المشكلة الأولى: استيطان حجر ثمود، وهل هو جائز أو محظور؟
ثبت في صحيح البخاري من كتاب الأنبياء قال: حدثنا عبد الله بن محمد الجعفي، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لمّا مر رسول الله ﷺ بالحجر قال: «لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ». ثم قنَّع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي. ثم قال: حدثنا محمد بن مسكين أبو الحسن، حدثنا يحى بن حسان بن حيان أبو زكرياء، حدثنا سليمان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، أن رسول الله ﷺ لمّا نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم ألّا يشربوا من آبارها ولا يستقوا منها، فقالوا: قد عجنا منها واستقينا، فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين ويهريقوا ذلك الماء. قال: ويروى عن سبرة بن معبد وأبي الشموس، أن النبي ﷺ أمر بإلقاء الطعام. وفي حديث ابن عمر: أمرهم أن يعلفوا الإبل العجين وأن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة. انتهى من البخاري.
فهذا الباب بمجموع الروايات التي ساقها فيه هي أصح وأكمل ما ورد في القضية، ففيه إثبات نزول النبي ﷺ بالحجر والنهي عن الدخول في مساكن المعذبين إلا أن يكونوا باكين، وفيه أمره لهم بعدم الشرب والاستقاء من الآبار إلا من بئر الناقة وأمرهم أن يعلفوا الإبل العجين، وموضع الاستدلال من الحديث هو إثبات كون النبي ﷺ نزل بأصحابه الحجر، وأنه لو كان في نزوله حرج أو أنه متأثر بنزول السخط كما يظن بعض الناس لَمَا نزل النبي ﷺ فيه بأصحابه، وإذًا لأوجب الله على نبيه صالح والمؤمنين معه بأن يهاجروا عنه، فإثبات نزول النبي ﷺ فيه بأصحابه واستقرار نبي الله صالح والمؤمنين فيه، يتبين بهذين الدليلين صحة السكنى فيه بدليل الكتاب والسنة بدون كراهة لاعتبار أن أرض الحجر هي طرف من أرض الله التي خلقها الله لعباده وبسطها لهم لاستقرارهم عليها وانتفاعهم بها وتمتعهم بخيراتها وأنواع ثمراتها، وأودع فيها الماء والمرعى وجميع ما يحتاج إليه الأنام والأنعام: ﴿كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥ﴾ [سبأ: 15]. ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ذَلُولٗا فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِۦ﴾ [الملك: 15]، فهي موهوبة لهم من الله بقول الله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا﴾ [البقرة: 29]V فلم يستثن في هذا العطاء أرضًا دون أرض ولا شيئًا منها محجورًا ﴿وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحۡظُورًا﴾ [الإسراء: 20].
فأرض الحجر هي من بعض هذه الأراضي التي خلقها الله وبارك فيها وقدر فيها أقواتها وأنبت فيها من كل شيء موزون وكل زوج بهيج وكل زوج كريم وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع النضيد، فجميع الأرض وجميع ما خلق الله فيها من الجبال والبحار والأنهار والعيون والمعادن الجامدة والسيالة وجميع ما أنبته الله فيها من النخل والزرع والشجر وسائر الثمرات والنباتات التي يستخرج منها الأغذية والأدوية والأدهان والألبان، كله من نعم الله على عباده بما لهم فيه من المنافع ودفع المضار وما لهم فيه من الاستدلال والاعتبار على وحدانية صانعه وقدرته وعظمته، يقول الله تعالى: ﴿وَٱلۡأَرۡضَ مَدَدۡنَٰهَا وَأَلۡقَيۡنَا فِيهَا رَوَٰسِيَ وَأَنۢبَتۡنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيۡءٖ مَّوۡزُونٖ ١٩ وَجَعَلۡنَا لَكُمۡ فِيهَا مَعَٰيِشَ وَمَن لَّسۡتُمۡ لَهُۥ بِرَٰزِقِينَ ٢٠﴾ [الحجر: 19-20]. فأرض الحجر هي من جنس هذه الأرض التي أعدها الله لإثبات ما ذكر، وقد أخبر الله أنه أنجى نبيه صالحًا والمؤمنين معه، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا نَجَّيۡنَا صَٰلِحٗا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ بِرَحۡمَةٖ مِّنَّا وَمِنۡ خِزۡيِ يَوۡمِئِذٍۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلۡقَوِيُّ ٱلۡعَزِيزُ ٦٦﴾ [هود: 66].
