الحِـجْر
هو بكسر الحاء وإسكان الجيم، يطلق على معان عديدة، منها: العقل. كما قال تعالى: ﴿هَلۡ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٞ لِّذِي حِجۡرٍ ٥﴾ [الفجر: 5]، أي لذي عقل، سمي العقل حجرًا لكونه يحجر صاحبه عن المحارم وارتكاب المآثم، كما سمي عقلاً لكونه يعقل عن الله مراده: أمره ونهيه، أو لكونه يعقل صاحبه على أفعال الطاعات والفضائل، ويردعه عن منكرات الأخلاق والرذائل، ويطلق الحجر ويراد به: الحرام. ومنه قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ حِجۡرٗا مَّحۡجُورٗا ﴾ [الفرقان: 22] أي حرامًا محرمًا، ويطلق ويراد به: حجر ثمود. كما قال تعالى: ﴿كَذَّبَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡحِجۡرِ ٱلۡمُرۡسَلِينَ﴾ [الحجر: 80].
وحجر ثمود يقع في وادي القرى بين المدينة والشام، وهو داخل في حدود المملكة العربية السعودية وقد مر به النبي ﷺ عام غزوة تبوك، ومدائن صالح معروفة ومشهورة بهذا الاسم إلى اليوم، وكانت قبيلة ثمود يدينون بعبادة الأوثان، فوعظهم نبي الله صالح عليه السلام بأن يتركوا عبادتها ويعبدوا الله وحده فعصوا وعتوا عن أمر ربهم، وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد، وكانوا قد طلبوا من نبيهم آية تصدق نبوته والتزموا أن يطيعوه ويتبعوه وقالوا: إن أخرجت لنا من هذه الصخرة ناقة كالمعجزة آمنا بك وصدقناك، فدعا ربه فأخرج الله لهم من تلك الصخرة ناقة، فقال: ﴿هَٰذِهِۦ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَكُمۡ ءَايَةٗۖ فَذَرُوهَا تَأۡكُلۡ فِيٓ أَرۡضِ ٱللَّهِۖ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوٓءٖ فَيَأۡخُذَكُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ﴾ [الأعراف: 73].
وهذه الناقة هي غاية في النعمة لكنها نهاية في حلول العقاب بهم والنقمة، ولهذا ورد النهي عن سؤال الآيات لما روى الإمام أحمد عن جابر قال: قال رسول الله ﷺ: «لَا تَسْأَلُوا الآيَاتِ وَقَدْ سَأَلَهَا قَوْمُ صَالِحٍ فَكَانَتْ تَرِدُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ وَتَصْدُرُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَعَقَرُوهَا فَكَانَتْ تَشْرَبُ مَاءَهُمْ يَوْماً وَيَشْرَبُونَ لَبَنَهَا يَوْماً فَعَقَرُوهَا فَأَخَذَتْهُمْ صَيْحَةٌ أَهْمَدَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ مِنْهُمْ» إسناده صحيح ولم يخرجوه، كانت هذه الناقة إذا وردت شربت الماء وملأت كل ما عندهم من الأواني والقدور من لبنها، ثم تسرح وتعزب، ويكون لهم ورد الماء في اليوم الثاني، فيأخذون منه قدر كفايتهم في حال غيبتها عنهم، فظلوا في سعة رغد ورخاء.
