متقدم

فهرس الكتاب

 

حاجة البشر الضرورية إلى العلم بالسنة والعمل بأحكامها وحلالها وحرامها

وإذا أردت أن تعرف قدر منزلة السنة من القرآن ومن الشريعة، وأن الناس في حاجتهم إلى السنة وحكمها وتنظيمها وحلالها وحرامها هو بمثابة حاجتهم للقرآن.

فمن ذلك أن الله سبحانه فرض الصلاة على عباده المؤمنين كتابًا موقوتًا، أي مفروضة في الأوقات، وأمر سبحانه في كتابه بإقامة الصلاة وبالمحافظة على الصلاة وباستدامة فعل الصلاة، فمن أين نجد في القرآن أن صلاة الظهر أربع ركعات بعد زوال الشمس، وأن صلاة العصر أربع ركعات إذا صار ظل كل شيء مثله، وأن صلاة المغرب وتر النهار ثلاث ركعات بعد غروب الشمس إلى أن يغيب الشفق، وأن صلاة العشاء أربع ركعات بعد غيبوبة الشفق إلى نصف الليل، وأن صلاة الفجر ركعتان، وهل يوجد هذا التفصيل بهذا التفسير إلا في السنة المطهرة، ومن ذلك أن الله سبحانه قال: ﴿وَإِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن يَفۡتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ [النساء: 101]، فكأن إباحة القصر مشروطة بخوف الفتنة، وقد قال يعلى بن أمية لعمر بن الخطاب: ما هذا القصر وقد أُمنَّا. فقال عمر: لقد عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله ﷺ عن ذلك. فقال: «هُوَ صَدَقَةٌ مِنَ اللَّهِ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ»[109]. فمن أين نجد هذه الصدقة من القرآن؟.

ومثله الزكاة، فقد أوجبها الله حتى على من كان قبلنا، ومدح في كتابه من آتى الزكاة فيما يزيد على مائة آية، لكنها مطلقة غير مفصلة لا بنصاب ولا جنس، وإنما السنة بينت أنصبة الزكاة والجنس الزكوي الذي تجب فيه الزكاة، فبينت أن في النقود والتجارة ربع العشر مع بيان نصاب كل جنس من الذهب والفضة، وبينت أنصبة الحبوب والتمور، وأن ما سقي بكلفة ومؤنة ففيه نصف العشر، وما سقي بالسّيح أو المطر ففيه العشر، وفي الركاز الخمس ومثله التفصيل في زكاة الإبل والغنم. فمن أين نجد في القرآن مثل هذا التفصيل والبيان؟!

ومثله البيع، فقد أحل الله البيع وحرّم الربا، وليس كل بيع حلالاً، فقد حرّمت السنة أشياء من البيوع كبيع الربا وبيع الخمر وبيع لحم الخنزير وبيع الغرر والغش والخداع وبيع الأصنام، ومنها الصور المجسمة إلى غير ذلك من الميتة وبيع البيوع المحرمة. وكما جاءت السنة أيضًا بإثبات خيار المجلس بين المتبايعين، كما في البخاري عن حكيم بن حزام، أن النبي ﷺ قال: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِى بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا» وهذا يسمى خيار المجلس حتى لو سلم الثمن واستلم المشتري السلعة، فإن لكل واحد منهما الخيار ما داما في المجلس وإن طال، فمن أين نجد هذا التفصيل في القرآن متى عدلنا عن السنة أو استغنينا عنها بالقرآن؟!.

ثم إن الله حرّم أكل الميتة، فقال سبحانه: ﴿حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةُ وَٱلدَّمُ [المائدة: 3] فجاءت السنة المطهرة فأباحت للناس ميتتين ودمين وهما السمك والجراد والطحال والكبد.

ومن ذلك أن الله سبحانه حرّم الخمر في كتابه المبين على الإطلاق بدون تفصيل، فجاءت السنة فحرّمت كل ما أسكر كثيره. فقليله حرام، وهو خمر من أي شيء كان.

وكل مسكر خمر وكل خمر حرام من أي شيء كان حتى لو وجد عين ماء شرب منها سكر لحكمنا بكونها خمرًا اعتبارًا بالميزان الشرعي.

ومن ذلك أن الله سبحانه أوجب قطع يد السارق، بقوله سبحانه: ﴿وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوٓاْ أَيۡدِيَهُمَا جَزَآءَۢ بِمَا كَسَبَا نَكَٰلٗا مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ ٣٨ [المائدة: 38]. فجاءت السنة الثابتة من حديث رافع بن خديج، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلا كَثَرٍ». رواه أحمد والأربعة وصححه الترمذي وابن حبان. فأثبتت السنة العفو عن سارق الثمر والكثر وهو جمار النخل. وكما جاءت السنة أيضًا بقوله ﷺ: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ»[110] وبقوله: «ادفعوا الْحُدُودَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ»[111] فبالله قل لي: من أين نجد هذه الأحكام من كتاب الله وفي أي سورة نجدها لولا أن السنة هي التي تفصل القرآن وتفسره وتعبر عنه وتبين ما سكت عنه.

