الضرورة الملحة في حاجة الناس إلى العمل بالسنة
إنه مما لا شك فيه أن السنة علم واسع يتعلق بجميع ما يحتاج إليه الناس في أمر دينهم ودنياهم ومعادهم وجهادهم وبيعهم وشرائهم وما يلتحق بذلك من الإيجار والعارية والهبة والوقف والصلح والنكاح والطلاق. فالرسول ﷺ يتحدث عن إصلاح المجتمع وعن عوامل الهدم التي تعمل عملها على تقويض دعائمه، وعن عوامل البناء التي تعمل على إقامته على قواعده السليمة، ويتحدث عن النظم التي ينبغي أن تسود المجتمع الإنساني، وعن الأوضاع التي يجب أن تستقيم وعن الأعمال التي يجب أن تجتنب.
وللسنة جو لغوي، فالرسول ﷺ قد أُوتي جوامع الكلم، وكلامه ﷺ أبلغ الكلام البشري، ونشر السنة عامل من أهم العوامل على ترقية اللغة التي يكتب بها الكُتّاب وعلى وضع الناشئين والمثقفين في وضع أدبي ممتاز، من حيث اللغة ومن حيث الأسلوب، كقوله: «اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ»[129].
وللسنة أدبها الواسع في تهذيب النفس وتربية الروح وسمو الأخلاق إلى درجة لا تجارى، يقول الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسۡتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمۡ لِمَا يُحۡيِيكُمۡ﴾ [الأنفال: 24] فعلمنا أن الحياة الحقيقية هي في اتباع ما جاء به الرسول، فأهلها هم أحياء وإن كانوا في القبور، كما أن الإعراض عما جاء به الرسول هو الموت وإن كان صاحبه يمشي على الأرض، عما قيل:
أخو العلم حيّ خالد بعد موته
وأوصاله تحت التراب رميم
وذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى
يعد من الأحياء وهو عديم
ومن أجل ذلك كله كان نشر السنة واجبًا دينيًّا وعملاً اجتماعيًّا وواجبًا وطنيًّا حتميًّا وإصلاحًا أخلاقيًّا. وهو على كل حال ضرورة ملحة في عصر تحاول فيه الرذيلة أن تطغى على الفضيلة، ويحاول الانحلال الخلقي أن يعم كل أُسرة وفي كل بيت، ويحاول الفساد أن يأتي على مقدسات الأمّة ومقوماتها من كل عرض وشرف وكرامة.
لقد أحب الله للإنسانية مثالاً أخلاقيًّا كريمًا رسمه سبحانه في القرآن الكريم قولاً، فكان الرسول ﷺ الصورة التطبيقية الكاملة للرسم الإلهي، وكان بذلك الإنسان الكامل. يقول الله في حق نبيه: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ ٤﴾ [القلم: 4].
لقد كان رسول الله المثل الأعلى في الرحمة والمثل الأعلى في الصبر، والمجاهد الأكبر والمثل الأعلى في الصدق وفي الإخلاص وفي الوفاء وفي البر وفي الكرم. ولا ريب في أن الأمة الإسلامية حينما تقتدي بالرسول ﷺ إنما تقتدي بأعظم البشر رجولة وإنسانية، وتقتدي بمن أحب الله سبحانه أن يُقتدى به: ﴿لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ لِّمَن كَانَ يَرۡجُواْ ٱللَّهَ وَٱلۡيَوۡمَ ٱلۡأٓخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا ٢١﴾ [الأحزاب: 21].
وإن العمل على نشر السّنة إنما هو توجيه للاقتداء بالرسول ﷺ وقد سمى الله السنة في كتابه باسم الحكمة، لقوله سبحانه: ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ﴾ [البقرة: 151] لكونها تفسر بإصابة الحق في القول والعمل. وأن الدعوة إلى ترك السنة اكتفاء بالقرآن الكريم دعوى باطلة، وقد حذرنا رسول الله ﷺ من هذا الضلال، فروى الحاكم في مستدركه، أن رسول الله ﷺ قال: «يُوشِكُ أَنْ يَقْعُدَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ عَلَى أَرِيكَتِهِ فَيُحَدَّثُ بِحَدِيثِي فَيَقُولُ: بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَلَالًا اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَرَامًا حَرَمْنَاهُ، وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ».
وروى أبو داود عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه، أن رسول الله ﷺ قال: «لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الأَمْرُ مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ، فَيَقُولُ: لا نَدْرِي، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ».
وروى أبو داود والترمذي وابن ماجه عن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله ﷺ: «أَلَا إِنِّى أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ أَلَا إِنِّى أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ يَنْثَنِى شَبْعَاناً عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ، ألا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَمَا حَرَّمَ اللَّه».
وعن حسان بن عطية، أنه قال: «كَانَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ عَلَى النَّبِىِّ ﷺ بِالسُّنَّةِ كَمَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ ويعلمه إياها كما يعلمه القرآن. وعن مكحول قال: قال رسول اللهﷺ: «آتاكم الله القرآن ومن الحكمة مثليه»» أخرجهما أبو داود في مراسيله.
وقيل لمطرّف بن عبد الله بن الشّخير: لا تحدثونا إلا بالقرآن. فقال: والله ما نبغي بالقرآن بدلاً ولكن نريد من هو أعلم منا بالقرآن - يعني النبي ﷺ - وإن سنته شرح للقرآن.
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «لَعَنَ اللهُ الوَاشِمَاتِ وَالمُسْتَوْشِمَاتِ، وَالمُتَنَمِّصَاتِ، وَالمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ، المُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللهِ. فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ، فَقَالَتْ: يا أبا عبد الرحمن، بَلَغَنِي أَنَّكَ لَعَنْتَ كَيْتَ وَكَيْتَ. فقَالَ: وَمَا لِي لا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَه رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وَهُوَ فِي كِتَابِ اللهِ؟ فقَالَتْ المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته. فقَالَ: لَئِنْ كُنْتِ قَرَأتِيهِ فقَدْ وَجَدْتِيهِ، أَمَا قَرَأتِ: ﴿وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْ﴾ [الحشر: 7].. قَالَتْ: بَلَى. قَالَ: فَإِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْهُ رَسولُ اللهِ ﷺ»[130]. هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
19 جمادى الآخرة 1399هـ.
* * *
[129] أخرجه الترمذي والإمام أحمد من حديث أبي ذر. [130] متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود.