متقدم

فهرس الكتاب

 

فصل في الرد على ادعاءات الشيخ عبد العزبز بن ناصر

قال فضيلة الشيخ عبد العزيز بن ناصر بن رشيد في منشوره الشهير:

الحمد لله - لقد اطلعت على رسالة أملاها الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود، ذكر فيها: إن الأضحية عن الميت لا تجوز وأنها غير شرعية، وأن ما عليه الناس من علماء وعوام من الأضحية عن الميت والوصية في ذلك كله خطأ محض، حملهم عليه حسن الظن بمن أفتى بصحة ذلك، كشيخ الإسلام وغيره من علماء الدعوة، وقد جرى مني دراستها فلم أجد ما يصلح مستندًا لما ذهب إليه، بل بالعكس.. إلخ.

الجواب: إن الشيخ ذكر بأنه درس الرسالة، وأنه لم يجد ما يصلح مستندًا لما ذهب إليه صاحبها، وذلك كله من أجل أنه أمسكها ودرسها وهو كاره لها، وإذا اشتدت كراهية الشخص للشيء لم يكد يراه ولا يسمعه، لكون الهوى يعمي ويصم، فلو أنه حين أراد دراستها أخلص عمله لله وعزب عنه هواه، ثم تأمل فصول الرسالة وما تقتضيه من الدلالة لما وقع في شبك هذه الجهالة، ونحن لا نعتذر من قول الحق على شيخ الإسلام أو على غيره، إذ الحق فوق كل أحد، وشيخ الإسلام هو حبيبنا وليس بربنا ولا نبينا، وقد قال ابن عباس: يوشك أن تنـزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله. وتقولون: قال أبو بكر وعمر. ومن المعلوم أن أبا بكر وعمر أفضل من كل أحد بعد رسول الله، وقد قال الإمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا إسناد الحديث وصحته، فيتركونه ويذهبون إلى رأي سفيان وفلان وفلان، والله يقول: ﴿فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ أَن تُصِيبَهُمۡ فِتۡنَةٌ أَوۡ يُصِيبَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63]، ثم إن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- قد خالف الأئمة الأربعة فيما يزيد على سبع عشرة مسألة مشهورة لدى أهـل العلم والمعرفة، ولا يعد انفراده بها شذوذًا، لأن من كان على الحق فهو الأمة الذي يجب أن يقتدى به، وهذه الأقوال التي قلتها والبحوث التي نقلتها لم ألقها ساذجة من دليل الحكم وعلته، كما يفعل بعض الناس، وإنما وطدت ثبات ما قلت بالدلائل القطعية والبراهين الساطعة الجلية، قارنًا كل قول بدليله، مميزًا بين صحيحه وعليله، ولو أنصف الشيخ لعرف ولكنه تجاهل فحرف، والمناظر المتعنت تعبان والصاحب المنصف مستريح، والحق يبدو كرهًا وله تكون العاقبة، والعاقبة للتقوى، ومن واجب المسلم المنصف أن يكون مع الحق بلا خلق، ومع الخلق بلا هوى، وإني وإياه كما قيل:
غموض الحق حين تذب عنه
يقلل ناصر الخصم المحق
تضل عن الدقيق فهوم قوم
فتقضي للمجل على المدق
قال الشيخ عبد العزيز بن رشيد:

إن الأدلة في حكم الأضحية وفضائلها والأحاديث في وصول العمل المهدى إلى الأموات والقول في مشروعية الأضحية عن الأموات إنها أدلة واضحة على مشروعية الأضحية عن الميت كالحي وأن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها، على عكس ما رآه وفهمه، وأما ما أتى به من قبل نفسه وفسر به بعض الأحاديث وحاول به رد كلام علماء المسلمين في الموضوع، فهو عمل خاطئ، لا ينبغي السكوت عليه ولا إقراره، لهذا رأيت من المتعين التنبيه على ذلك بصورة مختصرة لوضوح أدلة هذه المسألة وصراحتها وبالله التوفيق.. إلخ.

فالجواب: أن فضيلة الشيخ لما نشر هذا الإعلان لإعلام الخاص والعام، ووعد بأنه سيورد من الأدلة الواضحة التي يثبت بها مشروعية الأضحية عن الميت كالحي، وأن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها، أنه لما أصدر هذا البيان أصغينا له الآذان، وأفرغنا له الأذهان، ننتظر ماذا يورده من الدليل والبرهان، فنتبعه على الرغم منا والإذعان، لأن واجب المسلم قبول الحق والانقياد له، لكنه وللأسف لم يأت بدليل واحد من الكتاب ولا من السنة ولا من قول أحد من الصحابة ولا التابعين ولا من قول أحد من فقهاء الحنابلة المتقدمين، وإنما رمى بهذه الكلمة ثم انسحب عنها وبعد عن معناها، كما قيل: يداك أوكتا وفوك نفخ، وهذا دأبه في نقده، يرمي بمثل هذه الكلمة على سبيل الخرص والجزاف غير موزونة بمعيار الصحة والإنصاف، ثم يركب لتحقيقها التعاسيف في الصدور والورود ويستدل لها بما يعد بعيدًا عن المقصود، أشبه ديدن الحائر المبهوت، يتمسك في استدلاله بما هو أوهى من سلك العنكبوت.

وأما قوله: بأنني حاولت رد كلام علماء المسلمين في الموضوع.

فالجواب: إن هذه شكاة قد ذهب عنا عارها، فالاحتجاج بمخالفة عمل الناس هي دعوى داحضة وحجة غير ناهضة، لأن عمل الناس للشيء لا يدل على صحته في الشرع، كما أن عدم علمهم بالشيء لا يدل على بطلانه في الشرع وكل شيء مرهون بدليله، لأن العبادة هي ما أمر به الشارع حكمًا من غير اطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي، وقد خالف شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- أئمة المذاهب الأربعة فيما يزيد على سبع عشرة مسألة مشهورة لدى أهل العلم والمعرفة، ولا يعد انفراده بها شذوذًا، ومثله الشيخ محمد بن عبد الوهاب، إمام الدعوة، فقد خالف شيخ الإسلام ابن تيمية وخالف الأئمة الأربعة، في بطلان الوقف على الذريّة وسماه: الوقف الجنف، ووقف الجور، واستدل على بطلانه بقوله ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِى حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»[57]، وهذا يدخل في عموم الوصية للوارث، لأن فيه حجرًا لفرائض الله، إذ هو بمثابة الملك المختص، فهذا ملخص قوله، قد خالف به سائر العلماء قبله ولن يقدح في إمامته مخالفته لهم، ونحن نرى أنه أسعد بالصواب منهم لدخول هذا الوقف في عموم الوصية للوارث، ولأن الوقف بهذه الصفة يعتبر جرثومة خصام وتقاطع أرحام، ويحدث الإحن والشحناء بين الإخوان، فمن أحب أن يخلف لعياله مشكلة يتقاطعون عليها الأرحام، ويستمر بينهم فيها النزاع والخصام، فليخلف لهم وقفًا عليهم، ونهاية الأمر أنه يتغلب عليه أقواهم وأجلدهم ويطرد الباقين.