وأنهم بعد إنجائهم لم يؤمروا بالخروج من بلادهم الحجر، بل بقوا فيها كحالتهم السابقة يبنون ويغرسون ويزرعون ويأكلون من ثمرها ويشربون من مائها ويتمتعون بخيراتها على سبيل الإباحة المطلقة كحالتهم السابقة شاكرين لنعمة ربهم الذي نصرهم على عدوهم وأورثهم ديارهم وأموالهم، فمتى كان الأمر بهذه الصفة وأن المؤمنين زمن صالح سكنوا في هذه البلاد غير محجور عليهم في شيء من مطاعمها ومشاربها، فإنها تكون مباحة الانتفاع والسكنى لمن بعدهم إلى يوم القيامة، لأن شرع من قبلنا شرع لنا، إذا لم ترد شريعتنا بنسخه ولم يثبت عن رسول الله ما يدل على النهي عن سكناها، بل قد ثبت ما يدل على إباحة السكنى بها، حيث نزل بها رسول الله ﷺ بأصحابه في غزوة تبوك وأقام بها ما شاء الله أن يقيم إلى حالة أنهم عجنوا العجين لطعامهم، ومن المعلوم أن المسافرين لا يصيرون إلى عجن العجين إلا بعد مضي وقت من نزولهم، ويدل لذلك ما روى الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا صخر بن جويرية، عن نافع، عن ابن عمر، قال: نزل رسول الله ﷺ بالناس عام تبوك الحجر عند بيوت ثمود فاستقى الناس من الآبار التي تشرب منها ثمود فعجنوا أو نصبوا القدور باللحم فأمرهم رسول الله فأهرقوا القدور وعلفوا العجين الإبل، ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا وقال: «إني أخشى أن يصيبكم ما أصابهم». قال ابن كثير: وهذا الحديث إسناده على شرط الصحيحين ولم يخرجاه.
وترجم له البخاري فقال: باب نزول النبي بالحجر. فنزول رسول الله ﷺ فيه بأصحابه دليل على إباحة نزوله إلى يوم القيامة، كما أثبت الله في كتابه استقرار المؤمنين فيه زمن نبي الله صالح فاتفق الكتاب والسنة على إباحة سائر الانتفاع به من الاستيطان والغرس والزرع كسائر بلاد الله ليست حجرًا محجورًا، بل عطاء ربك ﴿وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحۡظُورًا﴾ [الإسراء: 20]. فكما أن الله سبحانه أنجى المؤمنين من شؤم السخط النازل على ثمود، فكذلك ينجي الله أرضهم وماءهم فلا يصل إليهما شيء من شؤم هذا الشر، ولا تتغير حالتهما عن الإباحة الأصلية المطلقة، فإن جميع أرض الله طولها وعرضها، ومشارقها ومغاربها مباحة الانتفاع غير محجور على أحد فيها، لقول الله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا﴾ [البقرة: 29] ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ذَلُولٗا فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِۦ﴾ [الملك: 15]. ولن تجد في أرض الله بقعة يقال إنها محجورة الانتفاع والسكنى بطريق الشرع إلا أن تكون بطبيعتها غير قابلة للانتفاع، كأراضي الثلوج والرمال الغليظة والسباخي ونحوها، كما أنك لن تجد في الدنيا ماء باقيًا على خلقته التي خلقه الله عليها، ثم هو ممنوع الاستعمال في الطهارة أبدًا.
والشبهة التي حصلت لدى بعض العلماء في القول بمنع سكنى الحجر هي مأخوذة من حديث ابن عمر كما رواه البخاري، قال: لمّا مرّ رسول الله ﷺ بالحجر قال: «لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ» ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي. انتهى.
