متقدم

فهرس الكتاب

 

حديث ليلى الأخيَليَّة مع الحجَّاج بن يوسف

هذه المحاورة الواقعة بين الحجاج وبين ليلى الأخيلية تعطي الطلاب والطالبات شيئًا من شرف أخلاق القدامى، وكون حبهم وعشقهم محفوفًا بالعفاف والإحسان، فهم يعدون النكاح الواقع بين المحبِّ ومحبوبته أنه رذالة ونذالة، وقد قيل: إذا نكح الحبُّ فسد. ولهذا قالت ليلى الأخيلية:
وذي حاجةٍ قلنا له لا تبحْ بها
فليس إليها ما حييت سبيل
لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه
وأنت لأخرى صاحب وخليل
بخلاف المحبين من أهل هذا العصر، فإن غاية حب أحدهم لمعشوقته هو غزو ما سفل من خَلْقها وأخلاقها، لهذا لا تدوم المحبة بينهما لكون الرجل يعرض له من يرغب في حبه فينصرم حبله عن معشوقته، كما أن المرأة قد يعرض لها من ترغب في حبه فتنصرف عن معشوقها لعدم استدامة صلة ما بينهما، كما قيل:
علقتها عرضًا وعلقت رجلاً
غيري وعلق أخرى غيرها الرجل
قال أبو بكر بن الأنباري: حدثني أبي، قال: أخبرنا أحمد بن عبيد عن أبي الحسن المدائني عمن حدثه عن مولى لعنبسة بن سعيد بن العاصي قال: كنت أدخل مع عنبسة بن سعيد بن العاصي إذا دخل على الحجاج، فدخل يومًا فدخلت إليهما وليس عند الحجاج أحد إلا عنبسة، فأقعدني فجيء الحجاج بطبق فيه رُطب، فأخذ الخادم منه شيئًا فجاءني به، ثم جيء بطبق آخر حتى كثرت الأطباق، وجعل لا يأتون بشيء إلا جاءني منه بشيء حتى ظننت أن ما بين يدي أكثر مما عندهما، ثم جاء الحاجب فقال: امرأة بالباب، فقال الحجاج: أدخلها. فدخلت، فلما رآها الحجاج طأطأ رأسه حتى ظننت أن ذقنه قد أصابت الأرض، فجاءت حتى قعدت بين يديه، فنظرت فإذا امرأة قد أسنَّتْ حسنة الخلق، ومعها جاريتان، وإذا هي ليلى الأخيلية، فسألها الحجاج عن نسبها فانتسبت له، فقال لها: يا ليلى ما أتى بك؟ فقالت: إحلاف النجوم، وقلة الغيوم، وكلب البرد، وشدة الجهد، وكنت لنا بعد الله الرفد. فقال لها: صفي لنا الفجاج. فقالت: فالفجاج مغبرة، والأرض مقشعرة، والمبرك معتل، وذو العيال مختل، والهالك للقل، والناس مستنون رحمة لله يرجون، وأصابتنا سنون مجحفة مبلطة لم تدع لنا هبعًا ولا ربعًا ولا عافطة ولا نافطة، أذهبت الأموال، ومزّقت الرجال، وأهلكت العيال. ثم قالت: إني قلت في الأمير قولاً. قال: هاتِ. فأنشأت تقول:
أحجاج لا يُفْلَلْ سلاحُك إنها ال
ـمنايا بكف الله حيث يراها
أحجّاج لا تُعط العصاة مُناهمُ
ولا الله يُعطي للعصاة مُناها
إذا هبط الحجاج أرضًا مريضة
تتبَّع أقصـى دائها فشفاها
شفاها من الداء العُضال الذي بها
غلامٌ إذا هزَّ القناةَ سقاها
سقاها فرواها بشـرب سجاله
دماء رجال حيث مال حشاها
إذا سمع الحجاج رزء كتيبة
أعدّ لها قبل النزول قِراها
أعدّ لها مسمومة فارسية
بأيدي رجال يحلبُون صراها
فما ولد الأبكارُ والعون مثله
بِبحر ولا أرض يجفّ ثَراها
قال: فلما قالت هذا البيت قال الحجاج: قاتلها الله، والله ما أصاب صفتي شاعر مذ دخلت العراق غيرها. ثم التفت إلى عنبسة بن سعيد فقال: والله إني لأعد للأمر عسى ألَّا يكون أبدًا. ثم التفت إليها فقال: حسبك. قالت: إني قد قلت أكثر من هذا. قال: حسبك. ويحكِ حسبك. ثم قال: يا غلام اذهب إلى فلان فقل له اقطع لسانها. فذهب بها، فقال له: يقول لك الأمير اقطع لسانها. قال: فأمر بإحضار الحجّام، فالتفتت إليه، فقالت: ثكلتك أمك، أما سمعت ما قال؟ إنما أمرك أن تقطع لساني بالصلة. فبعث إليه يستثبته، فاستشاط الحجاج غضبًا، وهمّ بقطع لسانه، وقال: ارددها. فلما دخلت عليه قالت: كاد وأمانة الله يقطع مقولي. ثم أنشأت تقول:
حجّاجُ أنت الذي ما فوقه أحدٌ
إلا الخليفةُ والمستَغْفَرُ الصمدُ
حجاج أنت شهابُ الحرب إن لقحت
