المشكِلة الثالثة: شرب ماء آبار الحجر والوضوء به
قال البخاري في صحيحه: «حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِسْكِينٍ أَبُو الْحَسَنِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ بْنِ حَيَّانَ أَبُو زَكَرِيَّاءَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَرضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمَّا نَزَلَ الْحِجْرَ فِى غَزْوَةِ تَبُوكَ أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَشْرَبُوا مِنْ بِئْرِهَا، وَلَا يَسْتَقُوا مِنْهَا فَقَالُوا قَدْ عَجَنَّا مِنْهَا، وَاسْتَقَيْنَا. فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَطْرَحُوا ذَلِكَ الْعَجِينَ وَيُهَرِيقُوا ذَلِكَ الْمَاءَ. وَيُرْوَى عَنْ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ وَأَبِى الشُّمُوسِ أَنَّ النَّبِىَّ ﷺ أَمَرَ بِإِلْقَاءِ الطَّعَامِ». وفي حديث ابن عمر: «أمرهم أن يعلفوا الإبل العجين، وأن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة».
أما ابن عمر، فإنه قد شهد القضية وحدث عنها بما سمع ورأى وهو أحد حفاظ الصحابة وهم سبعة: ابن عمر هذا، وأبو سعيد الخدري واسمه سعد بن مالك، وجابر بن عبد الله، وأبو هريرة، وأنس بن مالك، وابن عباس، وعائشة رضي الله عنهم ولا يعد حافظًا حتى يحفظ عن النبي ﷺ فوق ألف حديث، وقد نظمهم بعضهم، فقال:
سبع من الصحب فوق الألف قد نقلوا
من الحديث عن المختار خير مُضَر
أبو هريرة سعد جابر أنس
صِدِّيقة وابن عباس كذا ابن عمر
وقد ترجم البخاري على حديث ابن عمر هذا فقال: باب نزول النبي ﷺ بالحجر ثم ساقه بسنده، وموضع الإشكال هو نهيه عن الشرب من آبار ثمود إلا من بئر الناقة وأن يعلفوا الإبل العجين الذي عجنوه من مائها، ولم يحفظ عن النبي ﷺ من طريق صحيح علة هذا النهي.
وقد أخد الفقهاء بظاهره فقرر بعضهم في المختصرات الفقهية أنه لا يجوز الوضوء من آبار حجر ثمود إلا من بئر الناقة ولم يذكروا علة النهي.
كما أن الصحابة الذين نقلوا حديث الحجر، مثل: ابن عمر وجابر وأبي كبشة الأنماري عن أبيه وسبرة بن معبد وأبي الشموس وأبي ذر وغيرهم، لم يذكر أحد منهم في حديثه أن رسول الله ﷺ نهى عن الوضوء به، وإنما ورد القول بالنهي عن الوضوء به من طريق ابن إسحاق وهو ضعيف عند أهل الحديث، وقد نقله ابن كثير في البداية والنهاية ص10- ج5 ولفظه: قال ابن إسحاق: وكان رسول الله ﷺ حين مر بالحجر نزلها واستقى الناس من بئرها، فلما راحوا قال رسول الله ﷺ: «لَا تَشْرَبُوا مِنْ مِيَاهِهَا شَيْئًا، وَلَا تَتَوَضَّئُوا مِنْهُ لِلصَّلَاةِ، وَمَا كَانَ مِنْ عَجِينٍ عَجَنْتُمُوهُ فَأَعْلِفُوهُ الْإِبِلَ، وَلَا تَأْكُلُوا مِنْهُ شَيْئًا»، هكذا ذكره ابن إسحاق، بغير إسناد.. انتهى. ثم ذكر ابن كثير في موضع آخر ما نصه:
قال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن العباس بن سهل بن سعد الساعدي أو عن العباس بن سعد - الشك مني - أن رسول الله ﷺ حين مرّ بالحجر ونزلها استقى الناس من بئرها. فلما راحوا منها قال رسول الله للناس: «لَا تَشْرَبُوا مِنْ مَائِهَا شَيْئًا، وَلَا تَتَوَضَّئُوا مِنْهُ لِلصَّلَاةِ، وَمَا كَانَ مِنْ عَجِينٍ عَجَنْتُمُوهُ فَأَعْلِفُوهُ الْإِبِلَ، وَلَا تَأْكُلُوا مِنْهُ شَيْئًا، وَلَا يَخْرُجَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ اللَّيْلَةَ إلَّا وَمَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ»، ففعل الناس ما أمرهم به رسول الله إلا رجلين من بني ساعدة؛ أحدهما خرج لحاجته فاختنق على مذهبه، والآخر خرج لطلب بعيره فاحتملته الريح فألقته بجبل طيىء وأهدته طيىء إلى رسول الله بتبوك.. انتهى.
