخلص الناصح والبصير الناقد يجب عليه أن يتثبت في الرد والنقد، وأن يقدر ضرورة الحال والمحل، فلكل مقام مقال، والعلة تدور مع معلولها وجودًا وعدمًا، وتختلف الفتوى باختلاف الزمان والمكان فيما لا يتعلق بأصول العقيدة والأركان، وقد جاءت هذه الشريعة السمحة بجلب المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها، ومن قواعدها المعتبرة أنه إذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير، ويجوز ارتكاب أدنى الضررين لدفع أعلاهما، والحرج منفي عن الدين جملة وتفصيلاً، ما جعل الله عليكم في الدين من حرج، ﴿ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ﴾ [البقرة: 185] لأن الدين عدل الله في أرضه ورحمته لعباده، شرع لإسعاد البشرية في أمورهم الروحية والجسدية والاجتماعية، ولو فكر العلماء بإمعان ونظر لوجدوا فيه الفرج والمخرج من كل ما وقعوا فيه من الشدة والحرج، ومن صفة رسول الله ﷺ أنه ﴿...عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ١٢٨ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقُلۡ حَسۡبِيَ ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُۖ وَهُوَ رَبُّ ٱلۡعَرۡشِ ٱلۡعَظِيمِ١٢٩﴾ [التوبة: 128-129].
* * *