إعادة الحديث في البحث الجاري مع الشيخ إسماعيل الأنصاري فيما يتعلق بالأضاحي عن الأموات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله وأستعين بالله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أما بعد:
فقد نشرت جريدة الدعوة بالرياض، في عددها المؤرخ 4 ذي الحجة عام 1390هـ، منشورًا صادرًا من الشيخ إسماعيل الأنصاري في خصوص المدارك على كتابنا الدلائل العقلية والنقلية.
قال الشيخ إسماعيل الأنصاري - عفا الله عنه-:
وهذا أوان الشروع في المقصود (ص31/32)، حيث يقول المؤلف: إن الأضحية عن الميت لم يقع لها ذكر في كتب الفقهاء المتقدمين من الحنابلة، لا في المغني على سعته ولا في الكافي ولا المقنع ولا المحرر ولا في الشرح الكبير ولا الخرقي ولا في المذهب الأحمد ولا الإنصاف ولا النظم ولا المنتقى في أحاديث الأحكام للمجد ولا الإلمام في أحاديث الأحكام ولا في إعلام الموقعين ولا في زاد المعاد.. إلخ. قال: فتركهم لذكرها ينبئ عن عدم عملهم بها في زمنهم أو على عدم مشروعيتها عندهم. وادعى المؤلف أن هذا النفي نتيجة التتبع والاستقراء.
وجوابه: إن الإمام أبا داود والذي بحث هذه المسألة في كتابه السنن، كان قبل الذين ذكرهم المؤلف، وهو كما أنه من أئمة الحديث يعتبر من كبار أصحاب الإمام أحمد بن حنبل، ومسائله التي رواها عنه أشهر من نار على علم، ونص سنن أبي داود: باب الأضحية عن الميت، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا شريك، عن أبي الحسناء، عن الحكم، عن حنش قال: رأيت عليًّا يضحي بكبشين، فقلت له: ما هذا؟ فقال إن رسول الله أوصاني أن أضحي عنه، فلا أزال أضحي عنه أبدًا. رواه أبو داود، وقد قال في سننه: ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه، وما كان فيه وهن شديد بينته وما لم أ ذكر فيه شيئًا فهو صالح وبعضها أصح من بعض، نقل ذلك عنه غير واحد منهم ابن الصلاح في مقدمته. اهـ.
فالجواب: إن الشيخ إسماعيل - عفا الله عنه- يتجهم ويتجاهل ما كان ظاهرًا جليًّا، يوهم الناس أنه قد وجد ما ينقض قولي به، حيث أورد ما ذكره أبو داود في سننه، حيث قال: باب الأضحية عن الميت، ثم ساق حديث حنش الصنعاني عن علي، أن رسول الله أمره أن يضحي عنه، كأنه لم يقع له ذكر في كتابي، وتجاهل بأنني قد سبقته إلى سياق هذا الحديث بجملته وترجمته حيث ذكرت في الرسالة، بأن أسبق من رأيناه طرق موضوع الأضحية عن الميت هو أبو داود في سننه، ثم ذكرت حديث حنش عن علي بتمامه ولم أستحل كتمانه، ثم ذكرت أيضًا رواية الترمذي له، حيث قال: إن الحديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. أي إلا من رواية حنش ثم أعقبه بما يدل على ضعفه. فقال: قال عبد الله بن المبارك: أرى أن يتصدق عن الميت بثمن الأضحية ولا يضحي عنه، فإن ضحى له فلا يأكل منها شيئًا. والحاصل أن الشيخ إسماعيل لم يأت بحرف واحد ينقض به ما قلت، وإنما غايته أنه متعنت يورد ما لا حجة له فيه ليروج به على الأذهان وعلى ضعفة الأفهام، ومناظر المتعنت تعبان، ومناظر المنصف مستريح.
وأما قوله: إن الإمام أبا داود يعتبر من كبار أصحاب الإمام أحمد، وإن مسائله التي رواها عن الإمام أحمد أشهر من نار على علم.
فالجواب: إن أبا داود، وإن كان من أصحاب الإمام أحمد، فإنه معدود من المحدثين؛ لأنه أحد الستة الذين يكثر روايتهم للحديث وهم: البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه، ومسائله التي سأل عنها الإمام أحمد لا تخرجه عن عداد المحدثين، إذ كل محدث يكون معه من الفقه بحسبه، لكون الفقه مستنبطًا من الكتاب والسنة، كما في البخاري عن معاوية أن النبي ﷺ قال: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»، يقال: فقه (بكسر القاف) إذا فهم، وفقه (بضم القاف) بوزن ظرف، إذا كان الفقه خلقًا وسجية له وانطبعت فيه أوصافه وهو المراد بقولي: أنها لم تكن معروفة عند فقهاء الحنابلة المتقدمين، ولم يأت هذا الناقد بما يناقض ما قلت، ولو وجد شيئًا لذكره، فنحن على ما قلنا حتى يقوم دليل. على أن أبا داود في مسائله التي رواها عن الإمام أحمد هو السائل لا المسؤول، ومثل السؤال عن هذه المسائل من كل ما يتعلق بالأحكام وأمور الحلال والحرام يجوز أن يقع من المحدث ومن الفقيه ومن العامي، يقول الله تعالى: ﴿فَسَۡٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٤٣ بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلزُّبُرِ﴾ [النحل: 43-44]، وأما قوله: إن أبا داود قال في سننه: ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه وما كان فيه وهن شديد بينته وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح.
فالجواب: إن العلماء من المحققين قد طرقوا موضوع ما سكت عنه أبو داود، وقرروا بأنه لا يلزم أن يكون كل ما سكت عنه صالحًا للاستناد والاعتماد، بل قد يكون صحيحًا ويكون حسنًا ويكون ضعيفًا، على حسب ما يقتضيه من التصحيح والتضعيف، قال الحافظ ابن حجر صاحب فتح الباري: إن قول أبي داود: وما فيه وهن شديد بيّنته. يفهم منه أن ما يكون فيه وهن غير شديد لم يبيّنه، ومن هنا يظهر لك طريق كل من يحتج بكل ما سكت عنه أبو داود، فإنه يخرج أحاديث جماعة من الضعفاء ويسكت عليها، كابن لهيعة وصالح مولى التؤمة وموسى بن وردان، فلا ينبغي للناقد أن يتابعه في الاحتجاج بأحاديثهم بمجرد سكوته، بل طريقه أن ينظر هل لذلك الحديث متابع يعتضد به أو هو غريب فيتوقف فيه، لاسيما إذا كان مخالفًا لرواية من هو أوثق منه، فإنه ينحط إلى قبيل المنكر، وقد يخرج أحاديث من هو أضعف من هؤلاء بكثير، كالحارث بن وجيه وصدقة الدقيقي ومحمد بن عبد الرحمن البيلماني، وكذا ما فيه من الأسانيد المنقطعة، وأحاديث المدلسين الضعفاء، والأسانيد التي فيها من أبهمت أسماؤهم فلا يتجه الحكم على أحاديث هؤلاء بالحسن من أجل سكوت أبي داود عنها؛ لأن سكوته تارة يكون اكتفاء بما تقدم له من الكلام في ذلك الراوي، وتارة يكون ذهولاً منه، وتارة يكون لظهور شدة ضعف ذلك الراوي واتفاق الأئمة على طرح روايته، كأبي الحديد ويحيى بن العلاء، وتارة يكون لاختلاف الرواة عنه وهو الأكثر، ثم قال: والصواب عدم الاعتماد على مجرد سكوته لما وصفنا من أنه يحتج بالأحاديث الضعيفة ويقدمها على القياس، هذا إن حملنا قوله: وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح. على أن مراده صالح للحجية وهو الظاهر، وإن حملناه على ما هو أعم من ذلك وهو الصلاح للحجية والاستشهاد والمتابعة، فلا يلزم أن يحتج بالضعيف». اهـ. من المنهل العذب المورود على سنن أبي داود ج1 ص7.
ثم قال الشيخ إسماعيل:
إنه يتبين أن حديث علي في نظر أولئك الأجلة الحفاظ: أبي داود والترمذي والحاكم والذهبي، ليس كما هو في نظر الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود، فعسى ألَّا ينالهم شيء من مهاجمته لأهل العلم في هذه الرسالة.