وأنت لِلناس نورٌ في الدُّجى يَقِدُ
ثم أقبل الحجاج على جلسائه فقال: أتدرون من هذه؟ قالوا: لا والله أيها الأمير، إلا أنّا لم نر قط أفصح ولا أحسن محاورة، ولا أملح وجهًا، ولا أرصن شعرًا منها. فقال: هذه ليلى الأخيلية التي مات توبة الخفاجي من حبها. ثم التفت إليها فقال: أنشدينا يا ليلى بعض ما قال فيك توبة. قالت: نعم أيها الأمير، هو الذي يقول:
وهل تبكين ليلى إذا مُتُّ قبلها
وقام على قبري النساء النوائح
كما لو أصاب الموت ليلى بكيتُها
وجاد لها دمع من العين سافح
وأغبط من ليلى بما لا أناله
بلى كل ما قرّت به العين طائح
ولو أن ليلى الأخيلية سلمت
عليّ ودوني جَنْدل وصفائح
لسلّمت تسليم البشاشة أو زَقَا
إليها صدىً من جانب القبر صائح
فقال: زيدينا من شعره يا ليلى. فقالت: هو الذي يقول:
حمامةَ بطن الواديين ترنمي
سقاك من الغُر الغوادي مطيرُها
أبيني لنا لازال ريشك ناعمًا
ولازلت في خضـراء غضّ نضيرُها
وكنتُ إذا ما زرتُ ليلى تبرقعت
فقد رابني منها الغداةَ سفورُها
وقد رابني منها صدودٌ رأيتُه
وإعراضها عن حاجتي وبسورُها
وأشرف بالقور اليفاع لعلني
أرى نار ليلى أو يراني بصيرُها
يقول رجال لا يضيرك نأْيُها
بلى كل ما شفَّ النفوسَ يضيرُها
بلى قد يضير العين أن تكثر البكا
ويُمنع منها نومها وسرورُها
وقد زعمت ليلى بأني فاجر
لنفسـي تقاها أوعليها فجورُها
فقال الحجاج: ما الذي رابه من سفورك؟ فقالت: أيها الأمير كان يلمّ بي كثيرًا فأرسل إليَّ يومًا أني آتيكِ، وفَطِن الحيُّ، فأرصدوا له، فلما أتاني سفرت عن وجهي، فعلم أن ذلك لشر، فلم يزد على التسليم والرجوع. فقال: لله درُّك، فهل رأيت منه شيئًا تكرهينه؟ فقالت: لا والله الذي أسأله أن يصلحك، غير أنه قال مرة قولاً ظننت أنه قد خضع لبعض الأمر، فأنشأت أقول:
وذي حاجة قلنا له لا تُبحْ بها
فليس إليها ما حييت سبيل
لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه
وأنت لأخرى صاحب وخليل
فلا والله الذي أسأله أن يصلحك ما رأيت منه شيئًا حتى فرق الموت بيني وبينه. قال: ثم مه، قالت: ثم لم يلبث أن خرج في غزاة له فأوصى ابن عم له إذا أتيت الحاضر من بني عبادة فنادِ بأعلى صوتك:
عفا الله عنها هل أبيتن ليلة
من الدَّهْر لا يسـرى إليَّ خيالها
أقول:
وعنه عفا ربّي وأحسن حاله
فعزت علينا حاجة لا ينالها
قال: ثم مه قالت: ثم لم يلبث أن مات، فأتانا نعيُه، فقال: أنشدينا بعض مراثيك فيه، فأنشدت:
لتبك العذارى من خفاجة نسوةٌ
بماء شؤون العبْرة المتحدّر
قال لها: فأنشدينا. فأنشدته:
كأن فتى الفتيان توبة لم يُنخ
قلائص يفْحصنَ الحصى بالكراكر
فلما فرغت من القصيدة قال محصن الفقعسي- وكان من جلساء الحجاج-: من الذي تقول هذا فيه فوالله إني لأظنها كاذبة. فنظرت إليه، ثم قالت: أيها الأمير، إن هذا القائل لو رأى توبة لسرّه ألا تكون في داره عذراء إلا هي حامل منه. فقال الحجاج: هذا وأبيك الجواب، وقد كنتَ عنه غنيا. ثم قال لها: سلي يا ليلى تُعط. قالت: أعط فمثلك أعطى فأحسن. قال: لكِ عشرون. قالت: زد فمثلك زاد فأجمل. قال: لك أربعون. قالت: زد فمثلك زاد فأكمل. قال لك: ثمانون. قالت: زد فمثلك زاد فتمّم. قال: لكِ مائة واعلمي أنها غنم. قالت: معاذ الله أيها الأمير أنت أجود جودًا، وأمجد مجدًا، وأورى زندًا من أن تجعلها غنمًا. قال: فما هي ويحكِ يا ليلى. قالت: مائة من الإبل برعاتها. فأمر لها بها، ثم قال: ألك حاجة بعدها. قالت: تدفع إلى النابغة الجعدي. قال: قد فعلت. وقد كانت تهجوه ويهجوها، فبلغ النابغة ذلك، فخرج هاربًا عائذًا بعبد الملك، فأتبعته إلى الشام، فهرب إلى قتيبة بن مسلم بخراسان، فأتبعته البريد بكتاب الحجاج إلى قتيبة، فمات بقومس ويقال بحلوان.

* * *