متقدم

فهرس الكتاب

 

شرح الكلمات

إن شيخ الإسلام بكلامه هذا، قصد به الرد على أناس من المتفلسفة والصوفية، حيث زعموا أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله، وأنه لا ينتفع بالدعاء ولا غيره، وبنوا من ذلك عقيدة تقتضي صرف الناس عن عبودية الدعاء، قائلين: إن الدعاء لا يجدي شيئًا فلا ينتفع به الداعي ولا المدعو له؛ لأن الذي تدعو به إن كان قد قدر لك بطريق القضاء والقدر، فإنه سيحصل، دعوت أو لم تدع، وإن لم يقدر لك بمشيئة الله وقدره، فإنه لن يحصل، دعوت أو لم تدع، فرد عليهم علماء أهل السنة في ذلك، منهم شيخ الإسلام وابن القيم وشارح الطحاوية وغيرهم.

لكن لنعلم أن هذا الانتفاع الذي أشار إليه شيخ الإسلام هو غير إهداء ثواب الأعمال، كما يعرف من كلامه؛ لأن إهداء ثواب الأعمال شيء وانتفاع الأموات بعمل الأحياء شيء آخر، ولا تلازم بينهما، من ذلك قوله في المادة الأولى: إن الإنسان ينتفع بدعاء غيره.. إلخ. وهذا حق ولم يأمر الله بالإكثار من الدعاء إلا لتحقق منفعته للحي والميت، غير أن الدعاء عبادة بين العبد وبين ربه، التي خلق الله الخلق لأجلها، بل هو مخ العبادة، وقال ربكم: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ٦٠ [غافر: 60].

فسماه الله عبادة، وأخبر عن حالة الذين يستكبرون عن هذه العبادة أنهم سيدخلون جنهم داخرين صاغرين حقيرين ذليلين، وفي الآية الأخرى: ﴿قُلۡ مَا يَعۡبَؤُاْ بِكُمۡ رَبِّي لَوۡلَا دُعَآؤُكُمۡ [الفرقان: 77] سواء حملناه على دعاء العبادة أو دعاء المسألة، فهو على كلا الحالين عبادة بين العبد وبين ربه، ولم يكن الداعي ليهدي ثواب دعائه إلى أحد، وإنما يدخر ثواب دعائه عند ربه، سواء استجيب له أو لم يستجب له، وإذا استجيب له لم تكن استجابته من باب إهداء ثوابه، ولكنه تفضل من الله للمدعو له وللداعي أجره، فانتفاع الميت بالدعاء هو بمثابة انتفاع الحي به عند استجابته، فليس فيه شيء من إهداء ثوابه، أما إهداء ثواب العمل، فهو أن يصلي مثلاً أو يصوم أو يحج أو يقرأ القرآن أو يدعو ربه ثم يهدي ثواب عمله إلى ميته، وهذا لم يكن معروفًا عن الصحابة والسلف الصالح، ولم يعنه شيخ الإسلام بكلامه هذا، وإنما أدخل الفقهاء الدعاء فيما يهدى إلى الميت، توسعًا، وإلا فإنه عبادة مستقلة بين العبد وربه، ولهذا ذكر ابن مفلح في المحرر عن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- أنه قال: لم يكن من عادة السلف إهداء ثواب الأعمال إلى موتى المسلمين، بل عادتهم أنهم كانوا يعبدون الله بأنواع العبادات فرضها ونفلها، وكانوا يدعون للمؤمنين والمؤمنات، كما أمر الله بذلك، ويدعون لأحيائهم وأمواتهم، فلا ينبغي للناس أن يعدلوا عن طريقة السلف، فإنها أفضل وأكمل. انتهى.

المادة الثانية: قوله: إن النبي ﷺ يشفع لأهل الموقف في الحساب ثم لأهل الجنة في دخولها. وهذا ليس من إهداء ثواب الأعمال في شيء، ولكنه رحمة ومحبة من النبي ﷺ لأمته، حيث يشفع لهم عند الله، ليريحهم من موقف الحساب ويعجل أهل الجنة إلى الفوز بدخول الجنة.

ويؤكده المادة الثالثة، وهي: شفاعته لأهل الكبائر في الخروج من النار، وهذا انتفاع حصل لهم بشفاعة النبي ﷺ وليس بإهداء ثواب عمله.