فالجواب: إن هذا الناقد في سبيل نصر رأيه وإعلاء كلمته يوهم الناس أن أبا داود والترمذي والذهبي، قد حكموا بصحة هذا الحديث والعمل به، استدلالاً بأن أبا داود ترجم له في سننه وساق الحديث بجملته، ومثله الترمذي في جامعه، وهذا الاحتجاج غير صحيح وليس من اصطلاح المحدثين، فإن أبا داود يترجم دائمًا للأحاديث التي ليست بصحيحة عنده وليست على مذهبه، وإنما يترجم لها حسبما بلغه منها وبعده يتعقبها أهل النقد بالتمحيص والتصحيح، فيقولون: رواه أبو داود بسند صحيح ورواه أبو داود بسند حسن ورواه أبو داود بسند ضعيف، فلا يدل كل حديث ساقه في سننه وترجم له أنه قد ارتضاه صحة وعملاً ومذهبًا، من ذلك قوله: باب الوضوء بالنبيذ، ثم قال: حدثنا هناد وسليمان بن داود المعتكي قالا: «حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ أَبِى فَزَارَةَ عَنْ أَبِى زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِىَّ ﷺ قَالَ لَهُ لَيْلَةَ الْجِنِّ «مَا فِى إِدَاوَتِكَ». قَالَ نَبِيذٌ. قَالَ «تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ»» زاد الترمذي: «فدعا به فتوضأ منه». فهذا الحديث ضعيف جدًّا عند أهل الحديث؛ لأن راويه أبا زيد مجهول، وابن مسعود ينكر أن يكون مع رسول الله ليلة الجن أحد، وأبو داود لا يرى العمل به وترجم له وساقه بسنده في سننه، وقد تقدم كلام الحافظ ابن حجر، حيث قال: إن أبا داود يخرج أحاديث جماعة من الضعفاء ويسكت عنها، فلا ينبغي للناقد أن يتابعه على الاحتجاج بها، بل طريقه أن ينظر هل لذلك الحديث متابع يعتضد به؟ أو هو غريب فيتوقف فيه؟.
وفي هذا البيان الرد على من جعل سكوت أبي داود حكمًا قطعيًّا على صحة ما سكت عنه، ومن واجب المخلص في قول الحق ونصيحة الخلق ألَّا يحكم على الحديث بالصحة وهو يعلم أنه ضعيف، ولا بالضعيف وهو يعلم أنه صحيح، تدليسًا وتلبيسًا على أفهام الناس. وأما الترمذي، فقد روى هذا الحديث وقال: غريب لا نعرفه إلا من رواية شريك، فحكم عليه بالغرابة لكونه لم يروه عن علي أحد غير حنش بن المعتمر الصنعاني، وأكد غرابته بقوله: لا نعرفه إلا من حديث شريك. والغريب هو ما يرويه واحد وهو ضد المعروف المشهور، لهذا يغلب على الغريب الضعف في أكثر أحواله، كما قال في ألفية الحديث للسيوطي: والغالب الضعف على الغريب. يقال: حديث غريب؛ لانفراد راويه عن غيره. قال في شرح بلوغ الوطر من مصطلح أهل الأثر (ص13): واعلم أن وصف الحديث بالمشهور والعزيز والغريب لا ينافي الصحة ولا الضعف، بل قد يكون كل من الثلاثة صحيحًا، وقد يكون ضعيفًا، ولكن الضعف في الغريب أكثر، ومن ثم كره جمع من الأئمة تتبع الأحاديث الغريبة، فقد قال مالك: شر العلم الغريب، وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس. وقال الإمام أحمد: لا تكتبوا هذه الغرائب، فإنها مناكير وغالبها عن الضعفاء. اهـ. ومتى كان الحديث غريبًا وراويه مجروحًا فهو متروك لا يحتج به عند المحدثين، وهذا الحديث غريب في سنده وغريب في متنه وراويه حنش الصنعاني مجروح لا يحتج بحديثه عند المحدثين كما سيأتي الكلام عليه في محله، وقد قال أبو بكر بن العربي بعد تخريجه لحديث علي في شرحه على الترمذي، قال: وبالجملة فهذا حديث مجهول. وقال صاحب تحفة الأحوذي على الترمذي: إني لم أجد في التضحية عن الميت منفردًا حديثًا صحيحًا، وأما حديث علي هذا فضعيف كما عرفت. وأما نسبة تصحيح هذا الحديث إلى الذهبي، فإنه من جملة ما نسبه إلى أبي داود والترمذي ونحن نطالبه إن كان صادقًا بأن يحيلنا على الكتاب الذي حكم فيه الذهبي بصحة هذا الحديث حتى يبرأ من عهدة نسبته إليه، كما قيل:
ونص الحديث إلى أهله
فإن الوثيقة في نصه
قال الشيخ إسماعيل:
إن الحاكم في المستدرك، قد جمع بين الاحتجاج بالحديث وبين تصحيحه، قال في ج4- ص229: وقد رويت أخبار في الأضحية عن الأموات، فمنها ما حدثنا الشيخ أبو بكر بن إسحاق، أنبأنا بشر بن موسى الأسدي، وعبد العزيز بن علي البغوي، قالا: حدثنا محمد بن سعد الأصبهاني، حدثنا شريك، عن أبي الحسناء، عن الحكم، عن حنش، قال: «ضحى علي بكبشين كبش عن النبي ﷺ وكبش عن نفسه، وقال: أمرني رسول الله أن أضحي عنه، فأنا أضحي عنه أبدًاك».رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
فالجواب: إن العلماء المحققين من أهل الحديث يعرفون حالة الحاكم وتسامحه في سلوكه في مستدركه، وأنه يصحح كثيرًا من الأحاديث الساقطة والموضوعة ويكثر من ذلك حتى كثر الكلام فيه بسببها وحتى حمله بعض الناس على التشيع، وأحسن ما قيل في الاعتذار عنه أنه أصيب بغفلة في آخر عمره، فكان يعتمد في تصحيحه على رواية غير الثقة، فتصحيحه لحديث حنش عن علي هو من قبيل تصحيحه لحديث: «أنا مدينة العلم وعلي بابها». قال الحاكم في مستدركه: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن عبد الرحيم، حدثنا أبو الصلت عبد السلام بن صالح، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهم قال: قال رسول الله: «أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ، وَعَلِيٌّ بَابُهَا، فَمَنْ أَرَادَ الْمَدِينَةَ فَلْيَأْتِ الْبَابَ». قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. فاستدرك على البخاري ومسلم عدم تخريجهما لهذا الحديث الذي أجمع حفّاظ السنة وأئمة الحديث على أنه موضوع أي مكذوب على رسول الله، وكذلك حديث حنش عن علي، فقد تكلم أئمة الحديث على حنش وأنه ينفرد عن علي بما لا يشبه حديث الثقات فصاروا لا يحتجون بحديثه كما سيأتي الكلام عليه إن شاء الله، وهو عراقي ومعلوم غلو أهل العراق في علي.
