السنة التي ندعو إلى الإيمان بها والحكم بموجبها
إن من الواجب على كل مسلم متابعة الرسول في المعقول والمنقول؛ لأن الرسول ﷺ قد بيّن للناس بطريق التلقين والتعليم جميع ما يحتاجون إليه في أمر دينهم ودنياهم. قال تعالى: ﴿كَمَآ أَرۡسَلۡنَا فِيكُمۡ رَسُولٗا مِّنكُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِنَا وَيُزَكِّيكُمۡ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمۡ تَكُونُواْ تَعۡلَمُونَ ١٥١﴾ [البقرة: 151].
فأخبر سبحانه أنه أرسل رسولاً منهم يعرفون نسبه وصدقه وأمانته، يتلو عليهم آياته القرآنية ويلقنهم حفظها، ويسألونه عما أشكل عليهم منها. قال ابن مسعود: كنا إذا تعلمنا عشر آيات لم نتجاوزهن حتى نتعلم معانيهن والعمل بهن[119]. ثم قال: ﴿وَيُزَكِّيكُمۡ﴾، أي بالمحافظة على الفرائض والفضائل، واجتناب منكرات الأخلاق والرذائل؛ لأن هذه الأعمال هي التي تزكي النفوس وتشرفها وتنشر في العالمين فخرها، وقد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها.
ثم قال: ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ﴾، فالكتاب هو القرآن والحكمة هي السنّة، فكان رسول الله ﷺ يعلم أصحابه الكتاب والسنّة. ويقول: «إِنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّمًا»[120]. ﴿وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمۡ تَكُونُواْ تَعۡلَمُونَ﴾ من كل ما يحتاجون إليه في أمر دينهم ودنياهم.
فالرسول بيّن للناس جميع الدين بالكتاب والسنة، وأن الله لم يرسل رسولاً إلا ليطاع بإذن الله، يقول الله تعالى: ﴿مَّن يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدۡ أَطَاعَ ٱللَّهَۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ حَفِيظٗا ٨٠﴾ [النساء: 80].
ومعنى شهادة أن محمدًا رسول الله هي طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألّا يعبد الله إلا بما شرع، فمن واجب المؤمن أن يعرف حقيقة ما أخبر به رسول الله، وأنه الحق لكونه لا يقول إلا حقًّا، وأن من عصى الرسول فقد عصى الله.
فمن واجب أهل العلم والإيمان التسليم والقبول لما جاء به الرسول من صحيح المنقول، إذ الحكمة في بعث الرسل هو طاعتهم فيما أمروا واجتناب ما عنه نهوا وزجروا، وسواء أدركوا معرفة ذلك بعقولهم أو لم يدركوه.
ثم إن السنّة التي ندعو إلى الإيمان بها والعمل بموجبها، هي السنة الثابتة عن النبي ﷺ بنقل الثقات الأثبات عند أهل المعرفة والعلم بالحديث، الذين يميزون بين الصحيح والضعيف، فهم يعرفون رجال الحديث وصحته كما يعرفون أبناءهم.
ولسنا نعني ما في بطون الكتب من التفاسير وكتب الفقه والترغيب والترهيب ونحوها، فإن في هذه الكتب الشيء الكثير من الأحاديث الضعيفة والموضوعة مما يتبرأ منها الإسلام، وليست من كلام محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وقد تصدى لهذه الأحاديث علماء نقّاد فأخرجوها عن حيز الاعتبار بما يسمى كتب الموضوعات.
فمن واجب أهل العلم بالله ألّا يتجرؤوا على الاستشهاد والاحتجاج بالحديث إلا بعد التأكد من ثبوته وصحته، إذ إن كتب الفقه المتداولة بأيدي الناس من شتى المذاهب مشحونة بالأحاديث الضعيفة والموضوعة، ينقلها بعضهم عن بعض.
وعلى كل حال، فإن كل من تصدّى للقضاء أو التفسير أو التأليف في الفقه أو في غيره من سائر العلوم الشرعية، فإنه لن يستغني عن الاستعانة بسنة رسول الله ﷺ القولية والفعلية، إذ هي من الأمر الضروري ولن يتم أمره بدونها، إذ هي بمثابة المصابيح التي يهتدى بها.
