القواعد الأصولية الواصلة إلى الناس عن طريق السنة النبوية
إن أكثر القواعد والعقائد والأصول إنما استفادها العلماء والحكماء عن طريق السنة النبوية، حتى قيل: إن حاجة الناس للعلم بالسنة والعمل بها أشد من القرآن. مع العلم أن القرآن هو الأصل، فمن ذلك قوله ﷺ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» وهذا الحديث رواه البخاري عن عمر. وقد اعتمده الفقهاء من إحدى القواعد التي عليها مدار صحة الأعمال وفسادها وهي خمس قواعد، أحدها: الضرر يزال، والثانية: العادة محكّمة، والثالثة: المشقة تجلب التيسير، والرابعة: الشك لا يرفع اليقين، والخامسة: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى». إذ مدار الأعمال الصالحة على إخلاص العمل وصوابه، ومنها ما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر، أن النبي ﷺ قال: «بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ».
فهذه الأركان التي بني عليها الإسلام ذكرت مفرقة في القرآن بدون ذكر البناء، ومن غير السهل حفظ العوام لها مفرقة. وقد سبكها رسول الله ﷺ بانسجام حسن لتكون عقيدة العلماء والعوام وللخاص والعام، ولن توجد بهذه الصفة في غير السنة حتى صارت عقيدة وطريقة لسائر الموحدين السلفيين يحفظها العوام فضلا عن العلماء الأعلام. ومنها قوله ﷺ: «مَنْ أَحْدَثَ فِى أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ» رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة. وفي رواية لمسلم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهْوَ رَدٌّ» فهذا الحديث مبني على الإخلاص والمتابعة لكون العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا على نهج السنة، فإنه مردود على فاعله.
إذ إن من واجب الإيمان برسول الله - عليه الصلاة والسلام - هو طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع، إذ لا مدخل للعقول والآراء في عبادة الله- عز وجل- لكون العبادة هي ما أتى به الشارع حكمًا من غير اضطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي، وهي مبنية على التوقيف والاتباع لا على الاستحسان والابتداع. يقول الله سبحانه: ﴿وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْ﴾ [الحشر: 4].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنه يجب على كل مسلم التصديق بما أخبر الله به ورسوله، وأنه ليس موقوفًا على أن يقوم دليل عقلي على ذلك الأمر أو النهي بعينه، فإن مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الرسول إذا أخبر بشيء وجب علينا التصديق به وإن لم نعلم بعقولنا حكمته، ومن لم يقرّ بما جاء به الرسول حتى يعلمه بعقله فقد أشبه الذين قالوا: ﴿لَن نُّؤۡمِنَ حَتَّىٰ نُؤۡتَىٰ مِثۡلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ ٱللَّهِۘ﴾ [الأنعام: 124] ومن سلك هذا السبيل فليس في الحقيقة مؤمنًا بالرسول ولا متلقيًا عنه الأخبار بالقبول، ولا فرق عنده بين أن يخبر الرسول بشيء من ذلك أو لم يخبر به.
فإن ما أخبر به إذا لم يعلمه بعقله لا يصدق به، بل يتأوله أو يفوضه، وما لم يخبر به إن علمه بعقله آمن به، فلا فرق عند من سلك هذا السبيل بين وجود الرسول وإخباره وبين عدم وجود الرسول وإخباره. وصار ما يذكر من القرآن والحديث والإجماع عديم الأثر عنده. انتهى.
ومنها قوله ﷺ في حديث بريرة: «كل شَرْطٍ لَيْسَ فِى كِتَابِ اللَّهِ فَهْوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ، وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» رواه البخاري من حديث عائشة.
ومنها ما رواه البخاري عن أبي جحيفة قال: «قُلْتُ لِعَلِىٍّ هَلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ قَالَ لَا، إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ، أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، أَوْ مَا فِى هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. قَالَ قُلْتُ فَمَا فِى هَذِهِ الصَّحِيفَةِ قَالَ الْعَقْلُ، وَفَكَاكُ الأَسِيرِ، وَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ». رواه أحمد وأبو داود والنسائي من حديث عليّ بلفظ: «الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَهُمْ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ»، وصححه الحاكم. فأخبر النبي ﷺ أن الإسلام يساوي بين الناس في دمائهم ودياتهم، فيجعل دية المقعد الأعمى والأصم بمثابة دية الشاب السوي القوي إذ النفس بالنفس والجروح قصاص. ثم قال: «وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ»، فأيما رجل آجر رجلاً أو رجالاً في ذمته، فحرام على المسلمين أن يخفروا ذمته حتى ولو كان المجير امرأة، كما قال النبي ﷺ: «قد أَجرْنا من أجَرْتِ يا أم هانئ»[115].
وأما قوله: «وهم يد على من سواهم»، فمعناه: أنه متى بغى عدو على طائفة أو أهل بلد من المسلمين، فإن الواجب أن يكونوا كاليد الواحدة في دحر نحره ودفع شره، إذ المؤمنون بعضهم أولياء بعض، ولو ذهبنا نتتبع النصوص والأصول المستفادة عن طريق السنة لخرج بنا الاستطراد من موضوع ما عزمنا عليه من الاختصار والاقتصار.
وحتى الحيوان فقد جاءت السنة بمشروعية رحمته والرفق به والإحسان إليه؛ ففي الحديث أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» رواه مسلم من حديث أبي يعلى شداد بن أوس. وفي البخاري أن النبي ﷺ قال: ««بينا كلب يدور على بئر يلهث عطشًا إذ نزعت له امرأة بغي موقها فسقته فشكر الله لها ذلك فغفر لها». فقالوا: يا رسول الله أولنا في البهائم أجر؟ فقال: «نعم، إن في كل كبد رطبة لأجرًا». وقال: «دخلت النار امرأة في هرّة حبستها لا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت»»[116]، ونهى أن تتخذ ذات روح غرضًا[117] - أي هدفًا- للرمي، كما لعن من وسم دابة في وجهها[118].
فهذه النصوص تستفاد من السنة، ولو ذهبنا نتتبع أمثال ذلك لخرج بنا عن موضوع الاختصار والاقتصار.
والحاصل أن من ادعى الاكتفاء بالقرآن عن السنة فإنه ليس مؤمنًا بالقرآن ولا بالسنة، لكون التكذيب بأحدهما مستلزمًا للتكذيب بالآخر، فيكون ممن قال الله فيهم: ﴿وَيَقُولُونَ نُؤۡمِنُ بِبَعۡضٖ وَنَكۡفُرُ بِبَعۡضٖ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيۡنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا١٥٠ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ حَقّٗاۚ وَأَعۡتَدۡنَا لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا١٥١﴾ [النساء: 150-151].
[115] متفق عليه من حديث أم هانئ. [116] متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر. [117] أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمر. [118] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف من حديث جابر.