قال فضيلة الشيخ عبد العزيز بن رشيد:

إن ما أفتى به المذكور خطأ من وجوه عديدة، أحدها: أن الأضحية مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ ٢ [الكوثر: 2]، وعن أنس، أن النبي ﷺ ضحى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر. متفق عليه. وعن ابن عمر قال: كان النبي ﷺ ينحر بالمصلى رواه البخاري، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: «مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ مِنْ عَمَلٍ يَوْمَ النَّحْرِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ هِرَاقَةِ الدَّمِ، وَإِنَّهُ لَيَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا، وَأَشْعَارِهَا، وَأَظْلافِهَا، وَإِنَّ الدَّمَ يَقَعُ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ بِالأَرْضِ فَطِيبُوا بِهَا أَنْفُسًا» رواه الترمذي وابن ماجه. «عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الأَضَاحِىُّ قَالَ «سُنَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ». قَالُوا فَمَا لَنَا فِيهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «بِكُلِّ شَعَرَةٍ حَسَنَةٌ». قَالُوا فَالصُّوفُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «بِكُلِّ شَعَرَةٍ مِنَ الصُّوفِ حَسَنَةٌ»» رواه أحمد وابن ماجه، ثم قال: واختلف العلماء في حكم الأضحية، فقال بعضهم: إنها واجبة على الموسر. وبه قال ربيعة والأوزاعي وأبو حنيفة وأحمد في رواية، وقال به بعض المالكية واستدلوا على ذلك بالآية السابقة، وبما رواه أحمد في مسنده عن أبي هريرة مرفوعًا: «مَنْ وَجَدَ سَعَةً فَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا»، وقال بعض العلماء: إنها مستحبة غير واجبة، وبه قال الجمهور. قال: ومن أقوى ما يحتج به لعدم الوجوب ما ورد من أنه ﷺ ضحى عنه وعن أمته في أحاديث صحيحة وحسنة، فأسقط بذلك الوجوب، إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على فضل الأضحية، وأنها قربة إلى الله من أعظم القرب في ذلك اليوم، وصرح ابن القيم بتأكيد سنيتها، وأن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها، لأنه ﷺ وخلفاءه واظبوا عليها وعدلوا عن الصدقة بثمنها، وهم لا يواظبون إلا على الأفضل، وعن ابن عمر، قال: أقام النبي بالمدينة عشر سنين يضحي، وعن ابن عمر أنه سأله رجل عن الأضحية: أواجبة هي؟ فقال: ضحى رسول الله والمسلمون، فأعادها عليه، قال: أتعقل، ضحى رسول الله والمسلمون.. إلخ، انتهى كلامه.

فالجواب: إن هذه الآية التي استدل بها والأحاديث التي أسندها وأقوال العلماء التي سردها كلها خارجة عن موضوع البحث ومثار النزاع، فقد وعد في مقدمة رده أنه سيورد الأدلة التي تثبت مشروعية الأضحية عن الميت، وكون ذبحها عنه أفضل من الصدقة بثمنها، فأورد الآية والأحاديث التي أريد بها أضحية الحي، إذ هي الأضحية المشهورة المشروعة بنص الكتاب والسنة وعمل الصحابة وسلف الأمة، ولو تفكر في الآية وما تقتضيه من الدلالة لعرف أنها حجة عليه لا له، فإن الله يقول: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ ٢ [الكوثر: 2] فوردت الآية مورد الخصوص ومعناها العموم، لكون الرسول هو المبلغ عن الله وحيه يأمر الله عباده بأن يصلوا صلاة العيد لربهم ثم ينحروا أضاحيهم لربهم بعد فراغهم من صلاتهم، فالمخاطبون بالأمر بالصلاة هم المخاطبون بنحر الأضحية ولا علاقة للآية بذكر الأموات البتة، ويدل له ما روى البخاري عن البراء بن عازب، أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ فِى يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّىَ، ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ نَحَرَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لأَهْلِهِ»، فقام أبو بردة بن نيار وقد ذبح، فقال: إن عندي عناقًا جذعة فقال: «اذْبَحْهَا وَلا تَجْزِي جَذَعَةٌ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ»»، فدل الحديث على نحو ما دلت عليه الآية، من تنظيم ذبح الأضحية، وأن كل أضحية تذبح على خلاف ما سنه رسول الله، فإنها شاة لحم قدمها لأهله، وليست من الأضحية في شيء، وإنما سن رسول الله الأضحية في حق الحي شكرًا لنعمة بلوغ عيد الإسلام، وإظهارًا لشرفه وتعظيمه على سائر الأعياد، ومثله استدلاله بما رواه الأمام أحمد أن النبي ﷺ خطب يوم العيد فقال: «مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ وَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا»، حيث حث الموسرين على الأضحية، إذ هي أفضل في حقهم من الصدقة وأفضل ما ينفقه الإنسان في يوم العيد، فقال: «مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ وَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا» ولم يقل: من كان له سعة ولم يضح لميته فلا يقربن مصلانا، حتى يكون له فيه حجة، وقد استدل به من قال بوجوب الأضحية على الغني المقتدر.

وكذا يقال في سائر الأحاديث التي استدل بها، كحديث: «لِلْمُضَحِّي بِكُلِّ شَعَرَةٍ حَسَنَةٌ» وحديث: «مَا عَمِلَ آدَمِىٌّ مِنْ عَمَلٍ يَوْمَ النَّحْرِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ إِهْرَاقِ الدَّمِ»[58]، فإن المضحي والمهرق للدم هو الحي الذي عمل عمله في شراء الأضحية، ثم التقرب إلى الله بذبحها في يوم العيد قائلاً: ﴿قُلۡ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٦٢ لَا شَرِيكَ لَهُۥ [الأنعام: 162-163]، حتى إن جهلة العوام متى سمعوا من لسان الخطيب أو الواعظ مثل هذه الأحاديث التي ترغب في الأضحية نشطوا إلى شرائها حرصًا على حصول الأجر المترتب عليها، ومن المعلوم عدم المناسبة بين هذه الأحاديث التي استدل بها وبين ما يريد أن يستدل له مما يقوي به حجته على القول بمشروعية الأضحية عن الميت، وأنها أفضل من الصدقة بثمنها حسبما وعد به في نقده، ولا يخفى عدم المناسبة على مثله، لكن يترجح عندي أنه يتكلم بدون تفكير، أو أنه لمّا أعوزته الحيلة عن وجود دليل صريح ينهض لصحة ما يدعي به لجأ إلى الاحتجاج بمثل هذه الأحاديث التي هي بعيدة عن المعنى المقصود كياسة منه لقصد الترويج بها على العوام وعلى ضعفة الأفهام، ليوهم الناس أنني أنكر مشروعية الأضحية الثابتة بالكتاب والسنة، حتى يقيم نفسه مقام الغيور المكافح والمنتصر الفاتح على حد ما قيل: إن لم تغلب فاخلب. وإلا فإننا ذكرنا في الرسالة في فضل الأضحية والترغيب فيها أكثر مما ذكر، وكل عالم أو كاتب فاهم متى قابل بين مقدمته في رده وبين مواضع استشهاداته، عرف بطريق البديهة بأنه قد أغرق في النزاع وبَعُد عن مثار البحث، ولو كان عن جهل لعذرناه، ولكنه عن علم فعذلناه، وقد اقتضت حكمة الله، بأن من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن تزيّن بما ليس فيه شانَه الله، وكيف لا يستحيي الناس ولهم عقول وعيون وآذان، ومن ادعى ما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان.

