متقدم

فهرس الكتاب

 

خلاف العلماء في مسألة سماع الغناء والمعازف وأدلتهم

في الباب أحاديث أخرى وما أوردناه هو أصح ما ورد فيه مما يحتج به، وأحاديث الحظر التي تقدمت تحظر المعازف وهي آلات اللهو، والدف منها قطعًا، وغناء الِقيان وهن الجواري المغنيات، وقد رأيت في أحاديث الإباحة إباحة العزف بالدف وغناء الجواري وانعقاد نذره، ومما ينبغي الالتفات إليه أن كلام أبي بكر وكلام عامر بن سعد يدلَّان على أن الناس كانوا يتوقعون حظر السماع واللهو لا سيما أصوات النساء، لولا النص الصريح بالرخصة، وتكراره في الأوقات التي جرت عادة الناس بتحري السرور فيها، كالعيد والعرس وقدوم المسافر، فأحاديث الإباحة مرجحة بصحتها، وضعف مقابلها ونكارته، وبكونها على الأصل في الأشياء وهو الإباحة، وبموافقتها ليسر الشريعة وسماحتها وموافقتها للفطرة، وهذا لا ينافي أن الانصراف الزائد إلى اللهو والإسراف فيه ليس من شأن أهل المروءة والدين، ولهذا رأيت كثيرًا من الأئمة العلماء الزهاد قد شدد النكير على أهل اللهو لما كثر وأسرف الناس فيه عندما عظم عمران الأمة واتسعت مذاهب الحضارة فيها، حتى جاء أهل التقليد من المصنفين فرجحوا أقوال الحظر وزادوا عليها في التشديد، حتى حرم بعضهم سماع الغناء مطلقًا، وسماع آلات اللهو جميعها، إلا طبل الحرب ودف العرس، وزعموا أنه دف مخصوص لا يُطرِب، وأنه غير دف أهل الطرب، وهاك أجمع كلام يحكي خلاف علماء الأمة وأدلتهم في هذه المسألة بالاختصار، وهو كلام الشوكاني في نيل الأوطار، قال بعدما أورد ما تقدم من أحاديث الحظر:

وقد اختُلِفَ في الغناء مع آلة من آلات الملاهي وبدونها، فذهب الجمهور إلى التحريم مستدلين بما سلف، وذهب أهل المدينة ومن وافقهم من علماء الظاهر وجماعة من الصوفية إلى الترخيص في السماع ولو مع العود واليراع، وقد حكى الأستاذ أبو منصور البغدادي الشافعي في مؤلفه في السماع أن عبد الله بن جعفر كان لا يرى بالغناء بأسًا، ويصوغ الألحان لجواريه، ويسمعها منهن على أوتاره، وكان ذلك في زمن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه. وحكى الأستاذ المذكور مثل ذلك أيضًا عن القاضي شريح، وسعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، والزهري، والشعبي.

وحكاه صاحب الإِمتاع عن أبي بكر بن العربي، وجزم بالإباحة الأدفوي، هؤلاء جميعًا قالوا بتحليل السماع مع آلة من الآلات المعروفة، وأما مجرد الغناء من غير آلة فقال الأدفوي: إن الغزالي في بعض تآليفه الفقهية نقل الاتفاق على حله، ونقل ابن طاهر إجماع الصحابة والتابعين عليه، ونقل التاج الفزاري وابن قتيبة إجماع أهل المدينة عليه، وقال الماوردي: لم يزل أهل الحجاز يرخصون فيه في أفضل أيام السنة المأمور فيها بالعبادة والذكر.

* * *