واعلم أن أئمة أهل الحديث وجهابذة النقاد قد تصدوا لتمحيص الأحاديث وتصحيحها، وبيان حالة رواتها وما يتصفون به من الجرح والتعديل، نصيحة منهم للدين وحماية له عن تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين وتدليس الكذابين، فيذكرون الراوي بصفته ويقولون: فلان كذاب، وفلان مدلس، وفلان سيئ الحفظ، وفلان يكثر من ذكر الأحاديث الموضوعة أو يتساهل في تصحيحها. إلى غير ذلك مما تقتضيه صفة الراوي للتنبيه على حالته وعدم الاغترار بروايته، ولا يعدونه من الطعن المذموم ولا الغيبة المحرّمة، بل هو النصيحة الواجبة، فإن الدين النصيحة لله ولكتابه ولدينه وعباده المؤمنين، ويستدلون على ذلك بقول النبي ﷺ: «ائْذَنُوا لَهُ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ»[79]، وبقوله: «أَظُنّ فُلَانًا وَفُلَانًا لا يَعْرِفَانِ مِنْ دِيننَا شَيْئًا»[80]، وبقوله في صاحب الشجة: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ أَلَّا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِىِّ السُّؤَالُ»[81] إلى غير ذلك، ونقل صاحب الآداب الشرعية عن شرح مسلم على قوله ﷺ: «مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ» قال: الستر المندوب إليه هنا هو الستر على ذوي الهيئات ومن لا يعرف بالأذى والفساد وانتهاك الحرمات، فينبغي الستر عليهم لحديث: «أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ، إلَّا الْحُدُودَ»[82]، قال: فأما من عرف بالأذى والفساد وانتهاك الحرمات، فلا ينبغي التستر عليهم، بل ينبغي رفع أمرهم، ومثله جرح الرواة والشهود والأمناء على الأوقاف واليتامى وغيرهم، فلا ينبغي الستر عليهم، بل ينبغي رفع أمرهم لاتقاء ضررهم، وليس هذا من الغيبة المحرمة، بل من النصيحة الواجبة.اهـ. وبهذا يتضح بطلان ما يتوهمه هذا الناقد، حيث جعل من يتكلم في الرواة وأقوال العلماء بما يقتضيه من التصحيح والتضعيف أنه مهاجمة للعلماء، وذلك حينما قلت: إن حديث حنش عن علي في أضحيته للنبي ﷺ ضعيف جدًّا لا يحتج به، وأنه من قبيل ما يتناقله الفقهاء من الأحاديث الضعيفة، لظنهم أنه صحيح؛ لأن غالب الفقهاء لا يعرفون الأحاديث الصحيحة من الضعيفة معرفة صحيحة، فينشأ أحدهم على قول لا يعرف غيره ولم يقف على طعن أهل الحديث في ضعفه، فيظنه صحيحًا ويبني على ظنه جواز العمل به والحكم بموجبه، فهذا حاصل ما نقمني عليه، حيث أفحش في التعبير عني بدعوى أنني أهاجم العلماء، فكل ما ذكرت فإنه من الأمر الواقع الذي لا أعتذر عنه، من ذلك قولهم: ولا يرفع حدث رجل طهور يسير خلت به امرأة لطهارة كاملة عن حدث. فإن هذه الفقرة بهذه الصفة تجدها في كل كتاب من كتب الحنابلة ينقلها بعضهم عن بعض مستدلين على ذلك بحديث: «لا يَغْتَسِلَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ الْمَرْأَةِ ولا الْمَرْأَةُ بِفَضْلِ الرَّجُلِ» رواه أبو داود والنسائي، على أن الأمر الصحيح الثابت هو ما رواه مسلم عن ابن عباس: «أَنَّ رَسُول اللَّه ﷺ كَانَ يَغْتَسِل بِفَضْلِ مَيْمُونَةَ». ولأصحاب السنن: «اغتسل بعض أزواج النبي في جفنة، فجاء النبي ﷺ ليغتسل منها، فقالت له: إِنِّي كُنْتُ جُنُبًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِنَّ الْمَاءَ لَا يُجْنِبُ»، أفيكون التنبيه على مثل هذا القول الضعيف الذي يتناقله الفقهاء من كتاب إلى آخر أنه من التهجم على العلماء؟! بل هو من باب النصيحة لله ولعباد الله، ومن الشهادة بالحق التي أوجبها الله على عباده بقوله:
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ﴾ [النساء: 135] وإنما يتوجه الملام على من يحاول رفع الأحاديث الضعيفة والموضوعة إلى درجة الصحة في سبيل نصر رأيه وإعلاء كلمته، كحديث حنش عن علي، أن النبي وصاه أن يضحي عنه، وقد تكلم علماء الحديث في حنش وأنه يروي أحاديث عن علي لا تشبه أحاديث الثقات، كما سبق الكلام عليه، ويدل على ضعفه كون الصحابة لم يثبت عن أحد العمل به، أفيكون حنش الصنعاني أعرف منهم بحديث رسول الله، وكذا قولهم: لا تقصر الصلاة في أقل من ستة عشر فرسخًا. مستدلين عليه بحديث: «لَا تَقْصُرُوا الصَّلَاةَ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ»[83]، وكذا قولهم في اشتراط انعقاد الجمعة بحضور أربعين من أهل وجوبها، مستدلين عليه بحديث: «مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ فَصَاعِدًا جُمُعَةً»[84]، فهذه الأحاديث وما بمعناها تجدها دائرة بين الفقهاء، تذكر في كل كتاب من الفقه، على أن الراجح خلافها وما من أحد من العلماء إلا ويتكلم في مثل هذه الأحاديث أو الأقوال المرجوحة عند مناسبة الكلام فيها.
قال الخطابي في معالم السنن (ج1- ص7)، قال: إن العلماء على طبقتين: أهل حديث، وأهل فقه. قال: فأما طبقة أهل الفقه، فإن أكثرهم لا يعرجون من الحديث إلا على أقله، ولا يكادون يميزون صحيحه من سقيمه، ولا يعرفون جيده من رديئه، ولا يعبأون بما بلغهم منه أن يحتجوا به على خصومهم، إذا وافق مذهبهم الذي ينتحلونه أو وافق رأيهم الذي يعتقدون به، وقد اصطلحوا على قبول الخبر الضعيف والحديث المنقطع إذا كان ذلك قد اشتهر عندهم بغير ثبت فيه أو يقين، فكان ذلك ضلة في الرأي وغبنًا فيه. انتهى. يؤكده أن الفقيه في اصطلاحهم لا يطلب منه الدليل. وأما القول مني: بأن حديث حنش ضعيف، فإنني لم أقل ذلك بمجرد الرأي من نفسي، وإنما قلته بما ظهر لي من أقوال أئمة الحديث الذين هم بمثابة الصاغة للرواة، يميزون بين الصحيح والسقيم وهذه نصوصهم معزوة إلى كتبهم:
1- قال البخاري إمام المحدثين في التاريخ الكبير (ص99) القسم الأول من الجزء الثاني (م ج 3)، قال: حنش بن المعتمر الصنعاني وقال بعضهم: حنش بن ربيعة، سمع عليًّا وروى عنه سماك والحكم بن عتيبة والكوفيون يتكلمون في حديثه.
2- وقال ابن حبان البستي في كتاب المجروحين له (ص267) قال: حنش بن المعتمر، والذي يقال له: حنش بن ربيعة الكناني والمعتمر كان جده، يروي عن علي بن أبي طالب وروى عنه الحكم وسماك: كان كثير الوهم في الأخبار، ينفرد عن علي بأشياء لا تشبه حديث الثقات حتى صار ممن لا يحتج به.
3- وقال المنذري في تهذيب سنن أبي داود (ج4 - ص95) قال: حنش تكلم فيه غير واحد.
4- وقال الحافظ ابن أبي حاتم الرازي في كتاب الجرح والتعديل (ج ا): من القسم الثاني (ص291) قال: حنش بن المعتمر الكناني، ويقال حنش بن ربيعة، روى عن علي رضي الله عنه وروى عنه أبو إسحاق الهمذاني والحكم بن عتيبة وسماك، سمعت أبي يقول: أنبأنا عبد الرحمن حدثنا محمد بن أحمد بن البراء، قال علي بن المديني: حنش بن ربيعة الذي روى عنه الحكم لا نعرفه. سمعت أبي يقول ذلك، ويقول: حنش بن المعتمر هو عندي صالح، قلت: أيحتج بحديثه؟ قال: ليس أراهم يحتجون بحديثه.
5- وقال في التلخيص الحبير (ص226): قال في علوم الحديث: تفرّد بحديث حنش عن علي أهل الكوفة وفي إسناده حنش بن ربيعة وهو مختلف فيه.
6- وقال الإمام أبو بكر بن العربي المالكي في عارضة الأحوذي شرح الترمذي (ج6 - ص209) بعد تخريجه لحديث حنش عن علي، قال: وبالجملة فهذا حديث مجهول.
7- وقال في تحفة الأحوذي على الترمذي: إنه لم يثبت عن النبي ﷺ في الأضحية عن الميت منفردًا حديث صحيح وأما حديث علي فضعيف كما علمت.
فهذه شهادات أئمة الحديث الذين يتلقى عنهم الذهبي ومن في طبقته علم الحديث وأخبار المحدثين المجروحين منهم والمعدلين، وقد اتفقت كلمتهم على عدم الاحتجاج بحديث حنش، والقاعدة عند المحدثين أن بينة الجرح مقدمة على بيّنة التعديل، لأن معها مزيد علم قد يخفى على المعدلين وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من رواية شريك، والغريب إذا كان راويه مجروحًا فهو متروك لاجتماع أسباب الضعف فيه وهي غرابته وجرح راويه.