فالقول بمرور رسول الله بالحجر لا ينفي نزوله به، فإنه يقال مرّ في سفره ببلد كذا وكذا وإن كان نزل بها يومًا أو يومين، وهذا مشهور في خطاب الناس، وحتى ابن حجر في شرحه للبخاري لمّا أتى على هذا الحديث في ترجمة باب الصلاة في أرض الخسف، ثم ساق الحديث بسنده، ثم قال: وأما الاستقرار فالكيفية المذكورة مطلوبة فيه بالأولية، أي أنها تمنع من ذلك، ثم قال: وسيأتي أنه ﷺ لم ينزل فيه البتة، ووقع له في غزوة تبوك عند شرحه لهذا الحديث حينما أتى على قوله، ثم قنع رسول الله رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي.
قال: فدل على أنه لم ينزل ولم يصل هناك.. انتهى.
لكنه لمّا استبحر في شرح الكتاب ووصل فيه إلى كتاب الأنبياء، حيث ترجم البخاري فيه: باب نزول النبي ﷺ بالحجر، ثم ساق حديث ابن عمر المستوفى مع التوابع له، فعند ذلك تبين له بطريق الجلية أن رسول الله ﷺ نزل بالحجر، فبعد شرحه لحديث ابن عمر المستوفى قال: وزعم بعضهم أنه مرّ بالحجر ولم ينزل به ويرده التصريح في حديث ابن عمر هذا. انتهى. فسبحان من لا ينام ولا يسهو، فقد استدرك ابن حجر غلطه وقرر ثبات نزول النبي ﷺ بالحجر بعد نفيه له.
فهذه الشبهة التي راجت على الحافظ ابن حجر قد راجت على كثير من العلماء، حيث قالوا بمنع السكنى به لظنهم أن رسول الله ﷺ مرّ بالحجر مسرعًا ولم ينزل به، لكون البخاري قد ذكر هذا الحديث في ثلاثة مواضع من كتابه، فذكره في كتاب الصلاة، ثم ذكره في الغزوات ثم ذكره مبسوطًا مع المتابعات في كتاب الأنبياء على قوله: ﴿وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمۡ صَٰلِحٗا﴾ [هود: 61] وترجم عليه فقال: باب نزول النبي بالحجر.
وذكر ابن إسحاق وابن جرير نزوله، وهو دليل واضح على جواز الاستيطان به، إذ لو كان نزوله والسكنى به محظورًا على أمته لما حل به.
وأما تقنيعه لرأسه وإسراعه في سيره حتى أجاز الوادي، فإنه لا يدل على أمر ولا نهي مما يتعلق بالقضية، غير أن رسول الله ﷺ عند رؤيته لبلد هؤلاء المعذبين استشعر الخشوع والخشية؛ لأن من كان بالله أعرف كان منه أخوف، وقد زالت شبهة الاستدلال بها بثبات نزوله في الحجر، وأنه لو كان في نزوله حرج أو أنه متأثر بنزول السخط لتباعد عنه النبي ﷺ ولحذر منه أمته، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، كما أخبر الله عن المؤمنين زمن نبي الله صالح أنه أنجاهم من هذا العذاب، وبقوا في أرضهم كحالتهم السابقة ولم يؤمروا بأن يهاجروا عنها، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا نَجَّيۡنَا صَٰلِحٗا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ بِرَحۡمَةٖ مِّنَّا وَمِنۡ خِزۡيِ يَوۡمِئِذٍۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلۡقَوِيُّ ٱلۡعَزِيزُ ٦٦﴾ [هود: 66] فاتفق الكتاب والسنة على إباحة الاستيطان بالحجر كسائر بلدان الحضارة، ولم يثبت عن الله ورسوله ما يقتضي النهي عن ذلك.
