متقدم

فهرس الكتاب

 

المشكِلة الثانيَة: نهى النبي ﷺ عن دخول مساكن المعذبين إلا أن يكونوا باكين

أما نهي النبي ﷺ عن دخول مساكن المعذبين إلا أن يكونوا باكين، فإن له سببًا؛ وذلك أن الله سبحانه قد أوجب على المؤمنين إذا كانوا مع رسول الله في أمر جامع بألَّا يذهبوا حتى يستأذنوه، وهؤلاء لمّا نزلوا الحجر نفروا إلى النظر في مساكن المعذبين بدون استئذان وبصورة استعجال، نظيره قوله: ﴿وَإِذَا رَأَوۡاْ تِجَٰرَةً أَوۡ لَهۡوًا ٱنفَضُّوٓاْ إِلَيۡهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِمٗا [الجمعة: 11] وليس كلهم انفضوا وكأن رسول الله ﷺ قد أحس منهم شيئًا من عزوب الخشوع والخشية في ذلك المقام وهي أول بلد من بلدان المعذبين، طرقها رسول الله وأصحابه، ولهذا أمرهم بالاجتماع فوعظهم وقال لهم هذا الكلام، كما روى الإمام أحمد عن أبي كبشة الأنماري عن أبيه، قال: لمّا كان غزوة تبوك تسارع الناس إلى أهل الحجر يدخلون عليهم فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فنودي في الناس: الصلاة جامعة. قال: فأتيت رسول الله وهو ممسك بعيره وهو يقول: «مَا تَدْخُلُونَ عَلَى قَوْمٍ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ؟!»، فناداه رجل فقال: نعجب منهم. فقال: «أَفَلَا أُنْبِئْكُمْ بِأَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ؟ رَجُلٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ يُنْبِئُكُمْ بِمَا كَانَ قَبْلَكُمْ وَمَا هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا وَسَدِّدُوا فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَعْبَأُ بِعَذَابِكُمْ شَيْئًا».

يؤيده أن رسول الله ﷺ أحسّ من بعض أصحابه بالتثاقل عن هذه الغزوة والكراهية للشخوص نحو هذه الوجهة لكونه أمر بها في زمن عسرة وشدة من الحر وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار وأحب الناس المقام في بلادهم وكرهوا الشخوص عنها على هذه الحال، ومن أجل هذه الأسباب أحب أن يغرس في قلوب أصحابه تعظيم أمر الله ورسوله ووجوب طاعته ولزوم الخشية والخوف من مخالفة أمره ومعصية رسوله.

قال في فتح الباري: ووجه هذه الخشية هو أن البكاء يبعث على التفكر والاعتبار، فكأنه أمرهم بالتفكر في أحوال توجب البكاء في اختيار أولئك للكفر مع تمكينه لهم في الأرض وإمهاله لهم مدة طويلة، ثم إيقاع نقمته بهم وشدة عذابه عليهم، وهو سبحانه مقلب القلوب فلا يأمن المؤمن أن يكون مثل أولئك الذين أهملوا عقولهم فيما يوجب الإيمان به والطاعة له فاستحبوا العمى على الهدى، فمن مرّ عليهم ولم يتفكر فيما يوجب البكاء فقد شابههم في إهمالهم، ودل فعله على قساوة قلبه فلا يأمن أن يجره ذلك إلى العمل بأعمالهم فيصيبه ما أصابهم. انتهى.