ومما يؤكد ضعف هذا الحديث وعدم صحته هو أن عليًّا رضي الله عنه مكث في المدينة بعد موت النبي ﷺ لكونه لم ينتقل إلى العراق إلا عام ست وثلاثين، وفي كل هذه السنين الطويلة لم يسمع أحد من أهل المدينة ولا من أهل بيت علي، كالحسن والحسين ومحمد ابن الحنفية وابن عباس، أن رسول الله أوصى عليًّا بذلك، وكذلك لم يسمعه أحد من الخلفاء ولا من الصحابة، ولو كان هذا الخبر صحيحًا وأن عليًّا رضي الله عنه لا يزال يضحي عن رسول الله كل سنة، إذًا لاشتهر خبره بين الصحابة، كما اشتهرت سائر السنن من الواجبات والمستحبات، وإذًا لشاركوه في هذه الفضيلة والعمل بهذه الوصية على العسر واليسر ولم يختص بها علي دونهم، إذ الرسول أعز عليهم من أنفسهم ومن والديهم وأولادهم، ومن المحال كون هذه الوصية صحيحة، ثم تخفى على سائر الصحابة ولا يعلم بها إلا حنش الصنعاني الكوفي، بل إن المحفوظ عن أهل بيت رسول الله، ومنهم علي والحسن والحسين ومحمد ابن الحنفية وابن عباس، أنهم كانوا يكتفون بأضحية رسول الله عنهم عن أضحيتهم لأنفسهم، كما أخبر بذلك أبو رافع وهو خادم رسول الله وأعرف الناس بعمل أهل بيته، فقد قال: أمرني رسول الله أن أشتري له كبشين أقرنين أملحين، فذبح أحدهما وقال: بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ وعن أمة محمد من شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ، ثم يؤتى بالثاني فيذبحه ويقول: «اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ»، قال أبو رافع «فَمَكَثْنَا سِنِينَ لَيْسَ رَجُلٌ مِنْ بَنِى هَاشِمٍ يُضَحِّى قَدْ كَفَاهُ اللَّهُ الْمُؤْنَةَ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَالْغُرْمَ» [85]. وكان ابن عباس يعطي خادمه يوم العيد دراهم يشتري له بها لحمًا، ويقول له: من سألك فقل: هذه أضحية ابن عباس. ثم إن عليًّا رضي الله عنه يكذب بهذا الخبر، فقد تحدث أناس من شيعة العراق بأن رسول الله قد خص عليًّا باختصاصات ووصايا دون الناس، وأن عنده قرآنًا غير الذي بأيدي الناس. قال أبو جحيفة، قلت لعلي: هل عندكم شيء من الوحي غير القرآن؟ فقال: لا والذي خلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهمًا يعطيه الله عز وجل رجلاً في القرآن وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير وألَّا يقتل مسلم بكافر. رواه البخاري، وقد وقع هذا السؤال من كثير من الصحابة، يسألون عليًّا، هل خصه رسول الله ﷺ بشيء من الوصايا دون الناس؟ فأنكر أن يكون رسول الله قد خصه بشيء دون الناس، ذكر ذلك شيخ الإسلام في المنهاج.
ثم يقال للشيخ إسماعيل:
متى كنت تجزم بصحة حديث حنش عن علي، أن رسول الله أوصاه أن يضحي عنه وأنه لا يزال يضحي عن رسول الله أبدًا، فكيف ساغ لك في هذا المقام أن تنسى رسول الله، فلم تذكر في منشورك مشروعية الأضحية عنه -عليه الصلاة والسلام- وهو الأصل في نص الوصية وغيره الفرع، وكيف تجاوزت جنابه ونسيت فضيلته وأهملت ذكر وصيته وأخذت تدعو إلى مشروعية الأضحية عن أموات أمته بدون دليل يؤيده، مستدلًّا على ذلك بمفهوم حديث علي، مع إهمالك للعمل بمنطوقه، فكنت كمن يفضل القياس على النص ويهمل العين ويتبع الأثر، وحاسب نفسك كيف أعرض الصحابة والتابعون وسائر علماء المسلمين ومشايخ الدعوة وغيرهم عن العمل بهذه الوصية، حيث لم نسمع عن أحد منهم أنه ضحى لرسول الله، ولا نص عليها في وقفه ولا وصيته، ولو كان هذا الحديث صحيحًا عندهم لبدؤوا بأضحية النبي قبل أضحيتهم لأنفسهم؛ لأنه أولى بكل مؤمن من نفسه وأهله، كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»[86]، لأنها متى صحت هذه الوصية منه لعلي، اعتبرت وصية منه لجميع الناس؛ لأن الاعتبار بعموم لفظها لا بخصوص سببها، أفتقول: إنها سنّة فجهلها الصحابة والعلماء، أو إنهم علموها فأهملوا العمل بها. كل هذا يعد من غير الممكن، بل إن الأمر الصريح هو أن الحديث غير صحيح، ولا عمل عليه عندهم.
ثم قال الشيخ إسماعيل:
أطال مؤلف الرسالة -يعني الشيخ عبد الله بن زيد- في معاتبة شيخ الإسلام في تجويز الأضحية عن الميت واختياره لها على الصدقة بما يطول الكلام بسرده، وإنما نجيب عنه بما يلي: أما الأضحية عن الميت، قد سبق شيخ الإسلام إلى القول به أبو داود والترمذي وبعض مشايخه والحاكم وأبو الحسن العبادي وطائفة من أئمة الشافعية والقاضي أبو بكر بن العربي المالكي، فلم لا يعتبر ذلك على الأقل حاجزًا بينه وبين سبه شيخ الإسلام ابن تيمية، فيما سطره في رسالته من دعوى مخالفته النصوص. انتهى.
فالجواب: إن في هذا الكلام من التلبيس والكتمان والتدليس على الأذهان ما لا يخفى على ذوي العلم والعرفان، أما إلصاقه بنا نسبة السب منّا لشيخ الإسلام، فجوابنا: أن نقول ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم، وإنني أعجب أشد العجب من تصريحه بهذا الإعلان، وللناس عيون وآذان وكتابنا منتشر في البلدان وبيد كل إنسان، فهو ينطق عنا بأوضح البيان، ولن يوجد فيه شيء من هذا البهتان ومن ادعى ما لا حقيقة له فضحته شواهد الامتحان.
لا يكذب المرء إلا من مهانته
أو فعله السوء أو من قلة الأدب
والله يعلم أننا من أشد الناس محبة لشيخ الإسلام واحترامًا له، ونفضل اختياراته في كثير من المسائل التي خالف فيها أئمة المذاهب، لرجحانها عندنا بالدليل، لكننا لا نعتقد فيه العصمة، فنحن نعترف ولا نعتذر من قول الحق والتصريح بالصدق، ودونك نص ما قلت في شيخ الإسلام الذي نعتقده دينًا ومذهبًا، بدون جفاء ولا تعصب، وقد سمّاه هذا الناقد مهاجمة وسبًّا ولم يخش في نشره عارًا ولا عيبًا.
قلت ما نصه: إن القول بتفضيل ذبح الأضحية عن الميت على الصدقة عنه هو مقتبس من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- كما ذكره ابن اللحام في الاختيارات، وأشار إليه ابن مفلح في الفروع قائلا: واختار شيخنا تفضيل ذبح الأضحية عن الميت على الصدقة، ولم أر من سبق شيخ الإسلام إلى القول بهذا من سائر علماء المذاهب، ولسنا نسقط رأيه في هذه القضية بنظريات اجتهادية من عندنا، وإنما نسقطه بما ظهر لنا من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، فقد حكى شيخ الإسلام الإجماع على وصول ثواب الصدقة إلى الميت لوقوع الفتوى فيها من رسول الله في عدة قضايا وبالأخص الأولاد، لكنه لا يستطيع أن يحكي الإجماع على وصول ثواب الأضحية إلى الميت، إذ الأضحية عن الميت مختلف فيها، وليس الأمر المتفق عليه كالمختلف فيه، فنحن إذ نرد كلامه في هذه المسألة، فإنما نرد كلامه بكلامه، فهو الذي عوّدنا معارضة كل قول يخالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، مع قطع النظر عن قائله، إذ الحق فوق قول كل أحد، وفرق بين أن يكون الإنسان قصده معرفة حكم الله ورسوله مثل هذه المسألة، أو أن يكون قصده معرفة ما قاله إمام مذهبه وفقهاؤه أو ما قاله الشيخ الفلاني الذي اشتهر علمه وفضله.
وقلت أيضًا: إن لشيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- الأجر الجزيل والثناء الجميل من الله ومن الناس حتى فيما أخطأ فيه ولا يكون المنتصر لمقالته بمنزلته في حصول الأجر وحط الوزر، بل فرضه الاجتهاد والنظر حتى يتبين له الحق فيأخذ به، وقد أعرض العلماء عن بعض اختياراته لما تبين لهم أن الراجح خلافها وهو بنفسه لا يرضى أن يقلده أحد فيما أخطأ فيه، ويجعله شريكًا لله في التشريع وأمور التحليل والتحريم. فهذا حاصل ما قلت في شيخ الإسلام، ولم أقل والحمد لله إلا خيرًا، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: لا تظن بكلمة خرجت من أخيك شرًّا وأنت تجد لها في الخير محملاً، فإنما ينشأ سوء الظن من خبث النية وسوء السريرة. وهذا الناقد مع شدة حثه وبحثه، لم يجد عن أحد من العلماء ممن سبق شيخ الإسلام أنه قال بتفضيل ذبح الأضحية عن الميت على الصدقة عنه، لا من فقهاء الحنابلة ولا من غيرهم، ولو وجد شيئًا من ذلك لذكره، فنحن على ما قلنا حتى يقوم دليل، كما أنه لم يجد دليلاً واحدًا عن رسول الله ولا عن أحد من الصحابة، يثبت مشروعية الأضحية عن الميت بانفراده، لأن هذا هو موضع البحث ومثار النزاع، ﴿قُلۡ هَاتُواْ بُرۡهَٰنَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ﴾ [النمل: 64].
