متقدم

فهرس الكتاب

 

فصل في تفسير قوله تعالى: ﴿وَٱلنَّجۡمِ إِذَا هَوَىٰ١مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمۡ وَمَا غَوَىٰ٢ [النجم: 1-2].

يقول الله سبحانه: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمۡ وَمَا غَوَىٰ ٢ وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰٓ ٣ إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡيٞ يُوحَىٰ ٤ [النجم: 2-4]. قال ابن كثير في التفسير على قوله: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمۡ وَمَا غَوَىٰ ٢: هذا هو المقسم عليه وهو الشهادة للرسول ﷺ بأنه راشد تابع للحق ليس بضال وهو الجاهل الذي يسلك على غير طريق بغير علم، والغاوي هو العالم بالحق العادل عنه قصدًا إلى غيره، فنزه الله رسوله وشرعه عن مشابهة أهل الضلال كالنصارى وطرائق اليهود وهي علم الشيء وكتمانه والعمل بخلافه، بل هو صلاة الله وسلامه عليه، وما بعثه الله به من الشرع العظيم في غاية الاستقامة والاعتدال والسداد ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰٓ ٣ أي ما يقول قولاً عن هوى وغرض ﴿إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡيٞ يُوحَىٰ ٤، أي إنما يقول ما أمر به، يبلغه إلى الناس كاملاً موفورًا من غير زيادة ولا نقصان. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه عن رسول الله أريد حفظه فنهتني قريش فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله وإنه بشر يتكلم في الغضب، فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ فقال: «اكْتُبْ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا خَرَجَ مِنِّي إِلَّا الْحَقُّ»[102].

وعن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: «مَا أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَهُوَ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ»[103] وعنه أيضًا قال رسول الله ﷺ: «لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا»[104]. قال بعض أصحابه: فإنك تداعبنا يا رسول الله؟ قال: «إِنِّي لَا أَقُول إِلَّا حَقًّا». انتهى. من تفسير ابن كثير.

ثم إن الله سبحانه توعد نبيّه بأنه لو كذب عليه بادعاء شيء نزل عليه ولم ينزل عليه لأذاقه العذاب الأليم، فقال سبحانه: ﴿وَلَوۡ تَقَوَّلَ عَلَيۡنَا بَعۡضَ ٱلۡأَقَاوِيلِ ٤٤ لَأَخَذۡنَا مِنۡهُ بِٱلۡيَمِينِ ٤٥ [الحاقة: 44-45]، لأنها أشد بطشًا، ﴿ثُمَّ لَقَطَعۡنَا مِنۡهُ ٱلۡوَتِينَ ٤٦ [الحاقة: 46] وهو نياط القلب ﴿فَمَا مِنكُم مِّنۡ أَحَدٍ عَنۡهُ حَٰجِزِينَ ٤٧ [الحاقة: 44-47] وحاشا نبيّه أن يكذب على ربه أو يكتم شيئًا من وحيه.

وقال تعالى: ﴿لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ [آل‌عمران: 64]، وقال: ﴿وَٱذۡكُرۡنَ مَا يُتۡلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱلۡحِكۡمَةِ [الأحزاب: 34]. قال غير واحد من السلف: الحكمة هي السنة. لأن الذي كان يتلى في بيوت أزواجه رضي الله عنهن سوى القرآن هو سنته ﷺ.

وقال حسان بن عطية: كان جبريل عليه السلام ينزل على النبي ﷺ بالسنة كما ينزل بالقرآن فيعلمه إياها كما يعلمه القرآن.

ثم إن الله سبحانه اختار لحمل هذا الدين وتبليغه من هم أفضل الخلق على الإطلاق بعد نبيهم، أبرّ هذه الأمة قلوبًا وأعمقها علمًا وأقلها تكلفًا، وأصدقهم لهجة وأمانة، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه ولإقامة دينه، ثم وهبهم قوة الحفظ والإتقان، فيبلغون الناس ما سمعوه من نبيهم بدون زيادة ولا نقصان، كما روى ابن مسعود، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» رواه أبو داود والترمذي وابن حبان وصححه.

