متقدم

فهرس الكتاب

 

مقدمة الرسالة

نحمد الله سبحانه ونسأله التوفيق للإيمان والعمل بالقرآن والتمسك بسنة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام.

إن الإيمان بالقرآن يستلزم الإيمان بسنة محمد عليه الصلاة والسلام كما أن التكذيب بسنة محمد عليه الصلاة والسلام تستلزم التكذيب بالقرآن، إذ هما وحيان شقيقان لا ينفك أحدهما عن الآخر.

قولوا: آمنا بالله وما جاء من الله على مراد الله، وآمنا برسول الله، وما جاء عن رسول الله على مراد الله.

فالإيمان بالقرآن يرجع إلى تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، والإيمان بسنة رسول الله يرجع إلى تحقيق شهادة أن محمدًا رسول الله، ومعنى شهادة أن محمدًا رسول الله هو طاعة الرسول فيما أمر وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألّا يعبد الله إلا بما شرع. ومن قال: أنا لا أؤمن إلا بالسنة العملية. فهو ممن قال الله تعالى فيهم: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡفُرُونَ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيۡنَ ٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَيَقُولُونَ نُؤۡمِنُ بِبَعۡضٖ وَنَكۡفُرُ بِبَعۡضٖ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيۡنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا ١٥٠ [النساء: 150].

فمن قال: أنا لا أؤمن ولا أعمل إلا بالقرآن. فهو بمثابة من يقول: أنا أشهد أن لا إله إلا الله ولا أشهد أن محمدًا رسول الله. فلا شك في بطلان شهادته؛ لأن من يطع الرسول فقد أطاع الله، يقول الله تعالى: ﴿مَّن يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدۡ أَطَاعَ ٱللَّهَۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ حَفِيظٗا ٨٠ [النساء: 80]. وقال: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذۡنِ ٱللَّه [النساء: 64]. وكذلك من يعص الرسول فقد عصى الله.

ولما ادعى أناس محبة الله مع تخلفهم عن متابعة رسول الله أنزل الله عليهم آية المحبة لبيان حقيقة المحبة، فقال سبحانه: ﴿قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡ [آل‌عمران: 31].
تعصـي الإله وأنت تزعم حبه
هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقًا لأطعته
إن المحب لـمن يحب مطيع
فمتى تخلت الأمّة عن متابعة الرسول وطاعته والانقياد والتسليم لما جاء به مع دعواها لمحبته، فلا شك أن هذه دعوى كاذبة باطلة بالحس والوجدان والسنة والقرآن، ومن ادعى ما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان. يقول الله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا ٦٥ [النساء: 65].
من قال قولا غيره قمنا على
أقواله بالسبر والميزان
إن وافقت قول الرسول وحكمه
فعلى الرؤوس تشال كالتيجان
أو خالفت هذا رددناها على
من قالها من كان من إنسان
أو أشكلت عنا توقفنا ولم
نجزم بلا علم ولا برهان
هذا الذي أدى إليه علمنا
وبه ندين الله كل أوان[96] المؤلف

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، ونعوذ بالله من فتن الضالين المضلين[97].

أما بعد:

فقد قال الله سبحانه: ﴿لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ ١٦٤ [آل‌عمران: 164]. وفي سورة الجمعة: ﴿هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّ‍ۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ ٢ وَءَاخَرِينَ مِنۡهُمۡ لَمَّا يَلۡحَقُواْ بِهِمۡۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ ٣ ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِيمِ ٤ [الجمعة: 2-4].

فقد امتن الله سبحانه على عباده المؤمنين ببعثة هذا النبي الكريم ﴿عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ [التوبة: 128]. فهدى الناس من الضلالة وبصرهم من الجهالة.

ثم أخبر سبحانه عن هذا الدين الذي فضل الله به الأميين من أصحاب محمد، أنه ليس مختصًّا بهم، بل هو لهم ولكل من جاء بعدهم إلى يوم القيامة فقال: ﴿وَءَاخَرِينَ مِنۡهُمۡ لَمَّا يَلۡحَقُواْ بِهِمۡ [الجمعة: 3] ممن تبع رسول الله وتمسك بسنته، كما روى الترمذي من حديث أنس، أن النبي ﷺ قال: «مَثَلُ أُمَّتِى مَثَلُ الْمَطَرِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أم أَمْ آخِرُهُ». غير أن للصحابة الميزة السامية والمنزلة العالية بسبقهم إلى النبي ﷺ وملازمة صحبته، لا يدانيهم فيها غيرهم، كما في الصحيحين من حديث عمران، أن النبي ﷺ قال: «خَيْرُ الْقٌرُونِ قَرْنِى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، لَا أَدْرِي أَذَكَرَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا».