ثم إن بعض الفقهاء يتكلفون صرف الأحاديث إلى غير المعنى المراد منها، ليطبقوها على قواعد مذهبهم ويحاولوا الانتصار بها على خصمهم، فيجعلوا النصوص تابعة لأقوال علمائهم، والحق أن أقوال العلماء هي التابعة لقول الله ورسوله؛ لأن تطرق الخطأ إلى آراء العلماء يكثر بخلاف تطرّقها إلى الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة؛ ولأن الأدلة الشرعية حجة الله على عباده، بخلاف رأي العالم، فإنه يخطئ ويصيب، وفرق بين أن يكون الإنسان قصده معرفة حكم الله ورسوله في مثل هذه المسألة، أو أن يكون قصده معرفة ما قاله علماء مذهبه أو الشيخ الفلاني الذي اشتهر علمه وفضله. ثم قال الشيخ عبد العزيز بن رشيد:

إن ما أتى به صاحب الرسالة من قبل نفسه وفسر به بعض الأحاديث وحاول به رد كلام علماء المسلمين فهو عمل خاطئ لا ينبغي السكوت عليه ولا إقراره.. إلخ.

فالجواب: إن هذا الإنكار الصادر منه علينا هو قول غير مبرور والذي نشر لأجله هذا المنشور، كأنني أتيت ببدع من القول وزور، ومن واجب من يتصدى للرد أن يكون عالما بما يأمر به، عالمًا بتحريم ما ينهى عنه، وأن يكون لديه مؤهلات علمية واستعدادات في التبحر في البحوث الفقهية من كل ما يصيب به الهدف ويؤهله للوصول إلى الغاية بدون تعسف في التأويل ولا بُعد عن سواء السبيل.

من ذلك الإنكار الصادر من فضيلة الشيخ علينا في القول بعدم مشروعية الأضحية عن الميت، ونحن على ثقة من اليقين بصحة ما قلنا، وأن الأضحية إنما شرعت في حق الحي لا الميت، فذكر في إنكاره أننا أتينا بهذا القول من قبل أنفسنا، وأننا نحاول به رد كلام علماء المسلمين، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن هؤلاء المنكرين لهذا القول قد قصروا علومهم وأفهامهم على التفقه في قواعد مذهبهم، ولم يتوسعوا عنه إلى النظر في غيره من كتب الخلاف والمذاهب، فصاروا يستغربون كل قول يخالف رأيهم ومذهبهم، كأنهم يرون أن العلم الصحيح هو فيما حفظوه من مختصر المقنع أو الإقناع أو المنتهى وغيرها من كتب المذهب، فمثلهم كمثل من يخط شبه حلقة الخمس ثم يضع إصبعه وسطه ويقول: العلم ههنا، وما خرج عنه فجهل. ومن طبيعة الإنسان أنه إذا جهل شيئًا أسرع بإنكاره، وذلك لا يغنيه من الحق شيئًا، والحق لا ينحصر في مذهب الحنابلة فقط، ولو كان كذلك لحكمنا ببطلان ما سواه من المذاهب، فلو أن هؤلاء توسعوا قليلاً إلى النظر في شتى البحوث الفقهية وكتب الخلاف وكتب أئمة المذاهب لازدادوا علمًا إلى علمهم ولعرفوا حينئذ أنهم قد حفظوا شيئًا من العلم وضاعت عنهم أشياء، وبذلك يتسع صدر أحدهم لما سيعرض عليه من المسائل الخلافية التي لم تكن معروفة في مذهبه، وإن كانت مشهورة في مذهب غيره، ويعرف القول الراجح بالدليل فيها، لأنه كلما اتسعت معارف الشخص وعلومه اتسع رحبه لما يعرض له وظهر له من العلم ما لم يكن يحتسبه، وما أحسن ما قال الإمام الشافعي في هذا المعنى:
كلما أدبني الدهـ
ـر أراني نقص عقلي
وإذا ما ازددت علمًا
زادني علمًا بجهلي
من ذلك القول الذي نحن بصدده وهي الأضحية عن الميت، حيث قلنا: إنه لم يثبت بطريق صحيح ولا صريح ما يدل على مشروعيته، فإن هذا القول لم يخرج منّا ابتداعًا ولا ابتداءً، بدون سبق عمل من العلماء بموجبه حتى نتهم بالشذوذ به، فقد بيّنت في الرسالة بأن القول بعدم مشروعية الأضحية عن الميت هو المشهور من مذهب الشافعية والمالكية والأحناف، كما ذكرت ذلك موضحًا في الرسالة معزوًّا إلى أصحاب المذاهب المذكورة وإلى كتبهم، كما ذكرها أصحابهم في كتبهم والقول إذا اشتهر ولم ينكر فهو المذهب، وهذه المذاهب الثلاثة ينتحل العمل بها مئات الألوف من علماء المسلمين ما بين فقهاء ومحدثين ومفسرين من لدن القرن الثاني الذي فيه الأئمة إلى زماننا هذا، كلهم يرون في مذاهبهم عدم مشروعية الأضحية عن الميت، فالقول بذلك يعد من الأمر المشهور عند علماء الأئمة الثلاثة، وإن كان القول به مهجورًا عند المتأخرين من فقهاء الحنابلة، فمن أجل الجهل به ظن الشيخ عبد العزيز، بأني أتيت بما يخالف علماء المسلمين كما تراه مصرحًا به من قوله لا يثنيه عنه وجل ولا يلويه خجل.

كما أنني ذكرت في الرسالة بأنه لم يثبت عن الإمام أحمد القول بمشروعية الأضحية عن الميت، وكذلك سائر فقهاء الحنابلة المتقدمين من لدن القرن الثاني الذي فيـه أئمة المذهب إلى القرن الثامن، فلا تذكر في شيء من كتبهم لا في الضحايا ولا الوصايا ولا الأوقاف، كما أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة أنه فعلها، أو أوصى بها، أو وقف وقفًا عليها، وكما أنها لا توجد حتى الآن في البلدان التي خرج العلماء منها، مثل: الشام ومصر والعراق وفارس واليمن فلا تذكر في تبرعاتهم ولا وصاياهم ولا أوقافهم، باعتراف علمائهم، أفيكون جميع هؤلاء العلماء، بإضافة الصحابة إليهم على خطأ، وأن صاحب الإقناع و المنتهى ومن أخذ بقولهما هم المصيبون؟! وكيف تُجعل شرعية وهي لم تثبت من قول الرسول ولا فعله ولا إقراره، ولم يفعلها أحد من الصحابة؟! فعدم العمل بها يعد من الإجماع السابق زمن الصحابة والتابعين، واستصحاب حكم الإجماع في موضع النزاع حجة.