والمادة الرابعة: كون الملائكة يدعون ويستغفرون لمن في الأرض؛ لأن الله خلقهم للعبادة ومنها الدعاء والاستغفار لأنفسهم ولمن في الأرض، فهم يدعون ربهم ولا يهدون ثواب دعائهم، كما ذكرنا في دعاء المؤمنين.

المادة الخامسة: قوله: إن الله يخرج من النار من لم يعمل خيرًا قط، وذلك بمحض رحمة الله، وهذا انتفاع حصل لهم بفضل الله ورحمته وليس من إهداء ثواب الأعمال في شيء البتة.

المادة السادسة: إن أولاد المسلمين، يدخلون الجنة بعمل آبائهم، والآباء لم يهدوا ثواب أعمالهم لأبنائهم، على أنهم لم يعملوا شرًّا قط وحتى أولاد المشركين، قد ثبت في صحيح البخاري عن سمرة، أنهم «مع أولاد المسلمين». وقيل: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ»[89].

المادة السابعة: قوله في قصة الغلامين ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحٗا [الكهف: 82]، فحفظ الله كنزهما لصلاح أبيهما؛ لأن الله شكور يحفظ الرجل الصالح في إيمانه وأعماله وفي أهله وعياله، كما في الحديث: «احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ»[90]، وقد روي: «من أحب أن يحفظ في عقبه وعقب عقبه فليتق الله»[91]، وكان سعيد بن المسيب يقول لابنه: إني أزيد في صلاتي رجاء أن أحفظ فيك، ثم يتلو: ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحٗا [الكهف: 82]،

وأنشد بعضهم:
رأيت صلاح المرء يصلح أهله
ويعديهم داء الفساد إذا فسد
ويشرف في الدنيا بفضل صلاحه
ويحفظ بعد الموت في الأهل والولد
والحاصل أن هذا الأب الصالح لم يهد ثواب عمله وصلاحه لابنه، وإنما انتفع الابن ببركة صلاح أبيه ودعائه.

الثامنة: قوله: إن الميت ينتفع بالصدقة عنه وبالعتق بنص السنة والإجماع، وهذا يؤيد ما ذكرنا، من كون شيخ الإسلام حكى الإجماع على وصول ثواب الصدقة إلى الميت، كما حكاه النووي والقرطبي وابن كثير وابن العربي؛ لأن الكتاب والسنة يحثان على الصدقة وعلى التوسع فيها وقد جعلت كفارة للأيمان والظهار والوطء في رمضان، ولترك واجبات الحج أو فعل شيء من محظوراته، كل هذه شرعت للتوسع في الصدقة، لكونها من النفع المتعدي وتصادف من الفقراء موضع حاجة وشدة فاقة، وكذا عتق الرقبة من الرق.

التاسعة: قوله: إن الحج المفروض يسقط عن الميت بحج وليه عنه بنص السنة وهو من عمل الغير، وهذا صحيح؛ لأن الحج المفروض بالشرع أو بالنذر ملتحق بالديون الثابتة في الذمة ومتى قام أحد ولو أجنبيًّا بأداء هذا الواجب سقط عنه بصريح الحكم في الدنيا، لكن صرح ابن القيم في تهذيب السنن وفي الإعلام، أنه لا يحج عنه إلا إذا كان معذورًا بالتأخير، كما يطعم الولي عمن أفطر رمضان للعذر، وبدون العذر لا يجوز الإطعام ولا الصيام، فأما المفرط من غير عذر أصلاً فلا ينفعه أداء غيره عنه لفرائض الله التي فرّط فيها وكان هو المأمور بها ابتلاء وامتحانًا دون الولي، فلا ينفع توبة أحد عن أحد ولا غيرها من فرائض الله التي فرّط فيها حتى مات. انتهى.

والظاهر من مذهب مالك وأبي حنيفة أن الحج الواجب يسقط بموت الشخص إلا أن يوصي به.