وعن جبير بن مطعم، قال: سمعت رسول الله ﷺ بالخيف من منى يقول: «نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَحَفِظَها وَوَعَاهَا وَبَلَّغَهَا مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لا فِقْهَ لَهُ وَرُبُّ حَامِلِ فِقْهٍ، إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، ثَلاثٌ لا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُؤْمِنٍ: إِخْلاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَالنَّصِيحَةُ لأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ، تُحِيطُ مَنْ وَرَاءَهُمْ». رواه أحمد وابن ماجه والطبراني.

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا جاءه أحد بحديث لم يسمعه كلفه إثباته بإحضار البينة التي تشهد له بصحة ما سمعه وإلا أوجعه ضربًا من شدة حرصهم على حفظ السنة، فمن ذلك ما روى البخاري في صحيحه، أن أبا موسى الأشعري واسمه عبد الله بن قيس استأذن على عمر فلم يؤذن له فانصرف، ثم قال عمر: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس يستأذن؟ ائذنوا له فطلبوه فوجدوه قد ذهب، فلما جاء بعد ذلك قال: ما أرجعك؟ قال: إني استأذنت ثلاثًا فلم يؤذن لي، وإني سمعت النبي ﷺ يقول: «إِنِ اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَنْصَرِفْ». فقال عمر: لتأتيني على هذا ببينة وإلا أوجعتك ضربًا، فذهب إلى ملأ من الأنصار فذكر لهم ما قال عمر. فقالوا: لا يشهد لك إلا أصغرنا، فقام معه أبو سعيد الخدري، فأخبر عمر بذلك، فقال: ألهاني عنها الصفق بالأسواق.

وهذا نوع من تحفظهم بالسنة وحمايتها عن أن يزاد فيها أو ينقص منها، كما في البخاري أن النبي ﷺ قال: «بَلِّغُوا عَنِّى وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ولهذا امتنع بعض الصحابة عن التحدث عن رسول الله خشية أن يزيد في الحديث حرفًا أو ينقص حرفًا، كما ثبت عن عبد الله بن الزبير أنه قال لأبيه الزبير: يا أبت مالك لا تحدث عن رسول الله ﷺ كما يحدث عنه فلان وفلان؟ فقال: يا بني إني لم أفارق رسول الله في جاهلية ولا إسلام، ولكن أخشى أن أزيد عليه في الحديث حرفًا أو أنقص حرفًا فأكون مستوجبًا للوعيد في الكذب عليه. والذي جعل الزبير وأمثاله يتورعون عن الحديث عن رسول الله ﷺ لاتهامهم حفظهم عن ضبط ما سمعوه من أجل ما رواه ابن مسعود، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» رواه أبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحه.

ثم إن الله سبحانه حفظ سنة نبيّه بما يحفظ به كتابه وذلك بعناية العلماء الحفّاظ والجهابذة النقّاد الذين سخرهم الله لبذل مهجهم وجهودهم وجهادهم في تنقيح أحاديث رسول الله وعنايتهم بتصحيحها وتمحيصها وبيان ضعيفها وصحيحها، فكانت هي صنعتهم مدة حياتهم حتى حذقوا فيها وصاروا كصاغة الذهب يعرفون الخالص من المشوب؛ لأن من تردد في علم شيء أعطي حكمته وكانوا يسألون عن الرجال قبل سؤالهم عن الحديث، ويقولون: الجار قبل الدار والرفيق قبل الطريق.

فمتى ذكر المحدث بسوء الفهم أو النسيان أو عدم الثقة والإتقان تركوا الحديث عنه.