ومن ذلك أن الله سبحانه أباح للناس الزينة فقال سبحانه: ﴿قُلۡ مَنۡ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيٓ أَخۡرَجَ لِعِبَادِهِۦ وَٱلطَّيِّبَٰتِ مِنَ ٱلرِّزۡقِ [الأعراف: 32] فجاءت السنة فحرّمت الذهب قليله وكثيره على الرجال، كما في الحديث: «أُحِلَّ الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ لِإِنَاثِ أُمَّتِي، وَحُرِّمَ عَلَى ذُكُورِهَم»[112].

ولما رأى النبي ﷺ خاتم ذهب بيد رجل فطرحه بالأرض غضبًا على صاحبه، فقال: «يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إِلَى جَمْرَةٍ مِنْ نَار فيضعها في أصبعه»[113]، فلما انصرف النبي ﷺ قيل لصاحب الخاتم: خذ خاتمك وانتفع به. قال: لا والله لا أرفعه عن الأرض وقد طرحه رسول الله فيها. من شدة استجابته للحق.

ومن ذلك قوله سبحانه: ﴿قُل لَّآ أَجِدُ فِي مَآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطۡعَمُهُۥٓ إِلَّآ أَن يَكُونَ مَيۡتَةً أَوۡ دَمٗا مَّسۡفُوحًا أَوۡ لَحۡمَ خِنزِيرٖ فَإِنَّهُۥ رِجۡسٌ أَوۡ فِسۡقًا أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦ [الأنعام: 145]. فجاءت السنة فحرّمت كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، أي الذي يصيد بنابه، كالكلب والسبع والذي يصيد بمخلبه كالصقر، وكما حرّمت السنة أكل الحمر الأهلية ولم توجد هذه كلها في القرآن.

وفي القرآن المنزل: ﴿يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيٓ أَوۡلَٰدِكُمۡۖ لِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِ [النساء: 11] فجاءت السنة فمنعت الإرث بين الوالدين والأولاد مع اختلاف الدين، فقال: «لَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ وَلَا الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ»[114]. وكما أن القاتل لا يرث من قتله، ثم إن الله سبحانه قال في كتابه من بعد قسمه للمواريث فقال: ﴿مِنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ يُوصِينَ بِهَآ أَوۡ دَيۡنٖ [النساء: 12] فجاءت السنة فحكمت ببداءة الدين قبل الوصية، كما حكمت بأن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث، وهذه إنما توجد في السنة لا في القرآن، ثم إن رجلا أعتق ستة مماليك له عند موته ولم يكن له مال غيرهم، فجزأهم النبي ﷺ أثلاثًا، فأعتق اثنين وأرق أربعة، وقال له قولاً شديدًا، فدل دلالة قطعية على أن المريض محجور عليه فيما زاد على الثلث، فمن أين نجد هذا في القرآن لو لم نرجع في تفصيلها إلى السنة؟! ولولا السنة لاستحللنا أشياء مما حرّم الله علينا.

ولهذا قال بعض السلف: إن السنة تقضي على القرآن وتعبر عنه وتبين ما سكت عنه، ومن ذلك أن الله سبحانه قال: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٍ أَن يَقۡتُلَ مُؤۡمِنًا إِلَّا خَطَ‍ٔٗاۚ وَمَن قَتَلَ مُؤۡمِنًا خَطَ‍ٔٗا فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖ وَدِيَةٞ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ [النساء: 92] فأطلق هذه الدية ولم يقيّدها بجنس ولا صفة ولا عدد، فجاءت السنة ففصّلتها وفسرتها بالإبل وبالذهب والفضة.

ومثله قوله ﷺ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِىَ فَهُوَ لأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ». رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس، وهذا الحديث يشتمل على قاعدة عظيمة من قواعد علم الفرائض وقسم التركات. فهو مع اختصار لفظه وجزالة معناه قد جمع علم الفرائض مما اختص رسول الله ببيانه من كل ما أجمل أو أبهم في القرآن مما لا يستطيع أحد إحاطة العلم بمدلوله عن طريق القرآن وحده.

* * *

[109] رواه مسلم وأهل السنن. [110] أخرجه الترمذي والبيهقي في الكبرى من حديث عائشة. بلفظ «ما استطعتم». [111] أخرجه البيهقي في الكبرى من حديث عائشة. [112] أخرجه الإمام أحمد من حديث أبي موسى الأشعري. [113] أخرجه مسلم من حديث ابن عباس بلفظ: «فيجعلها في يده». [114]متفق عليه من حديث أسامة بن زيد.