العاشرة والحادية عشرة: قوله: إن الحج المنذور والصوم المنذور يسقط بعمل غيره، وإن المدين الذي امتنع النبي من الصلاة عليه حتى قضى دينه أبو قتادة، فانتفع بصلاة النبي عليه، لأن هذه كلها من الديون الواجبة على الشخص في الدنيا قبلت قضاء الولي وغير الولي لها، وامتناع النبي عن الصلاة على المدين كان في أول الإسلام ثم نسخ ذلك فكان يصلي على كل مسلم من غير أن يسأل عن دينه ويقول من مات وعليه دين فعلي قضاؤه، فانتفاع الميت ببراءة ذمته من هذا الواجب هو أمر معلوم وليس من باب إهداء ثوابه، بل أجره لصاحبه، أشبه صدقته على الحي أو إبراءه من حقه كما في الحديث: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا، أَوْ وَضَعَ عَنْهُ، أَظَلَّهُ اللَّهُ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ»[92].

الثانية عشرة: قول النبي ﷺ لمن صلى وحده: «أَلا رَجُلٌ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا فَيُصَلِّيَ مَعَهُ»[93] فحصل له فضل الجماعة بفعل الغير، وهذا أيضًا من الدليل على أنه لم يرد بالانتفاع مجرد إهداء ثواب الأعمال، وإنما أراد مجرد الانتفاع بعمل الغير من الحي أو الميت.

الثالثة عشرة: قوله: إن الإنسان تبرأ ذمته من ديون الخلق إذا قضاها قاض عنه. وهذه البراءة تقدم الكلام عليها، وكونه يبرأ منها بطريق الحكم في الدنيا لكنه متى ماطله بحقه ومنعه من استيفائه طيلة الزمن وهو قادر على الأداء، فإن هذا المطل ظلم منه ويقع الحساب عند الله بينه وبين خصمه الذي منعه من أداء حقه والانتفاع به في الدنيا، أشبه من تعمد قتل مسلم بغير حق فاصطلح مع أوليائه بدفع الدية إليهم، فإن حق القتيل باق يطالب به خصمه عند الله ولا يزيله مجرد الحكم به في الدنيا من دعوى براءة القاتل من دم القتيل وبه يجاب عن الرابعة عشرة من قوله: إن من عليه تبعات ومظالم إذا حلل منها أسقطت عنه وهذا انتفاع بعمل الغير. فإن البراءة الصادرة من صاحب الحق بطريق الرضى يبرأ بها الشخص، سواء كان حيًّا أو ميتًا، لكن متى أبرأ شخصًا من الأحياء من حقه، فإنه لا يقال إنه أهدى له ثواب عمله أو أجره، وكذلك الميت.

الخامسة عشرة: قوله: إن الجار الصالح ينفع في المحيا والممات. وهذا صحيح، وقد قيل: الجار قبل الدار والرفيق قبل الطريق، وقد علَّم النبي ﷺ قبر عثمان بن مظعون بحجر كبير وقال: «أدفن إليه من مات من أهلي»[94]، ولهذا استحب أهل السنة عزل قبور أهل الذمة عن قبور المسلمين.

السادسة عشرة: قوله: إن جليس أهل الذكر يرحم بهم وإن لم يكن منهم. وهذا الانتفاع صحيح وليس بإهداء ثواب الأعمال في شيء، وإنما حصل بفضل الله ورحمته بتنزل الملائكة والسكينة على أهل الذكر، وأن الله يذكرهم فيمن عنده فهم القوم لا يشقى بهم جليس وربما رحم معهم من ليس منهم، فهو انتفاع للأحياء من بعضهم لبعض وليس بإهداء ثواب الأعمال في شيء.

السابعة عشرة: قوله: الصلاة على الميت وانتفاعه بصلاة الحي عليه والدعاء له في الصلاة هو انتفاع بعمل الغير. فهذا العمل وهذا الانتفاع لا شك في مشروعيته وليس من باب إهداء ثواب الأعمال في شيء؛ لأن الصلاة على الميت هي من جنس مشروعية سائر الصلوات المشروعة، فيصلي المسلم على الميت، يحتسب ثواب صلاته لنفسه و يدعو لميته ولسائر الأحياء والأموات بالمغفرة والرحمة، فدعاء المسلم للميت مثل دعائه للحي على السواء؛ لأن الدعاء عبادة لله - عز وجل- بين العبد وبين ربه، وإذا استجيب دعاؤه لم تكن استجابته من باب إهداء ثوابه، ولكنه تفضل من الله للمدعو له، وللداعي أجره وثوابه.