فهذه القصة بهذا اللفظ لم يخرجها أحد من أهل الصحاح والسنن والمسانيد ولم يثبت القول بها عن أحد من الصحابة وابن إسحاق مع ضعفه، فإن حديثه هذا مرسل وهو لا يحتج بما وصله فما بالك بما أرسله، فإن العباس بن سهل تابعي وكذا العباس بن سعد، وقد شك فيمن حدثه منهما، ودلائل الوضع لائحة عليه من كل وجوهه، فإن هذا الرجل الذي يزعم أن الريح أطارته حتى رمت به على جبل طيء لم يثبت عن أحد من الصحابة القول به، ولو كان صحيحًا لاشتهر أمره وانتشر خبره من بينهم كلهم فضلاً عن بعضهم لكونها قصة غريبة، وحتى الذين تصدوا للتأليف في إحصاء الصحابة وبيان أسمائهم وأنسابهم مثل: الإصابة لابن حجر والاستيعاب لابن عبد البر و مسبوك الذهب ونحوها لم يذكروا أن أحدًا من الصحابة أطارته الريح، لكن التواريخ مبناها على التساهل في النقل، بحيث ينقل بعضهم عن بعض الحكاية على علاتها، كما قيل:
لا تقبلن من التوارخ كل ما
جمع الرواة وخط كل بنان
والمقصود أن النهي عن الوضوء بماء آبار الحجر أنه جاء عن طريق ابن إسحاق فقط وهو ضعيف لا يحتج به، مع العلم أنه في حديثه هذا لم يفرق بين ماء بئر الناقة ولا غيره، ويظهر أن الفقهاء أخذوا القول بعدم إجزاء الوضوء من آبار ثمود من رواية ابن إسحاق هذا؛ لأننا لم نجد لهذا القول أصلاً عن غيره، والأمر الثابت هو أن رسول الله ﷺ نهى عن شرب ماء آبار الحجر إلا من بئر الناقة ولم يَنْهَ عن الوضوء به، ونهيه عن الشرب منه لا يستلزم النهي عن الوضوء به، أشبه ماء البحر يجوز الوضوء به وينهى عن شرابه، فسقط الاستدلال بموجبه، ولو كان صحيحًا لذكرها الصحابة الذين حضروا القضية؛ لأن ذكرها ألزم من ذكر العجين وغيره، كما أنهم لم يؤمروا بغسل ما أصاب هذا الماء من أجسادهم وثيابهم وأوانيهم، ويفهم من حديث ابن عمر الذي في البخاري أن النهي عن شرب الماء بلغهم وهم في أرض الحجر لكون النبي ﷺ أمرهم أن ينتقلوا من الآبار إلى بئر الناقة وذلك بعدما شربوا وغسلوا وجوههم وثيابهم إلى حالة أنهم أخذوا يشتغلون بالعجين من هذا الماء، ويترجح أن خبر هذا الماء نزل به الوحي من السماء، وأن النهي عنه إنما هو لمصلحة تعود على صحتهم لعدم صلاحيته لحالهم، فلا ينبغي أن يحمل هذا النهي على كونه نجسًا كالبول، ولا أنه محرم كالخمر والدم، ولا ينبغي أن يحمل أيضًا على تأثره بجريمة ثمود ولا بحلول العقاب بهم ﴿ تِلۡكَ أُمَّةٞ قَدۡ خَلَتۡۖ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَلَكُم مَّا كَسَبۡتُمۡۖ وَلَا تُسَۡٔلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ١٣٤﴾ [البقرة: 134].
وقد عرف الفقهاء الماء الطاهر الذي يرفع به الحدث ويزال به الخبث بأنه الباقي على خلقته، كما نزل من السماء أو نبع من الأرض، وهذا الوصف منطبق على مياه آبار الحجر، إذ جميع المياه في هذه الآبار وفي غيرها نازلة من السماء.