وعلى كل حال، فإنها لم تعن أُمّة من الأمم بحفظ حديثها ونصوص أصول دينها أشد من اعتناء علماء المسلمين في سلسلة إسنادهم، حدثنا فلان عن فلان عن فلان عن رسول رب العالمين، فمتى غلط المحدث فأخطأ فهمه أو زل قدمه قالوا له: اثبت وانظر ما تقول، فهذا السند الذي اعتنى به أئمة الحديث في أمانة التبليغ هو من خصائص هذه الأمّة لا يشاركهم فيه غيرهم من سائر الأمم كما قيل:
قد خصت الأمّة بالإسناد
وهو من الدين بلا ترداد
ثم إن السنة تدور على قول الرسول وفعل الرسول وإقرار الرسول. وقول الرسول مقدم على فعله لاحتمال أن يكون الفعل من خصائصه، إذ الرسول منزه عن الخطأ فيما يبلغه عن ربه.

فمن قال: لا أقبل أو لا أصدق إلا بفعل الرسول، فليس مؤمنًا بالرسول ولا بما جاء به، والنبي ﷺ قال: «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ»[105] وقال: ««كُلُّ أُمَّتِى يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، إِلَّا مَنْ أَبَى». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ « مَنْ أَطَاعَنِى دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِى فَقَدْ أَبَى»»[106].

ومعنى شهادة أن محمدًا رسول الله تستلزم طاعة الرسول فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألّا يعبد الله إلا بما شرع.

يقول الله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٖ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡ [الأحزاب: 36] ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوۡلَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذَا دُعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَهُمۡ أَن يَقُولُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٥١ [النور: 51]،

ثم ليعلم أن الله سبحانه قد نصب لعباده في الدنيا حكمًا عدلاً يقطع عن الناس النزاع ويعيد خلافهم إلى مواقع الإجماع وهو الكتاب والسنة.

يقول الله: ﴿فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ [النساء: 59]. واتفق العلماء على أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول هو الرد إلى سنته فهما نظام شريعة الإسلام، وفيهما حل مشاكل سائر الناس من كل ما يتنازعون فيه من صغير وكبير ﴿وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡ [النساء: 83].

لأن الله سبحانه لم يوجب الرد إليهما عند التنازع إلا وفيهما الكفاءة لحل جميع المشاكل.

ثم إن القرآن لا غناء له عن السنة التي تبيّنه وتفسره وتوضح ما أشكل منه. كما أنه لا غنى للسنة عن القرآن فهما وحيان شقيقان، ولما نزل قوله سبحانه: ﴿مَن يَعۡمَلۡ سُوٓءٗا يُجۡزَ بِهِۦ [النساء: 123] فزع أصحاب رسول الله وقالوا: هلكنا، إن كان كل من عمل منا سوءًا جزي به. فقال رسول الله ﷺ: «ألستم تحزنون، أليس يصيبكم اللأواء والمرض؟ قالوا: بلى. قال: فذاك»[107] يشير بهذا إلى أن ما يصيب المسلم من الهم والحزن والمرض حتى الشوكة يشاكها فإنه يكفر بها من خطاياه، وأن هذا هو من الجزاء الذي وعدوا به. ومثله قوله سبحانه: ﴿ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمۡ يَلۡبِسُوٓاْ إِيمَٰنَهُم بِظُلۡمٍ [الأنعام: 82] ففزع الصحابة من ذلك وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال لهم رسول الله: «إنه الشرك، ألم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه: ﴿يَٰبُنَيَّ لَا تُشۡرِكۡ بِٱللَّهِۖ إِنَّ ٱلشِّرۡكَ لَظُلۡمٌ عَظِيمٞ [لقمان: 13]».[108]. والذي يقول بالاكتفاء بالقرآن عن السنة هو لا يعرف القرآن ولا يعرف السنة ويحاول الحط من السنة ليتوصل به إلى الحط من قدر القرآن، فإن من تجاهل سنة رسول الله وحاول الطعن فيها بالاكتفاء عنها، فإن من لوازم قوله الطعن في القرآن والتكذيب به.

* * *

[102] أخرجه الإمام أحمد وغيره من حديث عبد الله بن عمرو. [103] أخرجه ابن حبان من حديث أبي هريرة. [104] أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة. [105] أخرجه ابن بطة في الإبانة من حديث عبد الله بن عمرو. [106] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. [107] أخرجه الإمام أحمد من حديث أبي بكر. [108] أخرجه أبو عوانة من حديث عبد الله بن مسعود.