وأما قوله: إن أبا داود والترمذي قد سبقا شيخ الإسلام إلى القول: بمشروعية الأضحية عن الميت يوهم الناس بهذا القول أن أبا داود والترمذي يقولان بصحة هذا الحديث، كما صرح به في آخر البحث، وقد سبق الكلام منا على الحديث وكلام أهل العلم فيه، وأنه ضعيف لا يحتج به، وبينا تخريج أبي داود والترمذي له، وأن ذلك لا يدل على الحكم منهما بصحته ولا العمل بموجبه، وكل قول مرهون بدليله وبيان صحيحه من عليله ولا يجوز إن أخلص في قوله ونصح في عمله أن يحكم على الحديث بالصحة، وهو يعلم أنه ضعيف ولا بالضعف وهو يعلم أنه صحيح؛ لأن هذا يعد من التلبيس للحق والغش للخلق، ولأن الدين النصيحة لله ولكتابه ورسوله وعباده المؤمنين. قال الشيخ إسماعيل:
وأما أبو بكر بن العربي، فقد قال في شرح الترمذي (ج6 - ص290) قال: اختلف أهل العلم: هل يضحى عن الميت؟ مع اتفاقهم أنه يتصدق عنه والضحية ضرب من الصدقة؛ لأنها عبادة مالية وليست كالصلاة والصيام، وقال عبد الله بن المبارك: أحب إليَّ أن يتصدق عنه بثمن الأضحية ولا يضحي فإن ضحى فلا يأكل منها شيئًا. قال ابن العربي: الصدقة والأضحية سواء في الأجر عن الميت. انتهى.
فالجواب: إن أبا بكر بن العربي لمّا طرق موضوع هذا الحديث قال: وبالجملة، فهذا حديث مجهول، فابتلع الشيخ إسماعيل هذه الجملة في بطنه حيث استباح كتمانها وعدم بيانها، وهي متصلة بالكلام الذي ذكره كاتصال السبابة بالوسطى، وكان من واجب أمانة البحث أن يأتي بها ثم يتعقبها بما يشاء من التصحيح أو التضعيف، حسبما تقتضيه أمانة التأليف، فإن العلم أمانة والكتمان خيانة، والله لا يصلح كيد الخائنين، ومتى ثبتت جهالة هذا الحديث سقط الاحتجاج به ولم يبق سوى رأي أبي بكر بن العربي والرأي يخطئ ويصيب وهو رجل ونحن رجال.
ثم إن قوله: إن الأضحية عن الميت ضرب من الصدقة ليس على إطلاقه لوقوع الفروق بين الصدقة والأضحية، فإن الصدقة لا تسمى أضحية، كما أن الأضحية لا تسمى صدقة، ولكل شيء حكمه على حسب حقيقته ومسماه، أما رأيت العلماء من المحدثين والفقهاء، إذا ذكروا باب الأضحية، فإنهم لم يذكروا معها الصدقة، وإذا ذكروا الصدقة فإنهم لم يذكروا معها الأضحية، ثم إن الأضحية لو أكلها كلها جازت وأجزأت، أما الصدقة فإنها لا تكون صدقة حتى تخرج من يد المتصدق إلى يد المستحق، ثم إن الأضحية لا يجوز فعلها إلا في الوقت المحدد لها وهو يوم العيد وأيام التشريق، أما الصدقة فتجوز كل وقت، ولما ذبح أبو بردة بن نيار - خال البراء بن عازب- أضحيته قبل صلاة العيد أمره النبي أن يذبح بدلها وقال: «إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ يَوْمَنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ، ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ هَذَا فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا،وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاةِ، فَإِنَّمَا هيشاة لَحْم قَدَّمَهُ لأَهْلِهِ» رواه البخاري، ففرّق النبي ﷺ في هذا الحديث بين الأضحية الشرعية وهي الموافقة لسنة رسول الله في الحد والحقيقة، وبين الذبيحة التي ذبحها صاحبها باسم الأضحية وهي مخالفة لسنة رسول الله وشرعه، وأنها تعتبر شاة لحم، سواء أكلها صاحبها أو تصدق بها، وليست من الأضحية في شيء، ولو كانت كل أضحية صدقة لما كلّف النبي ﷺ أبا بردة بإبدال أضحيته، إذ الصدقة تجوز كل وقت.
إن الصنيعة لا تعد صنيعة
حتى يصاب بها طريق المصنع
ومثله صدقة الفطر، فإنها واجبة على كل فرد من الأحياء ولا تشرع في حق الأموات، وهي صدقة من الصدقات، فلو قال أحد بمشروعيتها عن الأموات لحكم العلماء ببطلان قوله، ونحن بكلامنا هذا نريد التفريق بين المشروع وغير المشروع، إذ كل مشروع ملتحق بالعبادات وما ليس بمشروع فإنه ملتحق بالعادات والمبتدعات، لكن لو ذبح شاة أو بقرة أو ناقة في يوم عيد النحر أو في غيره من الأيام، بقصد أن يتصدق بها عن والديه، فإن هذا جائز وعمل مشروع، لإجماع العلماء على وصول ثواب الصدقة وبالخصوص من الولد لوالديه، كما لو اشترى لحمًا من الجزار فتصدق به عن والديه، فإن هذا جائز ومشروع، ثم إن أبا بكر بن العربي والعبادي ونحوهما القائلين: إن الضحية عن الميت ضرب من الصدقة عنه يعنون بذلك أن المضحي لميته يلزمه أن يتصدق بتلك الأضحية، لأنها لا تسمى صدقة حتى تخرج من يد المضحي إلى يد الفقير، لكونهم يرونها حقًّا للفقراء والمساكين، ولهذا قالوا: لا يجوز للمضحي أن يأكل منها، كما ذكره الترمذي في صحيحه عن عبد الله بن المبارك، وكذا قال صاحب غنية الألمعي: إنه إن خص الأضحية للأموات دون شركة الأحياء، فهي حق للمساكين، فبنوا القول بجواز الأضحية للميت على ذلك وجعلوها بمثابة الصدقة عنه، ولو علموا أن الذين يضحون للأموات أنهم يأكلون لحمها ومخها ولا يتصدقون إلا بالقدر اليسير منها لما قالوا بجواز ذلك.
وقد قلنا في الرسالة: إن الأضحية لخاصة الحي أفضل من التصدق بثمنها باتفاق الأئمة الأربعة على ذلك؛ لأن في ذبحها إحياء لسنتها وامتثالاً لطاعة الله ورسوله فيها، أما الأضحية عن الميت منفردًا بها، فإنه لم يثبت مشروعيتها، لا من الكتاب ولا من السنة. ولا عمل بها الصحابة، فكانت الصدقة بثمنها أفضل من ذبحها.
فإن قيل: إن في الأضحية عن الميت تقربًا إلى الله، بإراقة دمها وصدقة بلحمها. قلنا: نحن لا نتكلم في اللحم المركوم بعد ذبحه، والذي لو لم يتصدق به أو يهدى منه لأنتن حتى يقذف به في بطون الكلاب، أو في محل غير مستطاب وليس التصدق بواجب، فلو أكلها كلها إلا قدر أوقية تصدق بها جاز، على أن الذين يضحون لموتاهم إنما يقصدون إهداء ثواب دمها، ثم يأكلون مخها ولحمها، وإن تصدقوا بشيء فبالنزر الحقير منها، فكيف تسمى صدقة وهم قد أكلوها في بطونهم، وهذا هو السبب الذي قال بعض الفقهاء: إنه متى ذبحها لميت لم يجز له أن يأكل منها، لاعتبار أنها حق للفقراء والمساكين.
