متقدم

فهرس الكتاب

 

ضلال القائلين بالاستغناء بالقرآن عن السنة

إنه من المعلوم بطريق العقل والنقل أنه لا غنى للناس عن السنة أبدًا، إذ هي المصدر الثاني في التشريع، وأن دعوة الناس إلى الاستغناء بالقرآن عن السنة هي دعوة إلحادية حاولوا بها الحط من شطر الدين وتفسير ما أجمل أو أُبهم في القرآن، ليتمكنوا بذلك من الحط من الشطر الثاني- أي القرآن الحكيم- حتى يعيشوا في الدنيا عيشة البهائم، ليس عليهم أمر ولا نهي، ولا صلاة ولا صيام، ولا حلال ولا حرام، ﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأۡكُلُونَ كَمَا تَأۡكُلُ ٱلۡأَنۡعَٰمُ وَٱلنَّارُ مَثۡوٗى لَّهُمۡ [محمد: 12].

وقد قال عمر بن عبد العزيز: إن رسول الله ﷺ قد سنّ سننًا؛ الأخذُ بها اعتصام بكتاب الله وقوة في دين الله، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر في أمر يخالفها، من اهتدى بها فهو المهتدي ومن استنصر بها فهو المنصور، ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا.

فالرسول ﷺ كان يبين للناس ما نزل إليهم من القرآن بمقتضى أقواله وأفعاله وتقريراته، ويقول: «ما تركت من شيء يقرّبكم من الجنة إلا أخبرتكم به، ولا شيء يباعدكم عن النار إلا حذرتكم عنه»[122].

وعن عمران بن حصين، أنه قال لرجل يريد أن يقتصر على القرآن دون السنة، فقال له: إنك امرؤ أحمق، أتجد في القرآن أن الظهر أربع ركعات لا يجهر فيها بالقراءة حتى عد عليه الصلاة والزكاة ونحوها، ثم قال: إن كتاب الله أبهم أشياء كثيرة من نوع ذلك، وإن السنة تفسر ذلك[123].

ولقد سئل أبو بكر عن ميراث جدّة أُم الأب مع الأب، فقال: ما لك في كتاب الله من شيء، ولكني أسأل الناس. فسأل الصحابة فشهد المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة أن النبي ﷺ أعطاها السدس فأمضاه أبو بكر. وأراد عمر أن يفاوت بين الأصابع في الدية حتى شهد عنده بعض الصحابة أن رسول الله ﷺ قال: «الْخِنْصَرَ وَالْإِبْهَامَ سواء كُلّ أُصْبُع عَشْرٌ مِنَ الإِبِلِ»[124] فأمضاها.

ولم يكن ليعلم أن المرأة ترث من دية زوجها، حتى كتب إليه الضحاك بن فيروز الديلمي وكان أميرًا لرسول الله على بعض البوادي، فكتب إلى عمر يخبره أن رسول الله ورّث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها.

ولم يكن ليعلم حكم الشرع في أخذ الجزية من المجوس حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف بقول النبي ﷺ: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ»[125]، ولم يكن عثمان بن عفان رضي الله عنه يعلم أن المتوفى عنها زوجها تعتد في بيت زوجها أطول الأجلين، حتى أخبرته الرُّبيع بنت مالك أُخت أبي سعيد الخدري بقضيتها لما توفي عنها زوجها، وأن رسول الله ﷺ أمرها أن تمكث في بيت زوجها حتى يبلغ الكتاب أجله فأخذ بها عثمان وأمضاها.

إلى غير ذلك من النصوص التي جاءت بها السنة ولم تكن مذكورة في القرآن، فلما أُخبروا بها سمعوا وانقادوا وقالوا: ﴿سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا [البقرة: 285] ﴿مَّن يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدۡ أَطَاعَ ٱللَّهَۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ حَفِيظٗا ٨٠ [النساء: 80].

وحتى خبر الواحد العدل يفيد العلم اليقيني بأدلة كثيرة عند جماهير العلماء من الأولين والآخرين، وهو ما لا يرويه إلا الواحد العدل ولم يتواتر لفظه ولا معناه، ولكن تلقته الأمّة بالقبول عملاً به أو تصديقًا له، كخبر عمر بن الخطاب: «إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»[126]، وكخبر ابن عمر: نهى رسول الله عن بيع الولاء وهبته[127]، وقد أنهى العلامة ابن القيم صحة قبول خبر الواحد إلى عشرين وجهًا[128]، كلها تثبت صحة قبول خبر الواحد متى توفرت أسباب الصحة فيه كغيره.

* * *

[122] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان من حديث عبد الله بن مسعود. [123] أخرجه ابن بطة في الإبانة من حديث عمران بن حصين. [124] أخرجه الترمذي من حديث ابن عباس. [125] أخرجه مالك في الموطأ من حديث عبد الرحمن بن عوف. [126] متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب. [127] متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر. [128] في صفحة 394- ج2 من الصواعق المرسلة.