وقد كنت أحسب لهذا الاستغراب الحساب فعملت من الدلائل القطعية والبراهين الجلية من كل ما يؤذن بصحته وصراحته ولم ألقه ساذجًا خاليًا من دليل الحكم وعلته ولا حيلة لي في إفهام من لا يريد أن يفهم، ويُعذر من فعلها أو أوصى بها أو وقف وقفًا عليها من مشايخ الدعوة وغيرهم، بأنهم لمّا سمعوا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- في قوله: إنه يضحى للميت كما يحج عنه ويتصدق عنه، وكذا القول المنسوب عنه، من أن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها، وتأكد ذلك في نفوسهم بقول صاحب المنتهى: وأضحية عن ميت أفضل منها عن حي. فلما سمعوا بهذه الأقوال ظنوا أنها من أفضل الأعمال، وبنوا على ظنهم جواز التبرر بها والوصية بها والوقف على الأضحية، كما قال الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، وهو من مشايخ الدعوة قال: إن الفقهاء لما سمعوا حديث علي أن النبي أوصاه أن يضحي عنه ظنوه صحيحًا، وبنوا على ظنهم بجواز الوقف على الأضحية، والوصية بها، قال: والتضحية عن الميت لم تكن معروفة عند السلف والحديث ليس في الصحاح، وبعض أهل العلم تكلم فيه وبعض الفقهاء لمّا سمعه أخذ بظاهره وقال: لا يضحى عن الميت إلا أن يوصي بذلك، وإن لم يوص فلا يذبح عنه، بل يتصدق بثمنها. فالعاملون بها هم مجتهدون مأجورون، ولو تبين لهم الحق على خلاف ما فعلوا لأخذوا به وآثروه على قول كل أحد، وقد صنف شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- رسالة سماها رفع الملام عن الأئمة الأعلام، ذكر فيها فنونًا من الأعذار عن عدم عمل بعض الأئمة ببعض السنن الصحيحة، وعن مخالفتهم لبعض السنن الصحيحة، وقال: إن الأمر المجزوم به في حقهم هو عدم تعمدهم لمخالفة السنة الصحيحة قطعًا ويعذرون بكون هذه السنة الصحيحة لم تبلغ أحدهم أو أنها بلغته بطريق لا يثبت عنده لضعف سنده، أو أن هذه السنة كانت عنده ثم نسيها، أو أنه ظن عدم شمولها للمعنى المراد، أو أنها بلغته عن طريق ضعيف لطعن المحققين في رواة سنده، وظنه صحيحًا، وعمل بموجبه إلى غير ذلك من الأعذار المقتضية لرفع الملام عن العلماء الأعلام، ولأجله تنوعت المذاهب في مسائل الفروع واتفقوا جميعًا على أن من استبانت له سنة رسول الله، لم يكن له أن يدعها لقول أحد كائنًا من كان.
تَخالف الناس فيما قد رأوا ورووا
وكلهم يدعون الفوز بالظفر
فخذ بقول يكون النص ينصـره
إما عن الله أو عن سيد البشـر
قال الشيخ عبد العزيز بن رشيد:

الوجه الثاني: إن الأضحية عن الميت كالصدقة عنه وكالحج، وهذا جائز شرعًا. وهل الأضحية عن الميت إلا نوع من الصدقة يصله ثوابها كسائر القرب؟ وأي فرق بين وصول ثواب الصدقة والحج وبين وصول ثواب الأضحية؟ وما هذه الخاصية التي منعت وصول ثواب الأضحية، واقتضت وصول بقية الأعمال؟، وهل هذا إلا تفريق بين المتماثلات؟! إلا أن يقول قائل: إن الأضحية ليست بقربة. وما أظن أحدًا يتجرأ على ذلك، لأنها مكابرة.

فالجواب أن نقول: إن الشارع الحكيم ورسول رب العالمين هو الذي فرّق، بين الصدقة والأضحية، لأن الحلال ما أحله الله ورسوله، والدين ما شرعه الله في كتابه وعن لسان نبيه، وقد أمر النبي ﷺ الأولاد بأن يتصدقوا عن آبائهم الميتين، وأن يقضوا واجباتهم من حج وصوم، ولم يأمر أحدًا بأن يضحي عن والديه الميتين، ونحن متبعون لا مشرعون، لأن العبادات مبناها على التوقيف والاتباع، لا على الاستحسان والابتداع، ولهذا قال بعض السلف: كل عبادة لم يتعبدها رسول الله ولا أصحابه فلا تتعبدوها، فإن الأول لم يترك للآخر مقالاً. والأضحية عن الميت بانفراده لم يفعلها رسول الله ﷺ ولم يفعلها أحد من أصحابه، بخلاف الصدقة فقد ثبتت.

أمر النبي ﷺ الأولاد أن يتصدقوا عن آبائهم وأن يقضوا واجباتهم من حج وصوم وقضاء ونذر، وأن يصلوا أقارب آبائهم وأصدقائهم، وكما أمر عمر، بأن يتصدق بوقفه على الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل، وغير ذلك من الأحاديث الدالة على أفضل ما يفعله الحي لميته، وكلها أصول تؤيد قول من قال: إن الأضحية عن الميت غير مشروعة؛ لأن عدم نص النبي عليها وعدم فعل الصحابة لها، لا في أوقافهم ولا وصاياهم ولا تبرعاتهم، يدل على عدم ثبات مشروعيتها، إذ لو كانت مشروعة أو أنه يصل إلى ميتهم نفعها لكانوا أحق بالسبق إليها، فعدم فعلهم لها يعد من الإجماع السابق واستصحاب حكم الإجماع في محل النزاع حجة، لأنها من التعبدات التي يجب لها الوقوف عند الكتاب والسنة وعمل الصحابة.

وبالجملة، فإن هذه النصوص وما في معناها هي أوضح من نار على علم، تلجم المخالف بلجام التقوى وتقوده إلى الإيمان بها بالعروة الوثقى. والعجب من عالم تقي تعرض عليه هذه النصوص وما في معناها ويؤمن بصحتها، ثم يقول بتفضيل الأضحية عن الميت على الصدقة عنه بدون أن يأتي بدليل صحيح يثبت به مشروعية الأضحية عن الميت، فضلاً عن القول بتفضيلها على الصدقة، والأضحية عن الميت لم تكن معروفة عن السلف ولا يمكن نقلها عن أحد منهم، مع شدة حرصهم على الخير، ولا أرشدهم إليها النبي بتصريح ولا إيماء، وقد أرشدهم إلى الدعاء والاستغفار والصدقة، ولو كان ثوابها يصل إليهم بعد موتهم لأرشدهم إليها.

وأما قوله: وهل الأضحية عن الميت إلا نوع من الصدقة. فهذا غير صحيح، فإن الأضحية إذا أطلقت لا تسمى صدقة، كما أن الصدقة لا تسمى أضحية ولكل شيء حكمه على حسب حقيقته ومسماه، أما رأيت العلماء من الفقهاء والمحدثين إذا ذكروا في كتبهم باب الأضحية، فإنهم لم يذكروا معها الصدقة، وإذا ذكروا باب الصدقة، فإنهم لم يذكروا معها الأضحية، وقد نص الفقهاء من أئمة المذاهب الأربعة على أن ذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها في حق الحي؛ لأن في ذبحها إحياء لسنتها واتباعًا لطاعة الله ورسوله فيها ولكونه يتمكن من الصدقة كل وقت ولا يتمكن من فعل الأضحية إلا في الوقت المحدد لها، وهذه المفاضلة تقتضي المغايرة، وأن الأضحية غير الصدقة، كما أنك إذا قلت الحديث أفضل من الفقه، فإن الحديث غير الفقه، نعم إنه لو ذبح ذبيحة في عيد الأضحى أو في أيام التشريق أو في غيرها من الأيام وتصدق بها عن والديه الميتين، فإن ذلك جائز ومشروع، لاعتبار أنها صدقة وليست بأضحية، أشبه ما لو اشترى لحمًا من الجزار فتصدق به عن والديه، فإن هذا مشروع، وقد أوضحنا القول بصحته في الرسالة.

ثم إن حكم الأضحية يفارق الصدقة في أمور عديدة، منها أن الأضحية لو أكلها كلها إلا قدر أوقية تصدق بها جاز وأجزأت أضحية، والصدقة هي الأوقية التي خرجت من يده إلى يد مستحقها، ومنها أن الأضحية لا يجوز ذبحها إلا في الوقت المحدد لها وهو يوم العيد وأيام التشريق، وأما الصدقة فتجوز كل وقت، ثم إن الأضحية لا يجوز فعلها إلا مع المسلم، وأما الصدقة فتجوز على الكافر، ولما تحرّج الصحابة عن الصدقة على أقاربهم من المشركين، وقالوا: لا نتصدق على من ليس من أهل ديننا، أنزل الله تعالى: ﴿لَّيۡسَ عَلَيۡكَ هُدَىٰهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَلِأَنفُسِكُمۡۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ ٱللَّهِۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ ٢٧٢ [البقرة: 272]، فأمروا أن يتصدقوا على أقاربهم من المشركين.