يبقى الكلام مع ولاة الأوقاف والوصايا، والذي يجتمع عند أحدهم قدر الخمسين أو الستين من الضحايا، يريد أن يجزرها في مقام واحد، كلها أضاحي عن الأموات، وعند الثاني والثالث مثل ذلك، وكذا المتبرعون لأمواتهم بحيث يموت الرجل العظيم من عالم أو حاكم أو تاجر، فينتدب كل واحد من أسرته بذبح أضحية له، بحيث يضحى له في يوم واحد بعشرين أو ثلاثين، لوازم هذا التصرف إتلاف المال وإزهاق أرواح الحيوان الذي يجب ألّا يسفك دمه إلا بحق، فإن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإن كان هذا الذبح في مثل هذه الأغنام يقع بطريق شرعي فسبيل من هلك ومن قتل في حق، فالحق قتله، وإن كان ذبحها يقع بطريق غير شرعي، وأنه لم يثبت مثله عن النبي ﷺ ولا عن أحد من الصحابة لا في تبرعاتهم ولا في أوقافهم ولا وصاياهم، وجب العدول عنها إلى الصدقة بثمنها المنصوص على فضلها ووصول نفعها، ولكونها أنفع للحي والميت، وأقرب إلى طاعة الله ورسوله.
والصرف في مثل هذا يعد من الإصلاح بالعدل الذي رفع الله الإثم عن فاعله، ويكفي من قول ابن العربي الذي جعله الناقد عمدة له في الاحتجاج به قوله: إن العلماء قد اختلفوا في الضحية عن الميت، مع اتفاقهم على أنه يتصدق عنه. فإن هذا الاتفاق الواقع من العلماء هو حقيقة ما ندعو إليه من تفضيل الصدقة عن الميت على الضحية عنه، وقد سمينا كتابنا بالدلائل العقلية والنقلية في تفضيل الصدقة عن الميت على الضحية، كما فصلنا القول في فضلها في الرسالة.
والحاصل أن قول ابن العربي ومثله قول العبادي: إن الأضحية عن الميت نوع من الصدقة، محمول على القول المشهور من أن المضحي لميته يلزمه أن يتصدق بأضحيته، ولا يجوز له الأكل منها، لكونها حقًّا للفقراء والمساكين، كما ذكره الترمذي في جامعه عن عبد الله بن المبارك، وكما ذكره صاحب غنية الألمعي وغيره وهو الظاهر من مذهب الشافعية والأحناف، فبناء على ذلك قالوا: إن الأضحية نوع من الصدقة، لظنهم أن صاحبها يتصدق بها كلها ولا يأكل منها شيئًا، ولو علموا أن صاحبها يذبحها ثم يأكلها في بطنه، لتبدل رأيهم في القول فيها.
ثم إن قولهما بذلك هو رأي منهما لا رواية، ويقابل هذا الرأي منهما بقول الإمام مالك عالم المدينة، حيث قال: لا يعجبني أن يضحي عن أبويه الميتين، ويقابل بقول عبد الله بن المبارك، فيما رواه الترمذي عنه: أرى أن يتصدق عن الميت بثمن الأضحية ولا يضحى عنه، ويقابل أيضًا بقول صاحب مواهب الجليل في مختصر خليل، حيث قال: وكره فعل الأضحية عن ميت كالعتيرة، ويقابل أيضًا بقول صاحب الشرح الكبير للدردير، حيث قال: وإنما كره أن يضحى عن الميت، لأنه لم يرد عن النبي ﷺ ولا عن أحد من السلف، ويقابل أيضًا بقول ابن حجر الهيتمي، في تحفة المحتاج شرح المنهاج، حيث قال: ولا تقع أضحية عن ميت إن لم يوص بها، ويفرّق بينها وبين الصدقة، أن الأضحية تشبه الفداء عن النفس فتوقفت على الإذن ولا إذن لميت، بخلاف الصدقة، ويقابل أيضًا بقول الرافعي والبغوي: ولا تصح الأضحية عن الميت إن لم يوصِ بها، حكاه عنهما النووي في شرح المهذب، وهما شيخا مذهب الشافعية، كما أن الموفق والمجد هما شيخا مذهب الحنابلة، وقال صاحب العدة، من فقهاء الشافعية بمثل ما قاله البغوي والرافعي، ويقابل أيضًا بقول الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، وهو من علماء الدعوة: إن الأضحية عن الميت ليست معروفة عن السلف، ويقابل أيضًا بأن الظاهر من مذهب الشافعية والمالكية والأحناف أنها لا تشرع الأضحية عن الأموات، كما ذكرنا مذاهبهم في الرسالة.
فهذه أقوال من ذكرنا من الفقهاء، سقناها للاعتضاد لا للاعتماد، وإلا فإن العمدة فيما قلنا ونقلنا يعود على عدم ثبات مشروعيتها عن النبي ﷺ أو عن أحد من الصحابة، حيث لم يثبت عن رسول الله ﷺ أنه ضحى لأحد من أمواته، كما أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة أنه ضحى لميته على سبيل الانفراد، ولا نص عليها في وقفه ولا وصيته، وهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، وقد قال بعض السلف: كل عبادة لم يتعبدها رسول الله ولا الصحابة فلا تتعبدوها، فإن الأول لم يترك للآخر مقالاً، وعند هذا يجب وضع ميزان التعادل بين هذه الأقوال والأعمال وبين ما نسبه الناقد إلى ابن العربي والعبادي، ليعرف بها الراجح من المرجوح، كما قيل:
لم تعرف الوزن كفي بل غدت أذني
وزّانة ولبعض قول ميزان
ثم قال الشيخ إسماعيل:
وأما اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية، بتفضيل ذبح الأضحية عن الميت على التصدق عنه، فلنا أن نقول على سبيل الإجمال بما قاله ابن القيم في إعلام الموقعين، حيث قال: لا يختلف عالمان متحليان بالإنصاف أن اختيارات شيخ الإسلام لا تتقاصر عن اختيارات ابن عقيل وأبي الخطاب، بل وشيخهما أبي يعلى. فإذا كانت اختيارات هؤلاء وأمثالهم وجوهًا يفتى بها في الإسلام ويحكم بها الحكام، فالاختيارات لشيخ الإسلام أسوة بها إن لم ترجح عليها، هذا كلام ابن القيم وهو الإنصاف خلاف ما يوهمه صنيع مؤلف الرسالة من عدم إقامة الوزن لاختيارات شيخ الإسلام وقبول كلام الصنعاني والشوكاني، ممن يعتبرون ابن تيمية قدوة لهم.
فالجواب: أن نقول إن الشيخ إسماعيل قد أكثر في منشوره من الهذر والهذيان والتدليس والكتمان ونسبة السب لشيخ الإسلام ودعوى عدم إقامة الوزن منا لاختياراته في الأحكام، كل هذا قد استباحه في سبيل التلبيس على العوام وعلى ضعفة الأفهام، يوهم الناس أنه من المنتصرين لشيخ الإسلام وقد قيل: أحب الحديث أصدقه، وخير القول ما يصدقه العيان، ومن تزين بما ليس فيه شانه الله.
وإن أصدق بيت أنت قائله
بيت يقال إذا أنشدته صدقا
وإن أسفه الناس رأيًا وأسخفهم عقلاً لرجل يكابر في إنكار اليقينيات، ويجادل في جحود الحقائق الجليات، والله يعلم أننا من أشد الناس محبة لشيخ الإسلام، ومن المعظمين لاختياراته في الأحكام وليس من الأمر الحرام مخالفتنا لشيخ الإسلام في مثل هذه المسألة الفرعية التي لا إنكار في الخلاف في مثلها، إذ لم يقل أحد من العلماء بوجوب العمل باختياراته كلها بدون نظر ولا عرض على كتاب الله ولا سنة نبيه. واختياراته هي كما وصفها العلامة ابن القيم من أنها وجه في المذهب صالحة لأن يحكم بها الحكام، فنحن نثني عليها لإصابتها الحق والتسهيل على الخلق ونفضلها على اختيارات ابن عقيل وأبي الخطاب لرجحانها عندنا بالدليل، والوجه هو قول الأصحاب والرواية قول الإمام وهو من أفضل الأصحاب وأعلمهم، وقد جمع بين الرواية والدراية، وقد قال ابن القيم هذا الكلام في سبيل نصرته لشيخ الإسلام، حينما أفتى بجعل الطلاق بالثلاث بلفظ واحد عن طلقة واحدة، وأن الحلف بالطلاق الثلاث متى حنث فيه يمين مكفرة وليس بطلاق، فعند هذا القول أنحى عليه علماء زمانه بالملام وتوجيه المذام، وأكثروا فيه الكلام وشكوه إلى الحكام وكفره من كفره منهم بحجة أنه خرق الإجماع العام وأباح للناس الفرج الحرام وهذه هي آخر المحن التي ابتلي بها، فعند ذلك قال العلامة ابن القيم: إن من له اطلاعًا وخبرة بأقوال العلماء يعلم أنه لم يزل في الإسلام من عصر الصحابة من يفتي في هذه المسألة بعدم لزوم الطلاق، وأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قضى بعدم لزوم اليمين بالطلاق، وأنه لا مخالف له من الصحابة وكذلك التابعون ومن بعدهم ولم يزل من علماء الأئمة والفقهاء والمصنفين من يفتي بعدم لزوم الطلاق إذا حنث الحالف، قال: ولا يختلف عالمان متحليّان بالإنصاف أن الاختيارات لشيخ الإسلام لا تتقاصر عن اختيارات ابن عقيل وأبي الخطاب.. إلخ.