الثامنة عشرة: قوله: إن الله سبحانه قال لنبيه: ﴿وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمۡ وَأَنتَ فِيهِمۡ [الأنفال: 33]، وقال: ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ [البقرة: 251] فقد رفع الله العذاب عن الناس بوجود النبي بينهم وببعضهم عن بعض، وهو انتفاع بعمل الغير، وهذا مما يدل على أنه لم يرد بهذا الانتفاع مجرد إهداء ثواب الأعمال، لكونه ليس من ذلك، وإنما هو انتفاع مجرد عن إهداء ثواب الأعمال وأن الله قد دفع العذاب عن الناس بوجود رسول الله بينهم، كما أنه يدفع العذاب ببعضهم عن بعض، كما روي: «إن الله ليدفع بالرجل الصالح عن مائة من أهل بيته من جيرانه البلاء»[95]، ثم إن دفع الناس عن بعض هو من الأمر الواقع المحسوس في الدنيا، يقول الله: ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّهُدِّمَتۡ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٞ وَصَلَوَٰتٞ وَمَسَٰجِدُ يُذۡكَرُ فِيهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِيرٗا [الحج: 40].

التاسعة عشرة: قوله: إن صدقة الفطر تجب على الصغير ممن يمونه الشخص. يريد بهذا أن صدقة الفطر زكاة تزكي الشخص وتنميه وتنزل البركة فيه وهي ليس من عمله بنفسه، بل من عمل الغير، وقد انتفع بعمل الغير ويؤيده قوله في تمام العشرين: إن الزكاة تجب في مال الصغير والمجنون، للمعنى الذي ذكرنا في زكاة الفطر. قال: ومن تأمل العلم وجد انتفاع الإنسان بما لا يعمله ما لا يكاد يحصى. انتهى. وأن هذا الانتفاع يحصل بين الناس وأن بعضهم ينفع بعضًا في دنياه وآخرته، كما أن بعضهم يضر بعضًا في دنياه وآخرته، وأن هذا الانتفاع وهذا الضرر هو خارج عن إهداء ثواب الأعمال كما يظنه بعض من غلط فيه من المفسرين وغيرهم؛ لأن الظاهر من شيخ الإسلام أنه لا يرى إهداء ثواب الأعمال إلى الموتى، كما نقل ذلك ابن مفلح في شرح المحرر من آخر كتابه: ذكر الشيخ تقي الدين بأنه ليس من عادة السلف إهداء ثواب الأعمال إلى موتى المسلمين، بل عادتهم أنهم يعبدون الله بأنواع العبادات فرضها ونفلها وكانوا يدعون للمؤمنين والمؤمنات كما أمر الله بذلك ويدعون لأحيائهم وأمواتهم، فلا ينبغي للناس أن يعدلوا عن طريق السلف فإنها أفضل وأكمل. اهـ.

ونقل ابن اللحام في الاختيارات منه مثل هذا الكلام، فقال: إنه لم يكن من عادة السلف إذا صاموا تطوعًا أوصلوا تطوعًا أو حجوا تطوعًا أو قرأوا القرآن أنهم يهدون ثواب ذلك إلى أموات المسلمين، فلا ينبغي العدول عن طريق السلف، فإنه أفضل وأكمل. ولعل هذا هو المحقق من رأيه؛ لأنه لا يمكن أن يدعو الناس إلى العمل به ثم يخالفهم إلى القول بخلافه، وقد قيل: إن ابن مفلح وابن اللحام هما أعرف الناس باختيارات شيخ الإسلام والله أعلم.

* * *

[89] أخرجه البخاري من حديث ابن عباس. [90] أخرجه الترمذي من حديث ابن عباس. [91] ورد هذا الحديث في الفرج بعد الشدة للتنوخي. [92] أخرجه مسلم من حديث عبادة بن الصامت. [93] أخرجه أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري. [94] أخرجه أبو داود مرسلا من حديث المطلب بن عبد الله بن حنطب. [95] أخرجه ابن عساكر في معجمه من حديث ابن عمر.