ونحن بكلامنا هذا نريد التفريق بين المشروع وغير المشروع، إذ كل مشروع ملتحق بالعبادات وما ليس بمشروع فإنه ملتحق بالمبتدعات أو العادات، وهذه صدقة الفطر، تجب على كل فرد من الأحياء إذا كان عنده ما يفضل عن قوته وقوت عياله يوم العيد وليلته ولا تفعل عن الأموات لعدم ما يدل على مشروعيتها وهي صدقة من الصدقات، فلو ادعى أحد مشروعيتها عن الأموات بحجة أنها صدقة من الصدقات لحكمنا ببطلان قوله، والنبي ﷺ قال: «مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِىَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِىَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ»[59]، أي وليست من الفطرة في شيء لخروجها عن حدود الشرع في الوقت، ومثله قول النبي ﷺ فيما رواه البخاري عن البراء، أن النبي قال يوم العيد: «إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِى يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّىَ ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّىَ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ عَجَّلَهُ لأَهْلِهِ»، ففرّق رسول الله بين الأضحية الشرعية التي ذبحها صاحبها على وفق ما سنه رسول الله، فوقعت موقعها في الصحة والإجزاء، وبين الذبيحة التي ذبحها صاحبها قبل الصلاة، لكونها وقعت على خلاف ما سنه رسول الله في الأضحية.

وهذا ينطبق على الأضحية عن الميت، فإنها ليست من سنته ولا فعل خلفائه وأصحابه فكانت شاة لحم، وأنها شاة لحم مباحة الأكل وليست من الأضحية في شيء، سواء أكلها صاحبها أو تصدق بها، ومثله حديث: «لَا فَرَعَ وَلَا عَتِيرَةَ»[60] والفرع هو أول ما تنتج الإبل مما كانوا يذبحونه، وقيل: كان الرجل إذا تمت إبله مائة نحر بكرًا وهو الفرع، والعتيرة ذبيحة يذبحونها في العشر الأول من رجب، كانوا يفعلونها في الجاهلية وفعلها المسلمون في أول الإسلام، على حساب أنها مشروعة، ثم نسخ ذلك بقوله: «لَا فَرَعَ وَلَا عَتِيرَةَ»، فنفى التقرّب بهما على سبيل التبرر.

وأما قوله بقياس الأضحية عن الميت على الحج عنه، فإنه قياس مع الفارق، فإن الحج الذي أفتى النبي بقضائه عن الميت هو الحج الواجب بالشرع أو النذر المشبه بالدين اللازم، قال: «فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى» والأمر به وقع مع خاصة الأولاد، وللأولاد مع الآباء حالة لا تشبه حالة غيرهم، إذ الولد كسب لأبيه؛ لأنه السبب في إيجاده فلحقته حسناته، فلا يقاس الحج الواجب بالشرع أو بالنذر على الأضحية التي ليست بواجبة على الأحياء ولا مشروعة في حق الأموات، فليست مماثلة للحج في كل الحالات حتى يقال بمنع التفريق بينهما.

وأما قوله: وما هذه الخاصية التي منعت وصول ثواب الأضحية واقتضت وصول بقية الأعمال، وهل هذا إلا تفريق بين المتماثلات؟! إلخ.

فالجواب: أننا متبعون لا مشرعون، وللأضحية حكم غير حكم الصلاة والصيام والحج؛ لأنها إتلاف حيوان محترم، فإن أتلف بحق فسبيل من هلك ومن قتل في حق، فالحق قتله، ولسنا ممن يجازف بالقول في جواز إهداء سائر الأعمال إلى الموتى من كل عامل حتى يحتج علينا بموجبه، إلا فيما خصه الدليل من قضاء الولد لواجبات أبيه من حج وصوم ونفل وصدقة وما عدا ذلك، فإنه لا يقدس الإنسان سوى عمله، ومن بطأ به عمله لم يسرع به عمل غيره، ﴿يَوۡمَ لَا تَمۡلِكُ نَفۡسٞ لِّنَفۡسٖ شَيۡ‍ٔٗاۖ وَٱلۡأَمۡرُ يَوۡمَئِذٖ لِّلَّهِ ١٩ [الأنفطار: 19]، وقد قلنا في الرسالة: إن قضاء الحج الواجب يجوز فعله من الأجنبي في ظاهر مذهب الإمام أحمد والشافعي؛ لأنه مشبه بدين الآدمي، فهو من باب الإبراء عن الحق الواجب وليست كذلك التضحية.

ثم قال الشيخ عبد العزيز بن رشيد:

إني لا أظن أن أحدًا ينكر وصول ثواب الأعمال إلى الموتى وهو محجوج بالكتاب والسنة والإجماع وقواعد الشرع، قال: ذكر معناه ابن القيم ولم يقل بهذا إلا أهل البدع، ولهذا ذُكِرت هذه المسألة في كتب العقائد، لبيان الاعتقاد الصحيح والتنفير مما عليه أهل البدع.

فالجواب: إن أفضل الكلام ما جلى الحقائق وهدى لأقوم الطرائق، وفضيلة الشيخ قد اعتاد إلقاء مثل هذه الجملة على سبيل الخرص والجزاف، غير موزونة بميزان الصحة والإنصاف، لأنه قد صرف جل عقله وعمله وفهمه على التفقه في مذهبه، ولم يتوسع عنه إلى النظر في غيره، فظن أن إهداء الأعمال إلى الموتى من الأضحية وغيرها أنه من الأمر المجمع عليه عند علماء الإسلام. وأن من قال بخلاف ذلك، فإنه مبتدع، كما تراه مصرّحًا به في قوله، ولو حقق فيما قال النظر بإمعان وتفكر، لعلم أنها مسألة خلافية ليست إجماعية، وحتى فقهاء الحنابلة في كتبهم المشهورة يذكرون خلاف العلماء فيها، قال في المغني: إن الظاهر من مذهب الشافعية، أن ما عدا الدعاء والاستغفار والصدقة والحج الواجب، لا يصل إلى الميت ثوابه لعدم ما يدل على مشروعيته، وحكاه ابن كثير في التفسير مؤيدًا له، أفيرى فضيلة الشيخ أن الشافعي ومن اتبعه في قولهم بهذا يعدون مبتدعة، وحتى شارح الإقناع حكى عن الأكثرين بأنه لا يصل إلى الميت ثواب القراءة، وأن ذلك لفاعله لقول الله تعالى: ﴿وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ٣٩ [النجم: 39]، وقوله: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡ [البقرة: 286].

ومثله يقال في الأضحية عن الميت، فإن الظاهر من مذهب الشافعية والمالكية والحنفية، أنه لا أضحية عن الميت لعدم ما يدل على مشروعيتها، وقد أجمع الأئمة الأربعة على أنه لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد لورود النهي عن ذلك، وأن من مات وعليه صلوات، فإنها تسقط بموته، ولم يقولوا بوجوب قضاء الصلاة عنه، وكذلك الصيام، إذا توفي وعليه شيء من رمضان أطعم عنه عن كل يوم مسكين، ولا يصام عنه في ظاهر مذهب الأئمة الأربعة، وحمل الإمام أحمد حديث عائشة: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ»[61]، أن هذا محمول على صوم النذر، فهو الذي يقضى عن الميت دون صوم الفرض، ورجح ذلك العلامة ابن القيم - رحمه الله- في الإعلام وفي تهذيب السنن.