وكلما كان الشخص عالما بالسنة ومتوسعًا في حفظها وفهمها، فإنه سيكون أقدر وأجدر على معرفة تفسير القرآن واستنباط المعاني والأحكام ممن هو جاهل بها ﴿أَفَمَن يَخۡلُقُ كَمَن لَّا يَخۡلُقُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ١٧﴾ [النحل: 17].
إن أكثر ما أبعد ضُلَّال المسلمين من علماء الكلام قديمًا وحديثًا عن الدين، هو بعدهم عن السنة وضعف نصيبهم منها، فحكموا عقولهم وآراءهم في القول على الله وتحريف كلام الله وصفاته حتى وصفوا الرب بالجمادات، فأنكروا كلام الله وأنكروا صفاته بطريق تحريفها وصرفها عن المعنى المراد منها. فقالوا: القرآن مخلوق والله لا يتكلم. وقالوا: إن الله سميع بلا سمع وبصير بلا بصر، ووجه الله عظمته، ويده قدرته، ونزوله نزول أمره، والاستواء على العرش بالاستيلاء، وأنكروا رؤيته في الآخرة. وغير ذلك من تحريف الكلم إلى غير المعنى المراد منه.
وهذه التحريفات إنما حدثت بعد انقضاء عصر الصحابة الذين تلقوا معاني التنزيل من الرسول -عليه أفضل الصلاة والتسليم- فكانوا أعلم الناس بالتأويل ولم يقع منهم تحريف للصفات بصرفها عن غير المعنى المراد بها، وبعد انقضاء عصر التابعين انقسم العلماء فريقين: فريق يقال لهم علماء السنة، وفريق يقال لهم علماء الكلام. فأهل السنة وقفوا مع القرآن، فأثبتوا ما أثبته الله لنفسه من الصفات بدون تشبيه ولا تعطيل ﴿لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11] وقالوا: إن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فكما أن لله ذاتًا لا تشبه ذوات المخلوقين، فكذلك له صفات لا تشبه صفات المخلوقين. وقد قال في شرح العقيدة الطحاوية[121]:
كيف يتكلم في أُصول الدين من لا يتلقاه من الكتاب والسنة، وإنما يتلقاه من قول فلان وعلماء الكلام؟! ومن زعم أنه يأخذه من كتاب الله وهو لا يتلقى تفسيره من كتاب الله ولا من أحاديث رسول الله، ولا ينظر فيما قاله الصحابة فإنه يعد خاطئًا خارجًا عن حدود الحق. فإن المنقول إلينا من السنة عن الثقات الذين تخيرهم النقاد: أنهم لم ينقلوا إلينا نظم القرآن وحده فقط، بل نقلوا نظمه ومعناه، ولا كانوا يتعلمون القرآن كما يتعلم الصبيان، بل كانوا يتعلمونه بمعانيه، وكل من لا يسلك سبيلهم في العلم والتعلم والعمل، فإنما يتكلم برأيه وهواه، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله.
والحاصل: إن من يتكلم برأيه وبما يظنه من دين الله ولم يتلق ذلك من الكتاب والسنة، فإنه مأثوم وإن أصاب، وإن أخذه من الكتاب والسنة، فإنه مأجور وإن أخطأ. انتهى.
فالواجب على المسلمين جميعًا وجوب الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله وإقامة التشريع عليهما، فإن هذا هو الضمان لهم والكفيل بعلاج عللهم وإصلاح مجتمعهم ﴿قُلۡ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدٗى وَشِفَآءٞ﴾ [فصلت: 44] وحتى لا يرجعوا القهقرى ضلالاً كما حذرهم رسول الله من ذلك بقوله: «تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَىَّ الْحَوْضَ». رواه مالك بلاغًا والحاكم موصولا بإسناد حسن.
* * *
[119] أخرجه ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو. [120] أخرجه البيهقي في سننه وشعب الإيمان عن ابن مسعود. [121] ص 312 من الطبعة الرابعة.