وقال: «دعوا لي أَصْحَابِى فَوَالَّذِى نَفْس محمد بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ»[98].

والأميون هم العرب، أطلقت عليهم هذه التسمية لعدم معرفتهم بالقراءة والكتابة نسبة إلى الأم، وقد سمّى الله نبيه محمدًا أُميًّا من أجل أنه لا يكتب ولا يقرأ المكتوب، فقال سبحانه: ﴿وَرَحۡمَتِي وَسِعَتۡ كُلَّ شَيۡءٖۚ فَسَأَكۡتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلَّذِينَ هُم بِ‍َٔايَٰتِنَا يُؤۡمِنُونَ١٥٦ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ١٥٧ [الأعراف: 156-157].

فأميّة الرسول هي معجزة من معجزات نبوته، كما قيل: كفاك بالعلم في الأمي معجزة. وليست من سنته، فقد حارب الأمية بنشر العلوم والكتابة بين أصحابه، ولأن أول سورة نزلت من القرآن هي سورة التعليم بالقلم.

وإنما خصه الله بالأميّة صيانة للوحي الذي جاء به حتى لا تتطرق إليه الأوهام الكاذبة والظنون الباطلة، فيقولون: كتبه من كتاب كذا. يقول الله تعالى: ﴿وَمَا كُنتَ تَتۡلُواْ مِن قَبۡلِهِۦ مِن كِتَٰبٖ وَلَا تَخُطُّهُۥ بِيَمِينِكَۖ إِذٗا لَّٱرۡتَابَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ ٤٨ [العنكبوت: 48].

وهذه البعثة التي امتن الله بها على عباده المؤمنين هي بداية نزول الوحي عليه بغار حراء، حين أنزل الله عليه ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ ١ خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ ٢ ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ ٣ ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ ٤ عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ ٥ [العلق: 1-5].

فهذه البعثة هي أفضل من زمن المولد، لكونه ولد كما يولد الناس، وعاش أربعين سنة كسائر قريش، ولهذا قال في معرض الاحتجاج على قومه: ﴿فَقَدۡ لَبِثۡتُ فِيكُمۡ عُمُرٗا مِّن قَبۡلِهِۦٓۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ ١٦ [يونس: 16]، ثم قال: ﴿يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ أي القرآنية ويفسرها لهم ويسألونه عما أشكل عليهم منها.

قال ابن مسعود: كنا إذا تعلمنا عشر آيات لم نتجاوزهن حتى نتعلم معانيهن والعمل بهن. فهم يتلقون عنه العلم والعمل[99].

وكانت عامة مجالس النبي ﷺ إنما هي مجالس علم وتعليم، إما بتلاوة القرآن أو بما آتاه الله من الحكمة والموعظة الحسنة، كما أمره الله في كتابه بأن يقص ويعظ ويذكر وأن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، ولهذا سمّاه الله بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا.

ثم قال: ﴿وَيُزَكِّيهِمۡ، أي بالمحافظة على الفرائض والفضائل واجتناب منكرات الأخلاق والرذائل التي أعلاها الشرك فما دونه؛ لأن هذه الأعمال هي التي تزكي النفوس وتطهرها وتنشر في العالمين فخر ذكرها ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا ٩ وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا ١٠ [الشمس: 9-10].
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى
فكن طالبًا للنفس أعلى المراتب
ثم قال: ﴿وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ [الجمعة: 2]، فالكتاب هو القرآن والحكمة هي السنة، فكان رسول الله ﷺ يعلمهم السنة كما يعلمهم القرآن، كما قال سبحانه في زوجات نبيّه: ﴿وَٱذۡكُرۡنَ مَا يُتۡلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱلۡحِكۡمَةِ [الأحزاب: 34]، فكان الصحابة يتعلمون من رسول الله القرآن والسنة معًا، ويتناوبون ملازمته لئلا يفوتهم شيء من علمه، وكان يقول: «إِنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّمًا»[100] «فَمَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ»[101]، قال تعالى: ﴿كَمَآ أَرۡسَلۡنَا فِيكُمۡ رَسُولٗا مِّنكُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِنَا وَيُزَكِّيكُمۡ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمۡ تَكُونُواْ تَعۡلَمُونَ ١٥١ [البقرة: 151].

[96] من نونية العلامة ابن القيم. [97] هذه خطبة للإمام أحمد في رده على الجهمية. [98] أخرجه الإمام أحمد من حديث أنس بن مالك. [99] أخرجه البيهقي في سننه، وشعب الإيمان عن ابن مسعود. [100] أخرجه ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو. [101] ورد في كشف الخفاء أنه من الموضوعات وليس بحديث.