ثم إن دين الإسلام بمقتضى نصوصه وأصوله يمنع من تعطيل مثل هذه الأرض عن الانتفاع بها؛ لأن الله سبحانه لم يخلق الأرض عبثًا وإنما خلقها للانتفاع بها، فالحكم عليها بعدم سكناها وعمارتها هو حكم بجعلها بمثابة السوائب المعطلة عن الانتفاع والتي حرّمها الإسلام من أجله، فقال تعالى: ﴿مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِنۢ بَحِيرَةٖ وَلَا سَآئِبَةٖ وَلَا وَصِيلَةٖ وَلَا حَامٖ﴾ [المائدة: 103] فالبَحيرة: هي ابنة السائبة يشقون أذنها ثم يسيبونها، والسائبة: هي الناقة التي تسيّب في الجاهلية لنذر ونحوه، والوَصيلة: هي التي تلد عددًا من التوائم الإناث ثم يسيبونها، والحامي: هو الفحل من الإبل يضرب ضرابًا معدودًا أو عشرة أبطن ثم هو حامٍ، أي يحمى ظهره فلا يركب ولا ينتفع منه بشيء. فهذه هي السوائب فلا تحلب ولا تركب ولا يقص وبرها ولا يؤكل لحمها ولا ينتفع منها بشيء، وإنما حرّمها الله لخروجها عن سنة الله في خلقه، فإنما خلقها للانتفاع الشامل قال تعالى: ﴿أَوَ لَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّا خَلَقۡنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتۡ أَيۡدِينَآ أَنۡعَٰمٗا فَهُمۡ لَهَا مَٰلِكُونَ ٧١ وَذَلَّلۡنَٰهَا لَهُمۡ فَمِنۡهَا رَكُوبُهُمۡ وَمِنۡهَا يَأۡكُلُونَ ٧٢ وَلَهُمۡ فِيهَا مَنَٰفِعُ وَمَشَارِبُۚ أَفَلَا يَشۡكُرُونَ ٧٣﴾ [يس: 71-73]. وقد رأى النبي ﷺ عمرو بن لحي، يجر قُصْبه[131] في النار، لأنه أول من سيّب السوائب[132].
فالحكم على أرض الحجر بالمنع من الاستيطان والانتفاع هو حكم عليها بجعلها سائبة، ثم هو حكم بضياع ماليتها، فإنها أرض مال، بل كل المال يستخرج منها، وكان النبي ﷺ يقول لأصحابه: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ» حرصًا منه على حراثة الأرض لما يترتب عليها من شمول النفع للعباد والبلاد، كما حث على الغرس والزرع لما روى مسلم في صحيحه عن جابر قال: قال رسول الله ﷺ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا إِلَّا كَانَ مَا أُكِلَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ وَمَا سُرِقَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ، وَلَا يَرْزَؤُهُ أَحَدٌ إلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةً إلى يوم القيامة».
وروى البخاري ومسلم عن أنس، أن رسول الله ﷺ قال: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ إِنْسَانٌ أَوْ طَيْرٌ إِلَّا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةٌ».
وروى الإمام أحمد عن معاذ بن أنس، أن رسول الله ﷺ قال: «مَنْ بنى بنيَانًا فِي غَيْرِ ظُلْمٍ وَلا اعْتِدَاءٍ، أَوْ غَرَسَ غَرْسًا فِي غَيْرِ ظُلْمٍ وَلا اعْتِدَاءٍ كَانَ لَهُ أَجْرًا جَارِيًا مَا انْتَفَعَ بِهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ»، بل قد ورد في مسند الإمام أحمد، أن النبي ﷺ قال: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا»، فهذه الأحاديث وما في معناها هي غاية في حفز الهمم وتنشيط الأمم وبسط الأيدي على الحرث والعمل؛ لأن دين الإسلام دين سعي وكد وكدح، يجمع بين مصالح الدنيا والآخرة، يحب المؤمن المحترف ويبغض الفارغ البطال.