وكانت الناقة تصيف إذا جاء الحر بظهر الوادي فتهرب منها المواشي، على حسب ما قيل: كأنه من أجل عظم خلقها، فسئموا منها فانبعث أشقاهم فعقرها، يقول الله تعالى: ﴿وَأُتۡبِعُواْ فِي هَٰذِهِ ٱلدُّنۡيَا لَعۡنَةٗ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ أَلَآ إِنَّ عَادٗا كَفَرُواْ رَبَّهُمۡۗ أَلَا بُعۡدٗا لِّعَادٖ قَوۡمِ هُودٖ ٦٠ ۞وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمۡ صَٰلِحٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱسۡتَعۡمَرَكُمۡ فِيهَا فَٱسۡتَغۡفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٞ مُّجِيبٞ ٦١ قَالُواْ يَٰصَٰلِحُ قَدۡ كُنتَ فِينَا مَرۡجُوّٗا قَبۡلَ هَٰذَآۖ أَتَنۡهَىٰنَآ أَن نَّعۡبُدَ مَا يَعۡبُدُ ءَابَآؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكّٖ مِّمَّا تَدۡعُونَآ إِلَيۡهِ مُرِيبٖ ٦٢ قَالَ يَٰقَوۡمِ أَرَءَيۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَءَاتَىٰنِي مِنۡهُ رَحۡمَةٗ فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ ٱللَّهِ إِنۡ عَصَيۡتُهُۥۖ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيۡرَ تَخۡسِيرٖ ٦٣ وَيَٰقَوۡمِ هَٰذِهِۦ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَكُمۡ ءَايَةٗۖ فَذَرُوهَا تَأۡكُلۡ فِيٓ أَرۡضِ ٱللَّهِۖ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوٓءٖ فَيَأۡخُذَكُمۡ عَذَابٞ قَرِيبٞ ٦٤ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمۡ ثَلَٰثَةَ أَيَّامٖۖ ذَٰلِكَ وَعۡدٌ غَيۡرُ مَكۡذُوبٖ ٦٥ فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا نَجَّيۡنَا صَٰلِحٗا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ بِرَحۡمَةٖ مِّنَّا وَمِنۡ خِزۡيِ يَوۡمِئِذٍۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلۡقَوِيُّ ٱلۡعَزِيزُ ٦٦ وَأَخَذَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيۡحَةُ فَأَصۡبَحُواْ فِي دِيَٰرِهِمۡ جَٰثِمِينَ ٦٧ كَأَن لَّمۡ يَغۡنَوۡاْ فِيهَآۗ أَلَآ إِنَّ ثَمُودَاْ كَفَرُواْ رَبَّهُمۡۗ أَلَا بُعۡدٗا لِّثَمُودَ ٦٨﴾ [هود: 60-68]. أعاد سبحانه وأبدى من ذكر قصة ثمود لتأكيد أمرها والتذكير بشأنها لتكون بمثابة العظة والعبرة، وخير الناس من وعظ بغيره، يقول الله تعالى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيۡنَٰهُمۡ فَٱسۡتَحَبُّواْ ٱلۡعَمَىٰ عَلَى ٱلۡهُدَىٰ فَأَخَذَتۡهُمۡ صَٰعِقَةُ ٱلۡعَذَابِ ٱلۡهُونِ بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ ١٧ وَنَجَّيۡنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ١٨﴾ [فصلت: 17-18].
ويظهر من صريح القرآن أن ثمود أهل حضارة عريقة في الترف، وأن لهم قصورًا في سهل الأرض ومساكن في الجبال يسكنونها في وقت الحر، وأن بلدهم خصبة وغنية بالماء والزراعة وبالنخيل الباسقة وبالحدائق والبساتين الشيقة، ولهذا ذكرهم نبيهم بهذه النعمة وأمرهم بالتحفظ عليها باستدامة شكرها، والاستعانة بها على عبادة الله وحده، وترك الشرك به، فقال تعالى: ﴿أَتُتۡرَكُونَ فِي مَا هَٰهُنَآ ءَامِنِينَ١٤٦ فِي جَنَّٰتٖ وَعُيُونٖ١٤٧ وَزُرُوعٖ وَنَخۡلٖ طَلۡعُهَا هَضِيمٞ١٤٨ وَتَنۡحِتُونَ مِنَ ٱلۡجِبَالِ بُيُوتٗا فَٰرِهِينَ١٤٩ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ١٥٠ وَلَا تُطِيعُوٓاْ أَمۡرَ ٱلۡمُسۡرِفِينَ١٥١ ٱلَّذِينَ يُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا يُصۡلِحُونَ١٥٢ قَالُوٓاْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ ٱلۡمُسَحَّرِينَ١٥٣ مَآ أَنتَ إِلَّا بَشَرٞ مِّثۡلُنَا فَأۡتِ بَِٔايَةٍ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ١٥٤﴾ [الشعراء: 146-154]، فمن هذه الآيات وأشباهها يتبين ما هم فيه من طيب طبيعة أرضهم قبل حلول العقاب بهم وأنهم في جنات، أي بساتين تجن الداخل فيها من اشتباك أشجارها، ولا تسمى جنة إلا إذا كانت بهذه الصفة، وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم، وهذه الأوصاف الجميلة لا تكون إلا في البلاد النجيبة، فأرضهم قابلة للزرع والنخل والسكنى والعمران، غنية بالفواكه والخيرات والأقوات من كل ما يعدونه من باب الضروريات، وإنما حصل التخلف منها وعدم الرغبة في سكناها وحرثها من أجل رواج هذه الفكرة التي تمنع من استيطانها وشرب مائها والوضوء به والصلاة في أرضها، ومن المعلوم أن فشو هذا الاعتقاد من لوازمه التباعد عن مثل هذه البلاد لتعارض المانع للمقتضى، مع العلم أنه لا يزال مسكونًا إلى حد الآن، كما سيأتي بيانه فيما يلي.