كما قال تعالى: ﴿وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءَۢ بِقَدَرٖ فَأَسۡكَنَّٰهُ فِي ٱلۡأَرۡضِۖ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابِۢ بِهِۦ لَقَٰدِرُونَ ١٨﴾ [المؤمنون: 18].
وفي الآية الأخرى: ﴿فَسَلَكَهُۥ يَنَٰبِيعَ فِي ٱلۡأَرۡضِ﴾ [الزمر: 21] فكل المياه الموجودة على وجه الأرض من آبار وعيون وبحار كلها طاهرة مباحة يرفع بها الحدث ويزال بها الخبث ما لم يتغير شيء من أحد أوصافها بالنجاسة، سواء في ذلك آبار الحجر وغيرها، وقد مكث نبي الله صالح عليه السلام والمؤمنون معه يتمتعون بخيرات بلادهم ويشربون من ماء آبارهم غير محجور عليهم في شيء وذلك بعد نزول العقاب بثمود وشرع من قبلنا شرع لنا، ما لم ترد شريعتنا بنسخه. إذا ثبت هذا، فإن النهي الصادر من النبي ﷺ يجب أن يحمل على أمر حسي معقول المعنى، وذلك مما يتعلق بحفظ الصحة والوقاية عن المياه الوبيئة، وأنه قد ظهر للنبي ﷺ في ذلك الزمان من فساد بعض المياه وضررها على الصحة ما لم يظهر لغيره إلا بعد أزمان طويلة، وهذه الآبار التي نهى النبي ﷺ عن الشرب من مائها يترجح بأنها آبار مهجورة عن الاستعمال، ولهذا أمرهم النبي ﷺ أن يتركوها ويستقوا من بئر الناقة من أجل صحة مائها، لكون الناس يردونها ويستقون منها إلى هذا الزمان، وإلا فإن الكل آبار ثمود حتى بئر الناقة، يقول الله: ﴿لَّهَا شِرۡبٞ وَلَكُمۡ شِرۡبُ يَوۡمٖ مَّعۡلُومٖ﴾ [الشعراء: 155].
ومن المشاهد بالتجربة أن الآبار المهجورة يتكون فيها مواد من الغازات السامة يسمونها بـ (كلوريد الهيدروجين) وهو من العناصر التي اكتشفها الطب الحديث من عهد قريب وتكثر فيها أنواع الغازات السامة والأبخرة التي تنفصل من مواد الأرض وتختلف كثرة ضررها وقلته باختلاف القرب والبعد من الأرض ويعظم خطرها بالإكتام وعدم اتصال الهواء بها، كما يشاهد ذلك في الفحم وغازاته السامة، حيث يقضي بالاختناق ثم الموت، ومثله السرج ذات الفتائل في موضع الاكتتام ومن المشاهد بالتجربة أن المستعجل إلى الوقوع في مثل هذه المياه المهجورة للاغتسال ونحوه قبل أن يختبرها، فإنه يصاب بالاختناق من ساعته، ثم ينزل إليه الثاني لإنقاذه فيصيبه ما أصابه، ثم الثالث والرابع، فيهلكون جميعًا، وقد وقعت قضايا متعددة في كل بلد من نحو ذلك، لهذا نرى أهل الطب والذكاء والمعرفة يحذرون أشد التحذير عن قربان مثل هذه القلبان إلا بعد اختبارها بإلقاء الأدوية المفسدة لهذه الغازات السامة، ثم تحريكها التحريك القوي بالدلاء ونحوها، هذا كله قد أصبح من الأمر المشهور المعروف الذي يوصي الناس بعضهم بعضًا بموجبه، وقد عرفه رسول الله ﷺ بطريق الوحي قبل أن يعرفه هؤلاء بألف سنة، فحذر منه أصحابه وأصبح في علم الطب الحديث أن المياه تختلف في الضرر والصحة اختلافًا عظيمًا، فهم يحكمون على بعض الآبار بأن ماءها فاسد ضار وخطر على الصحة، كما يحكمون على بعضها بالصحة والنقاوة وأنه يحلل الحصا من الكلى ونحو ذلك. أدركوا هذه المنافع والمضار بالوسائل الدقيقة من المناظير المكبرة التي تبرز لهم الميكروبات عيانًا وهي أجسام حية والتي تضر آكلها وشاربها حتى ولو عجن بمائها العجين، ورسول الله هو طبيب الأديان والأبدان فمتى نزل عليه الوحي بخبر ضرر هذا الماء وعدم صلاحيته للأجساد أفنحكم عليه والحالة هذه بعدم جواز استعماله في الطهارة بدون سبب يزيله عن طهوريته، ثم إن هذا الماء في هذه الآبار يكون فاسدًا ضارًّا للصحة في وقت ثم يكون صالحًا للشرب في وقت آخر، على حسب ما يزاول به من الأدوية التي تنفي الضرر عنه وتمحضه للصحة أو يكون منهورًا ومورودًا يستقى منه على الدوام؛ لأن هذا من الأسباب التي تزيل عنه الضرر ويكون صحيحًا صالحًا للاستعمال.