وأما نسبة القول بهذا إلى العلامة ابن القيم، حيث قال: إن من ينكر وصول ثواب الأعمال إلى الموتى، فإنـه محجوج بالكتاب والسنـة والإجماع وقـواعد الشرع. فإن العلامة ابن القيم - رحمه الله- قد ذكر في كتاب الروح الخلاف الواسع في هذه المسألة، فأسهب فيها وأطنب وعلا وصوب، فذكر أقوال من أجاز ذلك مطلقًا، وأقوال من قيده بما تسبب إليه الميت في حياته، وأقوال من فرّق بين العبادات التي تدخلها النيابة، كالصدقة والحج، وبين ما لا تدخله النيابة، كإهداء ثواب القراءة والصلاة، وذكر حجج كل فريق، وكان عمدة ما تكلم فيه هو إهداء ثواب القراءة، وتكلم على إهداء سائر الأعمال بالتبع، ورجح إهداء ثواب القراءة حسب رأيه.

ثم قال: هل تنتفع أرواح الأموات بشيء من سعي الأحياء أم لا؟ وذكر في الجواب، أنها تنتفع بأمرين مجمع عليهما من أهل السنة، أحدهما: ما تسبب إليه في حياته، والثاني: دعاء المسلمين واستغفارهم له، قال: والصدقة والحج على نزاع. انتهى. وذكر شارح الطحاوية مثل هذا الكلام، وقد رجّحا جواز إهداء ثواب القراءة باجتهادهما، ومن المعلوم أن روايتهما مقدمة على رأيهما في ذلك، إذ الرأي يخطئ ويصيب، وقال العلامة ابن القيم أيضًا، في المجلد الثالث من الإعلام: إن للعلماء قولين في وصول ثواب القراءة إلى الميت، أحدهما: إن القراءة لا تصل إلى الميت، والثاني: إنها تصل ووصولها فرع عن وصول الثواب للقارئ، ثم ينتقل منه إلى الميت، فإذا كانت القراءة من القارئ لأجل الجعل ولم يقصد به التقرّب إلى الله لم يحصل له الثواب، فكيف ينتقل منه إلى الميت وهو فرعه، ولأن الانتفاع بسماع القرآن مشروط بالحـياة، فلما مات انقطع عمله كله. انتهى. وبه يعلم أن الاختلاف في هذه المسألة واقع مشهور، ولم تكن مما اتفق عليه الجمهور، وحسبك شهادة ابن القيم وشارح الطحاوية عن أهل السنة، من أنهم لا يرون انتفاع الأموات بشيء من عمل الأحياء، إلا ما تسبب إليه في حياته، ومنه صدقة أولاده عنه وقضاؤهم لواجباته من حجه وصيامه، لأنه السبب في إيجاد أولاده فلحقه حسناتهم، لأنهم من كسبه لحديث: «إنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ»[62]، والثاني: دعاء المسلمين واستغفارهم له. والدعاء والاستغفار ليس من باب إهداء ثواب الأعمال وإن أدخله بعض الفقهاء في ذلك، ولكنه من باب العبادة التي خلق الله الخلق لها وأمرهم بها، كما سيأتي بيانه قريبًا إن شاء الله.

والمراد بأهل السنة الذين نسب إليهم هذا الاعتقاد هم الصحابة والتابعون، وإنما سمّوا بأهل السنة لكونهم تمسكوا بسنة رسول الله وأصحابه في أقوالهم وأعمالهم واعتقادهم، وساروا على السنة وهي الطريقة العملية التي جرى عليها عمل النبي وأصحابه، وقد حقق ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- قال: إنه ليس من عادة السلف إهداء ثواب الأعمال إلى موتى المسلمين، بل عادتهم أنهم كانوا يعبدون الله بأنواع العبادات المشروعة، فرضها ونفلها، وكانوا يدعون للمؤمنين والمؤمنات، كما أمر الله بذلك ويدعون لأحيائهم وأمواتهم، فلا ينبغي للناس أن يعدلوا عن طريق السلف فإنه أفضل. ذكر ذلك ابن مفلح في شرح المحرر من آخر كتاب الجنائز، ونقل ابن اللحام عن شيخ الإسلام نحو هذا الكلام، فقال: إنه لم يكن من عادة السلف إذا صلوا تطوّعًا أو صاموا تطوّعًا أو حجوا تطوّعًا أو قرؤوا القرآن أنهم يهدون ثواب ذلك لموتاهم، فلا ينبغي للناس أن يعدلوا عن طريق السلف. انتهى. فهذا هو الأمر الثابت عن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- ولا يمكن أن يقول بهذا ويدعو الناس إلى العمل به، ثم يخالفهم إلى خلافه، فما نسب إليه من القول بجواز الأضحية عن الموتى وإهداء ثواب الأعمال إلى الموتى يعتبر غير صحيح والحالة هذه، أو أنه قول قاله ثم ترجح عنده خلافه.

وذكر ابن كثير في التفسير على قوله تعالى: ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰ ٣٨ وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ٣٩ [النجم: 38-39]، قال: ومن هذه الآية استنبط الشافعي ومن اتبعه أن القراءة لا يصل ثوابها إلى الموتى؛ لأنها ليست من عملهم ولا كسبهم، ولهذا لم يندب إليها رسول الله أمته ولا حثهم عليها ولا أرشدهم إليها بنص ولا إيماء ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة ولو كان خيرًا لسبقونا إليه، وباب القربات يقتصر فيها على النصوص ولا يتصرف فيها بأنواع الأقيسة والآراء. قال: وأما الدعاء والصدقة فذاك مجمع على وصولهما ومنصوص من الشارع عليهما، وأما الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: «إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقةٍ جَاريَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ»، فهذه الثلاثة بالحقيقة هي من سعيه وكده، كما في الحديث: «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ وَإِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسْبِه».

وكل ما ذكر من المنع، من إهداء ثواب القراءة، فإنه ينطبق على المنع من إهداء ثواب الأضحية من باب الأولى، لأن ظاهر مذهب الشافعي أن ما عدا الحج الواجب والصدقة والاستغفار، فإنه لا يصل إلى الميت ثوابه، لعدم ما يدل على مشروعيته، وذكر العز بن عبد السلام في فتاويه (24/2) قال: من فعل طاعة لله ثم أهدى ثوابها إلى حي أو ميت لم ينتقل ثوابها إليه، إذ ليس للإنسان إلا ما سعى، فإن شرع في الطاعة ناويًا أن يقع عن الميت لم يقع عن الميت، إلا فيما استثناه الشرع، كالصدقة والصوم والحج.

وقال في نيل الأوطار: أما غير الولد، فإن الظاهر من العموميات القرآنية أنه لا يصل ثواب ما فعله إلى الميت فيوقف عليها حتى يأتي دليل يقتضي تخصيصها، فاتفقت كلمة علماء أهل السنة وهم: شيخ الإسلام ابن تيمية، وكذا ابن القيم، وشارح الطحاوية، فيما نقلوه عن أهل السنة، وكذا العلامة ابن كثير والعز بن عبد السلام والشوكاني، كلهم ذكروا أن إهداء ثواب الأعمال إلى الموتى ليس من عمل أهل السنة، فليقابل العاقل بين أقوالهم وبين قول فضيلة الشيخ عبد العزيز بن رشيد: إني لا أظن أحدًا ينكر وصول ثواب الأعمال إلى الموتى، وأنه لا ينكر وصول ثواب الأعمال إلى الموتى إلا أهل البدع. ليرى الفرق الواسع بين قوله هذا وبين أقوال علماء السنة؛ لأن من عادته إلقاء مثل هذه الكلمة على سبيل الخرص والجزاف غير موزونة بمعيار العدل والإنصاف ولا معرفة الوفاق والخلاف، وقد قيل: إن من شرط صحة الدعوى كونها تنفك عما يكذبها. وقد قام الدليل والبرهان على خلاف ما يدعيه من الإجماع.