المسلم الحق يصلي فرضه
ويحمل الفأس ويسقي أرضه
يجمع بين الشغل والعبادة
ليكفل الله له السعادة
والقرآن الكريم مملوء بنشر فضائل الأرض وشمول نفعها وما أودع الله فيها، كله خرج مخرج التشويق والتنشيط والترغيب في حراثتها والأكل مما رزقهم منها، قال تعالى: ﴿وَءَايَةٞ لَّهُمُ ٱلۡأَرۡضُ ٱلۡمَيۡتَةُ أَحۡيَيۡنَٰهَا وَأَخۡرَجۡنَا مِنۡهَا حَبّٗا فَمِنۡهُ يَأۡكُلُونَ ٣٣ وَجَعَلۡنَا فِيهَا جَنَّٰتٖ مِّن نَّخِيلٖ وَأَعۡنَٰبٖ وَفَجَّرۡنَا فِيهَا مِنَ ٱلۡعُيُونِ ٣٤ لِيَأۡكُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦ وَمَا عَمِلَتۡهُ أَيۡدِيهِمۡۚ أَفَلَا يَشۡكُرُونَ ٣٥﴾ [يس: 33-35].
وقال: ﴿وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَ جَنَّٰتٖ مَّعۡرُوشَٰتٖ وَغَيۡرَ مَعۡرُوشَٰتٖ وَٱلنَّخۡلَ وَٱلزَّرۡعَ مُخۡتَلِفًا أُكُلُهُۥ وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَٰبِهٗا وَغَيۡرَ مُتَشَٰبِهٖۚ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ يَوۡمَ حَصَادِهِۦۖ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ ١٤١﴾ [الأنعام: 141].
وكل ما مدحه الله في كتابه وعلى لسان نبيه أو شوّق إليه وحسنه، فإنه من الدين لكون الدين شاملاً لجميع مصالح الدنيا والآخرة، وروى ابن أبي الدنيا عن ابن عباس مرفوعًا، قال: «طلب الحلال جهاد» وأن الله يحب العبد المؤمن المحترف، وروى الطبراني والبيهقي عن ابن مسعود، أن النبي ﷺ قال: «طَلَبُ الْحَلالِ فَرِيضَةٌ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ».
وقد عد العلماء الفلاحة من فروض الكفاية متى أهملتها الأمة ولم يقم من أفرادها من يكفيها أمر الحاجة إليها كانت كلها عاصية مخالفة لدينه وشرعه.
فمتى كان الأمر بهذه الصفة، وأنه لا حرث إلا بأرض طيبة، ولا أرض إلا بأيدٍ عاملة، ولا يتفق هذا كله إلا في بلد حضارة، ومن المعلوم أن أرض الحجر قابلة للماء والنماء وصالحة للعمل والعمران، كما صرح بأوصافها القرآن في قوله حاكيًا عن نبيه صالح أنه قال في موعظة قومه: ﴿أَتُتۡرَكُونَ فِي مَا هَٰهُنَآ ءَامِنِينَ ١٤٦ فِي جَنَّٰتٖ وَعُيُونٖ ١٤٧ وَزُرُوعٖ وَنَخۡلٖ طَلۡعُهَا هَضِيمٞ ١٤٨﴾ [الشعراء: 146-148] وهذه الأوصاف الجميلة لا تتفق إلا في الأرض النجيبة، فهي وإن تخلفت هذه الأوصاف عنها لعدم الرغبة في سكناها وحرثها، فإن الله على رجعها لقادر، وإذا تأملت البقاع وجدتها تسقى كما تسقى النفوس وتسعد.
ولم نجد في كتاب الله ولا سنة رسوله آية ولا حديثًا يمنع من سكناها والعمل في أرضها ما عدا نهي النبي ﷺ عن شرب الماء من آبارها لا من بئر الناقة، وهذا النهي يترجح تعلقه بالصحة والوقاية عن المياه الفاسدة الضارة، ولا يحتمل المعنى غيره؛ لأن حمله على أمر معلوم السبب أولى من حمله على أمر غير معقول المعنى مما يسمونه خلاف القياس، كما بينا ذلك في موضعه، والله أعلم.
* * *
[131] القصب: الأمعاء. [132] متفق عليه بنحوه من حديث أبي هريرة.