وفي الحديث: «ما مِنْ دَاءٍ إلا لَهُ دَوَاء عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ»[133] لهذا أمر النبي ﷺ أصحابه بأن يشربوا من بئر الناقة، من أجل أنها منهورة ومستعملة فهي سالمة من الغازات السامة، وإلا فإن الكل آبار ثمود، فحمل هذا النهي عن شربه على أمر معلوم سببه أولى من حمله على أمر غير معقول المعنى مما يسمونه خلاف القياس؛ لأنه ليس في السنة الصحيحة ما يخالف القياس الصحيح، كما حقق ذلك شيخ الإسلام وابن القيم في الإعلام نظير هذا أن النبي ﷺ في هذه الغزوة نفسها قال لأصحابه. «إِنَّكُمْ سَتَأْتُونَ غَدًا عَيْنَ تَبُوكَ فَمَنْ جَاءَ فَلَا يَمَسَّ مِنْ مَائِهَا شَيْئًا حَتَّى آتِىَ»[134]، حتى إنه لمّا سبقه رجلان إلى عين تبوك فشربا منها أغلظ عليهما بالكلام وقال: «ألم أنهكم أن يسبقني إليها أحد». فنهيه عن ماء آبار ثمود هو نظير نهيه عن ماء بئر تبوك على السواء، وهذا دليل على حرص رسول الله ﷺ على أصحابه وحمايته لهم عن الاستعجال عن موارد المياه المجهولة المهجورة إلا بعد اختياره لها، ولا يبعد هذا النهي عن نهيه عن الشرب من آبار ثمود لمّا تبين له فسادها.
فهو يحاذر على أصحابه من علوق الوباء والوقوع في البلاء، كما في الصحيح أن النبي ﷺ قال:
«إِنَّهُ ما مِنْ نَبِىٌّ قَبْلِى إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَيحذرهُمْ عَن شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ»[135]، ولمّا كان غالب أصحابه الذين غزوا معه تلك الغزوة هم حديثو عهد بدخولهم في الإسلام؛ لأن العرب لم يتوسعوا في دخول الإسلام إلا بعد فتح مكة في السنة الثامنة وفي السنة التاسعة دخلوا في الدين أفواجًا أفواجًا وهم حديثو عهد ببادية لا يحتفلون بالأسباب ولا يعرفون النافع من الضار، لهذا نهاهم رسول الله عما يضرهم منها، كما أن عادة الزعيم ينهى قومه عن الوقوع في البلاء ومراتع الوباء.
ومن المشاهد من مضار هذه المياه أنه يوجد آبار في مكان يسمى ماوان وهي مزارع لأهل بلد حوطة بني تميم، وتقع في المنتصف بين الرياض والحوطة، فخرج أهلها إليها يريدون زراعتها بعد تركهم لها أزمانًا طويلة فعملوا عملهم في حراثتها وقلب أرضها ووضعوا البذور فيها وركبوا آلات السقي وعملوا عملهم، فبعد ما حركوا الماء أصيبوا بالحمى القتالة فهربوا وتركوا زروعهم فمات بعضهم وبقي بعضهم عليلاً زمانًا طويلاً.