غير أن بعض علماء السنة لما سمعوا بالأحاديث الواردة في الدعاء للموتى، وكذلك الأحاديث الواردة في الإذن للأولاد بأن يقضوا واجبات آبائهم من الحج الواجب بالشرع أو النذر وكذا الصوم الواجب بالنذر كحديث المرأة التي قالت: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِى الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِى شَيْخًا كَبِيرًا، لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ: «نَعَمْ، حُجِّي عَنْهُ»»[63]، وكذا المرأة التي قالت: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَلَمْ تَحُجَّ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا قَالَ نَعَمْ حُجِّي عَنْ أمك، قالت: وإنها نذرت صوم شهر فماتت أفأصوم عنها؟ قال: «نعم صومي عنها»[64]، وسألته امرأة فقالت: «يا رسول الله، أُمِّى نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا قَالَ: نَعَمْ. حُجِّى عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَةً اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَا»[65]. وحديث سعد بن عبادة، حيث قال له: «تصدق عن أمك»[66]، وكذا حديث عمرو بن العاص، حين سأل عن نذر كان على أبيه؟ قال: «إنه لَوْ كَانَ أَبُوكَ مسلمًا فَصُمْتَ وَتَصَدَّقْتَ عَنْهُ نَفَعَهُ ذَلِكَ»[67]، وحديث عائشة: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ»[68]، وكلها أحاديث صحيحة.

وهي حجة من استدل بها على إهداء ثواب الأعمال إلى الأموات، وخفي عليهم أن هذه الأحاديث وردت في أعمال خاصة ورخص للأولاد، أفتاهم النبي فيها بأن يقوموا بها عن والديهم؛ لأن هذا مما ينتفع به المرء من عمل غيره، بحيث يعد من قبيل عمله؛ لأنه كان سببًا في إيجاد ولده فلحقته حسناته من دعاء ولده وقضائهم لواجب حجه وصومه وتصدقهم عنه. وهذا معنى ما نقله ابن القيم - رحمه الله- عن أهل السنة، أنهم قالوا: إن أرواح الأموات لا تنتفع بشيء من سعي الأحياء إلا في أمرين مجمع عليهما، أحدهما: ما تسبب إليه في حياته، والثاني: دعاء المسلمين واستغفارهم له. وهذا كله داخل في عموم قوله: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ»، رواه مسلم من حديث أبي هريرة وقد ألحق الله ذرية المؤمنين بهم في نص القرآن في قوله: ﴿وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱتَّبَعَتۡهُمۡ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلۡحَقۡنَا بِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ [الطور: 21] وفي الحديث الصحيح: «إنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ»[69] لكن مدار الجزاء بالثواب والعقاب وبالجنة والنار على عمل الإنسان بنفسه لنفسه جمعًا بين الأخبار، كقوله: ﴿ٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۢ بِمَا كَسَبَتۡ [غافر: 17].

فمن قال بانتفاع الميت بكل عمل يعمل له وإن لم يكن العامل ولده فقد خالف القرآن ولا حجة له في الحديث الصحيح، ولا القياس الصحيح، ويعذر من قال بذلك، بأنهم لما سمعوا بهذه الأحاديث، ظنوا أن الأمر شامل لجواز إهداء ثواب سائر الأعمال إلى الموتى من كل عامل، وبناء على هذا الفهم توسعوا في القول في إهداء ثواب الأعمال إلى الموتى حتى قالوا بجواز إهداء الصلوات المفروضة، كصلاة الظهر والعصر، كما ذكره صاحب الإقناع وغيره، قال القاضي: إذا صلى فرضًا وأهدى ثوابه صحت الهدية في ظاهر المذهب. قال في المبدع: وفيه بُعد. أفترى أن نقبل هذا القول فنهدي فرائض صلاتنا لموتانا؟! كلا والله، بل نحتسبها لنا عند ربنا، والقائلون بذلك هم مجتهدون مأجورون، ولا يكون المنتصر لمقالتهم بمنزلتهم في حصول الأجر وحط الوزر، بل فرضه الاجتهاد والنظر والبحث عن الدليل ليأخذ به ويدعو إلى العمل بموجبه، والأصل في قواعد الشريعة أنه لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد، كما هو الظاهر من مذهب الأئمة الأربعة، وأن من مات وعليه فرائض صلوات عجز عن فعلها في حياته أو تعمد تركها في صحته فإنها لا تقضى عنه، ومن مات وعليه صوم أطعم وليّه عن كل يوم مسكينًا في ظاهر مذاهب الأئمة الأربعة ولم يقولوا بقضاء صومه ما عدا الإمام أحمد، فإنه خص جواز قضاء الولي لصوم النذر فقط، وقد قلنا في الرسالة (ص105): إنه يجوز للأولاد قضاء واجبات آبائهم من صلاة وصوم وحج، سواء كانت واجبة بطريق الشرع أو النذر، لورود الأخبار الصحيحة بجواز ذلك وهو اختيار ابن حزم وخلاف ما عليه الأئمة الأربعة.

وأما قوله: إنه لم يقل بإنكار وصول ثواب الأعمال إلى الموتى إلا بعض أهل البدع، ولهذا ذُكرت هذه المسألة في كتب العقائد لبيان الاعتقاد الصحيح وتنفير ما عليه أهل البدع.

فالجواب أن نقول: مهلا يا أنجشة لا تكسر القوارير وانظر فيما تقول فإن فيه الخلاف الكثير، ونحن لم نجد هذه المسألة بهذه الصفة في شيء من كتب عقائد أهل السنة لا في الواسطية ولا الطحاوية، ولا عقيدة ابن قدامة ولا في غيرها، ونحن نطلب من فضيلة الشيخ، بأن يحيلنا على العقيدة التي ذكرت فيها هذه الجملة، أي: وأن إهداء ثواب سائر الأعمال إلى الموتى حق، أو أن من أنكر وصول ثواب الأعمال إلى الموتى فإنه مبتدع، ليتضح بذلك صحة ما يدعيه، ويحيل عهدته على قائليه، كما قيل:
ونص الحديث إلى أهله
فإن الوثيقة في نصه
وقد ذكر شارح الطحاوية اختلاف أهل السنة في هذه المسألة، فقال: اتفق أهل السنة أن الأموات ينتفعون من سعي الأحياء بأمرين؛ أحدهما: ما تسبب إليه الميت في حياته، والثاني: دعاء المسلمين واستغفارهم له والصدقة والحج على نزاع، قال: واختلف في العبادات البدنية كالصوم والصلاة وقراءة القرآن والذكر فذهب أبو حنيفة وأحمد وجمهور السلف إلى وصولها والمشهور من مذهب الشافعي ومالك، عدم وصولها.