فهذا الكلام قاله على سبيل الاعتذار والانتصار منه لشيخ الإسلام، لمّا اشتد عليه بسببها الخصام وقد أحسن فيما قال، فإن شيخ الإسلام في ذلك على بيّنة من أمره من كتاب ربه وسنة نبيه، ولكن حسده قومه على ما آتاه الله من فضله، وبالخصوص حين رأوه مخالفًا لرأيهم وما عليه علماء مذهبهم، ومع هذا كله فما زالت فتواه تزداد نورًا وتتجدد ظهورًا، وعاد أمر معاديه بورًا ورأيهم ثبورًا، وهكذا الحق مع الباطل، فإن الله سبحانه قد ضمن للحق البقاء وحسن العقبى وأما الزبد فيذهب هباء، و صارت فتواه بجعل الثلاث بلفظ واحد عن طلقة واحدة والحلف بالطلاق يمين مكفرة يحكم بها الآن الحكام في أكثر المحاكم الشرعية من سائر البلدان الإسلامية، والمقصود أن الفقهاء المحققين قد خالفوا المذهب نفسه في كثير من المسائل، لما ترجح لهم بمقتضى الدليل خلافه، فما بالك لمخالفتهم لما هو وجه في المذهب إذا تبين لهم رجحان مخالفته والله أعلم.
ثم قال الشيخ إسماعيل:
لقد وجدنا للمؤلف ما نصه: لقد أعرض العلماء عن العمل ببعض اختيارات شيخ الإسلام، لما تبين لهم أن الراجح خلافها. وفي هذه العبارة ما لا يخفى، فإن اختيارات شيخ الإسلام ليس فيها ما يصح القول بأنه قد رفضه جميع العلماء، ثم نطالب المؤلف بأن يذكر لنا عالما واحدًا رد على شيخ الإسلام في اختياراته، هذا كما شنع عليه المؤلف في رسالته.
فالجواب أن نقول: ثبت في مسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة، أن النبي ﷺ قال: «مَثَلُ الَّذِى لَا يُحَدِّثُ عَنْ صَاحِبِهِ إِلَّا بِشَرِّ مَا سَمِعَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى رَاعِياً فَقَالَ يَا رَاعِىَ اجْزُرْ لِى شَاةً مِنْ غَنَمِكَ. قَالَ اذْهَب فَخُذْ بِأُذُنِ خَيْرِهَا فَذَهَبَ فَأَخَذَ بِأُذُنِ كَلْبِ الْغَنَمِ»، وهذا الناقد يتظاهر بصورة الدفع والدفاع عن العلماء الأعلام وعن شيخ الإسلام لمحاولة تعظيمه عند العوام أو عند ضعفة الأفهام، وليت دفاعه يقع بصريح الصدق في البيان، ولكنه بمجرد التدليس والكتمان والتلبيس على الأذهان، وإنكار الحقائق التي يصدقها الحس والوجدان، ومن ادعى ما لا حقيقة له فضحته شواهد الامتحان، وهذا الإمام الذهبي هو من أخلص الناس في محبة شيخ الإسلام ومن المناصرين له في السر والإعلان، وقد اعترف بأنه يخالف شيخ الإسلام في بعض الأحيان، دونك نص لفظه: قال الذهبي - رحمه الله- ما ملخصه: كان يقضى من شيخ الإسلام بالعجب، إذا ذكر مسألة من مسائل الخلاف واستدل لها ورجح فما رأيت أسرع انتزاعًا للآيات الدالة على المسألة التي يوردها منه ولا أشد استحضارًا للمتون وعزوها منه، كأن السنة نصب عينيه وعلى طرف لسانه، وكان آية من آيات الله في التفسير والتوسع فيه، وأما أصول الديانة ورد أقوال المخالفين، فكان لا يشق غباره فيها ولعل فتاويه في الفنون تبلغ ثلاثمائة مجلد، بل أكثر، وكان قوّالا بالحق لا يأخذه في الله لومة لائم، قال: ومن خالطه وعرفه فقد ينسبني إلى التقصير فيه ومن نابذه وخالفه فقد ينسبني إلى التغالي فيه، وقد أوذيت من الفريقين من أصحابه وأضداده، تعتريه حدة ولكن يقهرها بالحلم ولم أر مثله في ابتهاله واستغاثته وكثرة توجهه إلى ربه وأنا لا اعتقد فيه العصمة، بل أنا مخالف له في مسائل أصلية وفرعية، فإنه كان مع سعة علمه وسيلان ذهنه وتعظيمه لحرمات الدين بشرًا من البشر، تعتريه حدة في البحث وغضب وشظف للخصم تذرع بسببها عداوة في النفوس وإلا فلو لاطف خصومه لكان كلمة إجماع، فإن كبار العلماء خاضعون لعلومه معترفون بندور خطئه وأنه بحر لا ساحل له وكنز لا نظير له وكان محافظًا على الصلاة والصوم، معظمًا للشرائع لا يؤتى من سوء فهم، فإن له الذكاء المفرط ولا من قلة علم، فإنه بحر زاخر، ولا كان متلاعبًا بالدين ولا ينفرد بمسألة بمجرد التشهي بدون دليل، بل يحتج بالقرآن والحديث والقياس ويبرهن ويناظر أسوة بمن تقدمه من الأئمة، فله أجر على خطئه وأجران على إصابته.اهـ. الدرر الكامنة: ج1- ص150/151.
فهذا الإمام الذهبي المعدود من أصفى الناس محبة له، وأشدهم احترامًا وحماية له، وقد أشار في كلامه بأنه يخالف شيخ الإسلام في بعض المسائل، ولن يقدح ذلك في صحة ولايته وصدق محبته.
وقد صفى التاريخ الصادق خلاصة محنة شيخ الإسلام مع خصومه فسجل التاريخ تسميته بشيخ الإسلام وبتقي الدين، أنطق الله ألسنة الناس بذلك بدون أن يتسمى به بنفسه وأثبت التاريخ بأنهم إنما نقموا عليه من أجل أنه خالف رأيهم وما عليه علماء مذهبهم وما كانوا يعتقدونه في أنفسهم، فحسدوه على ما أتاه الله من فضله من سائر العلوم والفنون التي بهرت العقول، كما قال ابن الوردي:
سعى في عرضه قوم سلاط
لهم من نثر جوهره التقاط
إن بعض الناس لا يتحمل الصبر على مخالفة رأيه ومذهبه ولو في مسألة فرعية لا إنكار في الخلاف في مثلها أو في مسألة نحوية وشبهها، فتراه يغضب ويضطرب عند مخالفته ويتحامل على من خالفه ولو بدون بيّنة من أمره، فيفند رأيه ويصغر أمره ويحاول الحط من قدره، ليثبت في نفوس الناس عدم الاعتداد بقوله، كما روي عن أبي حيان صاحب التفسير المسمى بالبحر المحيط، أنه كان يحب شيخ الإسلام ويجالسه ويأخذ العلم عنه وقد امتدحه بأبيات منها:
لمّا أتانا تقي الدين لاح لنا
داع إلى الله فرد ما له وزر
حبر تسـربل منه دهره حبرا
بحر تقاذفُ من أمواجه الدرر
قام ابن تيمية في نصـر شرعتنا
مقام سيد تيم إذ عصَت مضـر
فأظهر الحق إذ آثاره اندرست
وأخمد الشـر إذ طارت له شرر
ثم إن أبا حيان بعد هذا الكلام، ناظر شيخ الإسلام في مسألة نحوية، فقال شيخ الإسلام الصواب فيها كذا، فقال أبو حيان: إن في كتاب سيبويه كذا، فقال شيخ الإسلام: إن سيبويه ليس بنبي النحو وقد غلط في ثمانين موضعًا لا تفهمها أنت. فغضب أبو حيان وفارق شيخ الإسلام، وأخذ يتحامل عليه في تفسيره من أجل مخالفته لرأيه في هذه الكلمة، ثم إن أكثر المعادين له رجعوا عن رأيهم في لومه واعترفوا بفضله وسعة علمه، منهم: السبكي، فقد كتب إليه الذهبي يعاتبه على كلام تحامل به على شيخ الإسلام. فأجابه السبكي قائلاً: أما قول سيدي في الشيخ تقي الدين فالمملوك يتحقق كبير قدره وزخارة بحره وتوسعه في العلوم العقلية والنقلية وفرط ذكائه واجتهاده وبلوغه في كل من ذلك المبلغ الذي يتجاوز الوصف، والمملوك يقول ذلك دائمًا وقدره في نفسي أكبر من ذلك وأجل، مع ما جمع الله له من الزهادة والورع والديانة ونصرة الحق والقيام فيه، لا لغرض سواه، وجريه على سنن السلف وأخذه في ذلك بالمأخذ الأوفى وغرابة مثله في هذا الزمان، بل من أزم انتهى من الدرر الكامنة.