والحادثة الثانية: هو أنه خرج جماعة من صنعاء يريدون التوجه إلى الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية، قالوا: فنزلنا على حي من العرب، نريد أن نستوضحهم الطريق، فتصدى لإرشادنا رجل عاقل من الحي. قال: إنكم ستأتون في مكان كذا واديًا معترضًا وفي الوادي ماء فلا تشربوا من مائه ولا تناموا فيه لئلا تصيبكم الحمى. قالوا: فلما أتينا الوادي وجدناه كما وصفه لنا ووجدنا الماء حلوًا عذبًا والوادي سهلاً لينًا. وقلنا: هذا رجل متطير. وتوكلنا على الله، فلم نحتفل بكلامه وشربنا من الماء ونمنا في الوادي ولم نقم من النوم إلا وقد علقت بنا الحمى القتالة فمات بعضنا وبقي بعضنا عليلاً زمانًا طويلاً، وكم قتلت أرض جاهلها، ومن المشاهد بالتجربة أن المسافرين يردون بعض المياه ثم يقوضون منها وقد أصيبوا بشيء من الأضرار أقلها الزكام الشديد، كله من أجل فساد الماء.
وكان النبي ﷺ يأكل من الطعام ما عرض عليه، فلا يتكلف مفقودًا ولا يرد موجودًا، أما الماء فكان يحرص على نقاوته، ولهذا كان يستعذب له الماء من السقيا، وهي تقع على أربعة أميال من المدينة.
فرسول الله ﷺ مع قوة إيمانه وتوكله على الله كان يتقي أسباب البلاء ويأمر بالتباعد عن مواقع الوباء، ويقول: «لَا يُورِد مُمْرِض عَلَى مُصِحّ»[136]، وقال: «إذا وَقَع الْوَبَاءَ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ»[137]، وقال: «فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الأَسَدِ»[138]، وجاءه قوم وقالوا: يا رسول الله إن لنا بلدًا هي ريفنا ومصيفنا وإنا إذا نزلناها نحفت أجسامنا وقل عددنا. فقال رسول الله: «اتركوها ذميمة فَإِنَّ مِنَ الْقَرَفِ التَّلَفَ»[139]، فهذه تعتبر من باب اجتناب الأسباب التي جعلها الله أسبابًا للهلاك والأذى، والعبد مأمور باتقاء أسباب البلاء إذا كان في عافية منها، كما أخبر النبي ﷺ في هذا الحديث أن من القرف التلف، يعني أن مقاربة الإنسان للأشياء المعدية والضارة بطبعها أنها سبب مقارفة الجسم لها، بحيث تعلق به ثم يهلك، وقد قيل: الوقاية خير من العلاج، والدفع أيسر من الرفع، والشفاء قبل الإشفاء.
فكل الأدوية والعقاقير التي يستعملها الأطباء للوقاية عن رفع البلاء أو دفع الوباء هي بالحقيقة من مخلوقات الله التي أنبتها في أرضه إحسانًا منه لهم بإيصال نفعها إليهم، وخص كل نوع منها بنوع من المرض يزول به ويشفيه، وركب في الإنسان العقل والسمع والبصر ليتم بذلك استعداده لتناول منافعه ومصالحه واستعمالها في وقاية صحته وحفظ بنيته؛ لأن الله سبحانه «لم ينزل من دَاء لَّا أَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ»[140].
وكل الأمم على اختلاف أديانهم وأوطانهم قد جربوا وقاية التطعيم عن الأمراض المعدية، مثل: الجدري والكوليرا وغيرهما، فوجدوا لها من التأثير على الوقاية من الأمراض القتالة ما يشهد الواقع بصحته ولا طبيب إلا ذو تجربة، فخلفاء الرسل يحاربون القدر بالقدر ويفرون من القدر إلى القدر، ويحكمون الأمر على القدر.
لهذا، نجد بعض الناس يتكاسل ويتقاعس عن استعمال الوقايات المجربة والأدوية النافعة توكلا منهم بزعمهم فيجعلون عجزهم توكلا، وإنما المتوكل هو من يستعمل أسباب الوقاية المجربة والأدوية النافعة، ثم يتوكل على ربه.
وعاجز الرأي مضياع لفرصته
حتى إذا فات أمر عاتب القدرا
* * *
[133] أخرجه الإمام أحمد من حديث عبد الله بن مسعود. [134] أخرجه مسلم من حديث معاذ. [135] أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو. [136] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [137] متفق عليه من حديث عبد الرحمن بن عوف. [138] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. [139] أخرجه أبو داود من حديث فروة بن مسيك بلفظ: «دعها عنك». [140] أخرجه أحمد من حديث ابن عباس والبخاري بنحوه من حديث أبي هريرة.