والمقصود أنه لا يوجد في الشرع بكاء واجب محمود، بل البكاء كله مذموم إلا البكاء من خشية الله والخشوع له، فإنه مستحب، وقد أثنى الله على الذين إذا تليت عليهم آيات الرحمن خرّوا سجدًا وبكيًّا، فالبكاء الذي أمر به رسول الله ﷺ عند دخول مساكن هؤلاء المعذبين هو من جنس هذا البكاء المستحب، بحيث يثاب عليه فاعله ولا يعاقب تاركه؛ لأن السنة لا تخالف القرآن أبدًا، وقد أمر الله بالسير في الأرض للنظر في مساكن المعذبين المكذبين للرسل وكيف حقت عليهم كلمة العذاب ببغيهم وطغيانهم قال تعالى: ﴿قُلۡ سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُجۡرِمِينَ ٦٩ [النمل: 69]. وقال: ﴿أَوَ لَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَيَنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَانُوٓاْ أَشَدَّ مِنۡهُمۡ قُوَّةٗ وَأَثَارُواْ ٱلۡأَرۡضَ وَعَمَرُوهَآ أَكۡثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِۖ فَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظۡلِمَهُمۡ وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ ٩ [الروم: 9].

بل إن السكنى في مساكن المعذبين مباح في كتابه المبين. ﴿وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمۡ لَنُخۡرِجَنَّكُم مِّنۡ أَرۡضِنَآ أَوۡ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَاۖ فَأَوۡحَىٰٓ إِلَيۡهِمۡ رَبُّهُمۡ لَنُهۡلِكَنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ ١٣ وَلَنُسۡكِنَنَّكُمُ ٱلۡأَرۡضَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡۚ ذَٰلِكَ لِمَنۡ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ١٤ [ابراهيم: 13-14].

فوعد الله رسله والمؤمنين بهم أن يسكنهم مساكن عدوهم ليتم بذلك انتصارهم عليهم؛ لأن العاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين نظيره قوله: ﴿وَسَكَنتُمۡ فِي مَسَٰكِنِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ وَتَبَيَّنَ لَكُمۡ كَيۡفَ فَعَلۡنَا بِهِمۡ وَضَرَبۡنَا لَكُمُ ٱلۡأَمۡثَالَ ٤٥ [ابراهيم: 45].

فهذه الآية ليس فيها ذم السكنى في مساكن الذين ظلموا أنفسهم، وإنما فيها الدعاء إلى الاتعاظ والاعتبار بالذين ظلموا أنفسهم، فهو يقول: انظروا إلى عاقبة سوء أعمالهم، حيث سكنتم في مساكنهم وتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا فاعتبروا بهم واحذروا أن تقعوا في مثل أعمالهم فما هي من الظالمين ببعيد.

وقد أخبر الله عن فرعون وملئِه أن الله سبحانه أورث موسى وقومه ديارهم وأموالهم فقال تعالى: ﴿كَمۡ تَرَكُواْ مِن جَنَّٰتٖ وَعُيُونٖ ٢٥ وَزُرُوعٖ وَمَقَامٖ كَرِيمٖ ٢٦ وَنَعۡمَةٖ كَانُواْ فِيهَا فَٰكِهِينَ ٢٧ كَذَٰلِكَۖ وَأَوۡرَثۡنَٰهَا قَوۡمًا ءَاخَرِينَ ٢٨ [الدخان: 25-28]. أي أورثها الله موسى وقومه ومثله قوله في بني قريظة لمّا نقضوا عهد رسول الله، وظاهروا الأحزاب على حربه فأورث الله نبيه وأصحابه ديارهم وقصورهم قال تعالى: ﴿وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَٰهَرُوهُم مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مِن صَيَاصِيهِمۡ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَ فَرِيقٗا تَقۡتُلُونَ وَتَأۡسِرُونَ فَرِيقٗا ٢٦ وَأَوۡرَثَكُمۡ أَرۡضَهُمۡ وَدِيَٰرَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُمۡ وَأَرۡضٗا لَّمۡ تَطَ‍ُٔوهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٗا ٢٧ [الأحزاب: 26-27]،

فهذه الآيات وما في معناها تدل بطريق الوضوح على إباحة السكنى في مساكن المعذبين بلا كراهة، سواء في ذلك بلاد الحجر أو مدين أو غيرهما، فمن ادعى خلاف ذلك فعليه الدليل والمؤمن لدى الحق أسير والله أعلم.

* * *