والمقصود، أن قول الشيخ إسماعيل: إننا نطلب من المؤلف بأن يذكر لنا عالما واحدًا رد على شيخ الإسلام، إلى آخر ما قال، فإن هذا الكلام ينبئ عن نقص علم وقصور فهم أو تجاهل منه بالأمر الواقع، فإن مخالفة بعض العلماء لبعض اختياراته هو من الأمر الواقع بالعيان، والمشاهد بالحس والوجدان في زماننا هذا وفي سالف الأزمان، إذ لم ينقل عن أحد من العلماء أنه قال بوجوب العمل بكل اختيارات شيخ الإسلام؛ لأن الناس في اختياراته على أقسام، منهم من يعرض عنها ويسير مع قافلة فقهاء مذهبه ولا يعرج على غيره، يلقط لفظ الفقهاء كلما لفظوا، ويتبع ظلهم أينما انبعثوا، وهؤلاء هم المقلدون، والمقلد المحض ليس معدودًا من أهل العلم، ومنهم من يأخذ ببعض اختياراته ويعرض عن بعض، على حسب ما يترجح في نفسه بمقتضى الدليل والبرهان، يبحث عن الحق في أي مذهب يجده، فإذا وجده اعتنقه؛ لاعتبار أن الحق ضالته المنشودة وغايته المقصودة، فهؤلاء هم المستضيؤون بنور العلم والتحقيق، واللاجئون من الدين إلى ركن وثيق.
وبالجملة فإن اختيارات شيخ الإسلام هي رحمة عامة ونعمة واسعة تتمشى على طريقة الشريعة السمحة السهلة التي ليست بحرج ولا أغلال، يؤيد كل قول بدليله مع بيان صحيحه من عليله، فمن أراد الله به الخير حبب إليه شيخ الإسلام وابن القيم والنظر في كتبهما، وإنما قلت: بأن العلماء قد أعرضوا عن بعض اختيارات شيخ الإسلام، لما تبين لهم أن الراجح خلافها، إنما أريد بذلك الأمر الواقع بالعيان وفي بعض البلدان والذي لا يختلف فيه اثنان. فمن ذلك الطلاق بالثلاث بلفظ واحد، فبعض العلماء يجعله عن طلقة واحدة، عملاً بالسنة والقرآن، وتمشيًا مع اختيارات شيخ الإسلام، وبعض العلماء يجعله طلاقًا بائنًا، يفرّق به بين المرء وزوجه، كما هو المعمول به الآن في بعض البلدان. ومنها: إن الحلف بالطلاق بالثلاث إذا حنث يجعله بعض العلماء يمينًا مكفرة وليس بطلاق، عملاً باختيارات شيخ الإسلام، وبعض العلماء يجعله طلاقًا إن كان بلفظ الواحدة فواحدة أو بلفظ الثلاث فثلاث، خلافًا لاختيارات شيخ الإسلام، ومنها: إن شيخ الإسلام يرى عدم وقوع الطلاق في الحيض لحرمته، مستدلًّا على ذلك بقوله: ﴿إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: 1]، وبحديث ابن عمر في الصحيحين، وخالفه أكثر العلماء وقالوا بصحة وقوع الطلاق ولزومه مع الحرمة، ومنها: إن المختلعة من زوجها ليس عليها إلا الاستبراء بحيضة واحدة، أي اختيارات شيخ الإسلام، وخالفه كثير من الفقهاء، فأوجبوا عليها عدة الطلاق، أي ثلاث حيض ممن تحيض، ومنها: إن المتمتع بالعمرة إلى الحج ليس عليه إلا طواف واحد وسعي واحد، كالقارن على السواء أي اختيارات شيخ الإسلام، وخالفه بعض الفقهاء فقالوا: يجب عليه طواف للعمرة وسعي للعمرة وطواف للحج وسعي للحج. ومنها: إن شيخ الإسلام يرى جواز طواف فرض الحج للحائض والنفساء متى خافت فوات الحج بذهاب الرفقة ولا يمكنها التخلف عنهم فتستثفر بثوب ثم تطوف، ويتم بذلك حجها، وخالفه بعض الفقهاء في ذلك وقالوا: لا تطوف بالبيت حتى تطهر ولو فات عليها الحج. ومنها: إن شيخ الإسلام يرى جواز صلاة العشاء خلف من يصلي التراويح ولا يضر عنده اختلاف النية بين الإمام والمأموم، وقد خالفه بعض الفقهاء فأوجبوا اتحاد النية بين الإمام والمأموم، فهم يمنعون من صلاة العشاء خلف من يصلي التراويح، إلى غير ذلك من المسائل التي خالف فيها الفقهاء وهي تحقق ما قلنا من إعراض بعض العلماء عن بعض اختياراته، مع قطع النظر عن ترجيح أحد القولين، وهل كانوا مصيبين في خلافه أو هو المصيب، لكون هذا ليس من شأننا في هذا المقام. أما نحن فإننا نفضل العمل باختياراته في كثير من هذه المسائل، فنجعل الطلاق بالثلاث بلفظ واحد عن طلقة واحدة، والحلف بالطلاق نجعله يمينًا مكفرة، وأن المتمتع بالعمرة إلى الحج ليس عليه إلا طواف واحد وسعي واحد، لقول النبي ﷺ: «دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»[87]، نفتي بهذا ونحكم بصحته في دائرة عملنا لرجحانه عندنا بالدليل وإن كان غيرنا يرى أن الصحة في خلافه، وكل ما قلنا فإنه يحقق بطلان قول الشيخ إسماعيل، لكونه يتكلم غالبًا على سبيل الخرص والتخمين، بدون تحقق ولا يقين، كقوله: إنه ليس في اختيارات شيخ الإسلام ما يصح القول بأنه قد رفضه جميع العلماء.
وههنا ينبغي أن نختم الكلام بسؤال الشيخ إسماعيل ونقول: متى كنت تعتقد صحة حديث علي رضي الله عنه وأن رسول الله أوصاه أن يضحي عنه، وأن الأضحية هي من القرابين التي يهدى ثوابها لرسول الله ﷺ بناء على صحة هذا الحديث، وأنه ليس في اختيارات شيخ الإسلام ما يصح القول: بأنه قد رفضه جميع العلماء؟ فما رأيك في قول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- بأن إهداء القرب الدينية إلى النبي بدعة. كما نقله ابن اللحام عنه في اختياراته، فعند ذلك يقف الشيخ إسماعيل بمفترق الطرق، لأنه يلزمه أحد أمرين: إما أن يقول إن الحديث صحيح، وفي هذا رد لكلام شيخ الإسلام والإعراض عما قاله، وإما أن يقول: إن الحديث غير صحيح وإن كلام شيخ الإسلام حق وإن إهداء القرب الدينية إلى النبي بدعة، حيث لم يثبت عن أحد من الصحابة أنه أهدى لرسول الله ثواب صلاته أو صيامه أو حجه أو ضحى عنه، وهذه هي خاتمة الأجوبة عن المدارك التي أدلى بها على رسالتنا، وكل عالم وعاقل فاهم، يدرك من مداركه بأنه يتكلم بغير علم وبدون فهم، وكأن غاية جهده ونهاية قصده هو التفوّه بمجرد هذا الرد، ليثبت به قدمه في محل عمله، وكل قول لا دليل عليه يقدر كل أحد على رده، والمقابلة بضده، والله عند لسان كل قائل وقلبه، نسأل الله سبحانه علمًا نافعًا مبرورًا، وعملاً خالصًا مشكورًا، ونعوذ بالله أن نقول زورًا أو نغشى فجورًا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
حرر في 12 ربيع الأول عام 1391هـ.
* * *
[79] أخرجه البخاري من حديث عائشة. [80] أخرجه البخاري من حديث عائشة. [81] أخرجه أبو داود من حديث جابر. [82] أخرجه أبو داود من حديث عائشة. [83] أخرجه الدارقطني من حديث ابن عباس. [84] أخرجه البيهقي في الكبرى من حديث جابر. [85] أخرجه البيهقي في الكبرى من حديث أبي رافع. [86]متفق عليه من حديث أنس. [87] أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس.