متقدم

فهرس الكتاب

 

نشأة النبي ﷺ يتيمًا أميًّا

هذا مع ما ثبت بالتواتر أن النبي ﷺ نشأ يتيمًا في حجر أبي طالب، كأحد أولاده وليس في مكة مدارس ولا كتب، حتى فاجأه الحق ونزل عليه الوحي، والله يعلم حيث يجعل رسالته. فكان ينزل عليه القرآن تدريجيًّا شيئًا بعد شيء حتى نزلت عليه سورة الأنعام بجملتها وهي جزء كامل، فقام حافظًا لها ولسائر القرآن بدون أن ينسى شيئًا منه، لأن الله وعده بحفظه، فقال سبحانه: ﴿سَنُقۡرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰٓ ٦ [الأعلى: 6]، وفي البخاري عن ابن عباس قال: كان رسول الله إذا نزل عليه الوحي يحرك شفتيه بالقراءة خشية أن ينسى شيئًا منه، فأنزل الله: ﴿لَا تُحَرِّكۡ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعۡجَلَ بِهِۦٓ ١٦ [القيامة: 16]- أي: بحفظه - ﴿إِنَّ عَلَيۡنَا جَمۡعَهُۥ وَقُرۡءَانَهُۥ ١٧ [القيامة: 17]. أي: علينا أن نجمعه لك في صدرك وتقرأه - ﴿فَإِذَا قَرَأۡنَٰهُ [القيامة: 18]- أي: أوحيناه - ﴿فَٱتَّبِعۡ قُرۡءَانَهُۥ - أي: فاستمع له وأنصت - ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيۡنَا بَيَانَهُۥ ١٩ [القيامة: 19]- أي: أن تحفظه ولا تنسى شيئًا منه. فكان رسول الله بعد ذلك إذا نزل عليه جبريل أنصت وإذا أقلع عنه قرأه.

ثم أخبر النبي ﷺ عن حقيقة هذا العلم الذي جاء به والذي أوحاه الله إليه، وأن الناس يتفاوتون في فهمه وحمله والعمل به، فقال فيما رواه البخاري عن أبي موسى الأشعري. قال: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِى اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِىَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً، وَلَا تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِى دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِى اللَّهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ».

وهذا مثل مطابق للواقع من أحوال الناس مع هذا الوحي والهدى النازل عليهم، وأن هذا التفاوت في حمل العلم وفهمه واستنباطه هو أمر واقع بين الصحابة فمن بعدهم، وأن الصحابة يتفاوتون في حمل الحديث وحفظه واستنباطه، وقد وصفوا ابن عباس بالأرض الطيبة التي قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير، فحمل أحاديث كثيرة ثم فرعها واستنبط منها الفقه في الأحكام وأمور الحلال والحرام، فكان آية في معرفة الاستنباط، ومثله عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.

ومشهور الأرض الثانية التي أمسكت الماء فنفع الله به الناس فسقوا وزرعوا فشبهوها بأبي هريرة، فقد حمل علمًا كثيرًا عن النبي ﷺ فصرف جهده إلى التحفظ على ما عنده خشية أن ينساه، فكان يدرس الحديث وقد أوصاه النبي ﷺ بأن يوتر قبل أن ينام من أجله، لكنه لم يشتغل في استنباط ما عنده من العلم وله أشباه كأنس وأبي سعيد الخدري. والمكثرون من الصحابة سبعة، ولا يسمى مكثرًا إلا إذا حمل عن النبي ﷺ ألف حديث فما فوق وهم: ابن عباس وابن عمر وعائشة وأبو هريرة وأنس وأبو سعيد الخدري وجابر بن عبد الله، قال الشاعر:
سبع من الصحب فوق الألف قد نقلوا
من الحديث عن المختار خير مضـر
أبو هريرة سعد جابر أنس
صدّيقة وابن عباس كذا ابن عمر
وأن هذه الأوصاف تنطبق على من بعدهم من أهل العلم وحملة الحديث، وأن منهم العالم العامل بعلمه والذي يدعو إلى دين ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، ثم يتوسعون في استنباط المعاني والأحكام بفقه وفهم. ومنهم عليم اللسان الذي يحمل العلم ولا يعمل به ولا يتوسعون في معرفة فقهه وأحكامه وغاية علمهم هو الجمود على ما يقوله أئمتهم وعلماء مذهبهم، وقد شبهوه بالمصباح الذي يضيء للناس ويحرق نفسه.

والطائفة الأخرى: هي الجاهل الجافي الذي لا علم عنده ولا عمل، وقد شبهه بالأرض السبخة التي لا يزيدها المطر إلا ضررًا.

والحاصل أن رسول الله ﷺ يعلم أصحابه السنة، كما يعلمهم القرآن، لكون السنة تفسر القرآن وتبينه، فأفضل التفاسير هو من يفسر القرآن بالقرآن وبالسنة، كتفسير ابن جرير وابن كثير؛ لأن الله سبحانه قال: ﴿وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلذِّكۡرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيۡهِمۡ وَلَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 44] من سورة النحل. وقال: ﴿وَمَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِي ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ ٦٤ [النحل: 64] من سورة النحل، قال عمر بن الخطاب: إنه سيأتي أناس يأخذونكم بشبهات القرآن، فخذوهم بالسنة، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله. فالسنة هي التي تفسر القرآن كما قيل:
فهو المفسر للقران وإنما
نطق النبي لنا به عن ربّه
فالقرآن وحي مجمل والسنة وحي مفصّل ولا غنى لأحدهما عن الآخر، كما قيل:
وحي بتفصيل ووحي مجمل
تفسيره ذاك ووحيٌ ثاني
وعن المقدام بن معد يكرب الكندي، أن رسول الله ﷺ قال: «يُوشِكُ الرَّجُلُ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدَّثُ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِى فَيَقُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ. أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ» رواه الترمذي وابن ماجه.

وفي راوية: «أَلَا إِنِّى أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ».

ومن حديث العرباض بن سارية أنه قال: «وعظنا رسول الله مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، ومنها قوله: َعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»» رواه أبو داود والترمذي وصححه وابن ماجه.

* * *