وحكي في شرح الإقناع عن الأكثرين، أنهم قالوا: لا يصل إلى الميت ثواب القراءة، وأن ذلك لفاعله، لقول الله تعالى: ﴿وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ٣٩ [النجم: 39]، فالخلاف بين علماء السنة في هذه المسألة واضح مشهور، ولم تكن مما اتفق عليه الجمهور، وعدم علم الشيخ به لا ينفي وقوعه؛ لأن عدم العلم بالشيء ليس علمًا بعدمه، لكن يترجح أن فضيلة الشيخ قد غلط في فهم حقيقة ما قاله العلماء في هذا الابتداع وأسبابه، فأتى إلى البحث من الخلف ولم يدخل إليه من بابه، وذلك أن أناسًا من المتفلسفة والصوفية والمبتدعة تكلموا في الدعاء وقالوا: إنه لا ينتفع به الميت ولا يجدي شيئًا على الحي، فلا ينتفع به الداعي ولا المدعو له، لأن الذي تدعو به إن كان قد قدر بطريق المشيئة الإلهية، فإنه سيحصل وإن لم تدع، وإن لم يقدر فإنه لن يحصل دعوت أو لم تدع. وبثوا من هذه الفكرة ما يقتضي صرف الناس عن هذه العبادة، فإن الدعاء عبادة من العبادات التي خلق الله الخلق لها، وأمرهم بها، كما روى النعمان بن بشير أن النبي ﷺ قال: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ. ثُمَّ قَرَأَ:﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ٦٠ [غافر: 60] رواه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه، وله من حديث أنس أن «الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ» وله من حديث أبي هريرة «لَيْسَ شَىْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنَ الدُّعَاءِ ومن لم يسأل الله يغضب عليه».

ولم يشرع الله الدعاء ويأمر بالإكثار منه إلا لتحقق منفعته للحي والميت، وهذا القول وهذا الاعتقاد في عدم منفعة الدعاء هو معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام، لكونه يقتضي إبطال الأسباب التي علقها الله على الدعاء، لهذا رد عليهم علماء أهل السنة، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- فقد قال: من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع بدعاء غيره فقد خرق الإجماع وكذب بالكتاب وبما أرسل الله به رسله، والقائلون بهذا هم من جنس القائلين: أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل. فأجابهم النبي ﷺ بقوله: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»[70]، والله سبحانه خلق الأسباب والمسببات وجعل هذا سببًا لهذا، فإذا قال القائل: إن كان هذا قد قدر لي بمشيئة الله، فإنه سيحصل بدون دعاء، وإن لم يقدر لي لم يحصل بالدعاء، فجوابه أن يقال: إنه مقدر بالسبب، أي الدعاء وليس مقدرًا بدون السبب، كما أن الله سبحانه قدر دخول الجنة بالأعمال ودخول النار بالأعمال، وقدر حصول الولد بالوطء والزرع بالسقي إلى غير ذلك من الأسباب.

وكذا العلامة ابن القيم - رحمه الله- فقد عقد فصلاً لهذه المسألة في كتابه الجواب الكافي قال: ليس شيء من الأسباب أنفع من الدعاء ولا أكرم على الله منه ولا أبلغ في حصول المطلوب منه، ولمّا كان الصحابة أعلم الأمة بالله ورسوله وأفقههم في دينه، كانوا أقوم بهذا السبب وكان عمر يقول: إني لا أحمل همّ الإجابة ولكني أحمل همّ الدعاء، فإنني إذا أعطيت الدعاء وفقت للإجابة. اهـ. أضف إلى ذلك أن الدعاء من القدر والقدر يرد القدر، فهو ينفع مما نزل ومما لم ينزل، كما روي عن ثوبان أن النبي ﷺ قال: «لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ وَلَا يَزِيدُ فِى الْعُمُرِ إِلَّا الْبِرُّ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ» رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم، وقال: صحيح الإسناد، فالأنبياء وخلفاء الرسل يحاربون القدر بالقدر، ويحكمون الأمر على القدر، ويفرون من القدر إلى القدر، مع قوة توكلهم على ربهم وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ولا حول ولا قوة إلا بالله، ومن أجل رواج هذه الفكرة صار بعض أهل السنة يذكرون انتفاع الأموات بدعاء الأحياء في عقائدهم؛ لأن من لم يعتقد ذلك فأقل ما يقال إنه مبتدع، إن لم يكن كافرًا، قال الطحاوي: وفي دعاء الأحياء منفعة للأموات والله يستجيب الدعوات ويقضي الحاجات. اهـ.

لكن ينبغي أن نعلم بأن انتفاع الأموات بدعاء الأحياء شيء وإهداء ثواب الأعمال إلى الموتى شيء آخر، ولا تلازم بينهما، فإن الداعي إنما يدعو ربه ولم يهد ثواب دعائه لأحد، والدعاء عبادة مستقلة بين العبد وربه، لا ينتقل ثوابها من الداعي إلى المدعو له، سواء استجيب له أو لم يستجب له، وإذا استجيب له لم تكن استجابته من باب إهداء ثوابه، ولكنه تفضل من الله للمدعو له وللداعي أجر دعائه بكماله ومثله الصلاة على الجنازة، بما فيها من الدعاء للميت، فقد ورد في الصحيح: «مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ»[71]، فالمصلي عليها يحتسب ثواب صلاته ودعاءه لنفسه ويدعو لميته ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين بالمغفرة والرحمة، فليس الدعاء من باب إهداء ثواب الأعمال وإن أدخله بعض الفقهاء فيه توسعًا؛ لأن إهداء ثواب الأعمال هو أن يعمل الإنسان عملاً من صلاة وصيام وحج وصدقة وتلاوة قرآن وذكر، ثم يهدي ثواب ما عمله أو نصفه أو ثلثه لميته، فيقول: اللهم اجعل ثواب ما عملت لفلان ابن فلان، أو يقول: اللهم إن كنت أثبتني على هذا العمل فاجعله لفلان ابن فلان، فيخرج العامل من ثواب عمله المهدى، كأنه لم يعمله ويحصل الأجر والثواب لمن لم يعمل وهو خلاف سنة الله وشرعه في الجزاء على الأعمال: ﴿فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَيۡرٗا يَرَهُۥ ٧ وَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖ شَرّٗا يَرَهُ ٨ [الزلزلة: 7-8]، ﴿يَوۡمَ تَجِدُ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا عَمِلَتۡ مِنۡ خَيۡرٖ مُّحۡضَرٗا [آل‌عمران: 30]، ﴿ٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۢ بِمَا كَسَبَتۡۚ لَا ظُلۡمَ ٱلۡيَوۡمَ [غافر: 17]، ﴿وَوُفِّيَتۡ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا عَمِلَتۡ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِمَا يَفۡعَلُونَ ٧٠ [الزمر: 70]، ﴿فَكَيۡفَ إِذَا جَمَعۡنَٰهُمۡ لِيَوۡمٖ لَّا رَيۡبَ فِيهِ وَوُفِّيَتۡ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ٢٥ [آل‌عمران: 25]، ﴿وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا تُرۡجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ٢٨١ [البقرة: 281]، ﴿يَوۡمَ تَأۡتِي كُلُّ نَفۡسٖ تُجَٰدِلُ عَن نَّفۡسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا عَمِلَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ١١١ [النحل: 111] ﴿وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٖ جَاثِيَةٗۚ كُلُّ أُمَّةٖ تُدۡعَىٰٓ إِلَىٰ كِتَٰبِهَا ٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَوۡنَ مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٢٨ هَٰذَا كِتَٰبُنَا يَنطِقُ عَلَيۡكُم بِٱلۡحَقِّۚ إِنَّا كُنَّا نَسۡتَنسِخُ مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٢٩ [الجاثية: 28-29] ﴿وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرٗاۗ وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا [الكهف: 49] ﴿ٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۢ بِمَا كَسَبَتۡۚ لَا ظُلۡمَ ٱلۡيَوۡمَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ ١٧ [غافر: 17] وقال: ﴿ هَلۡ تُجۡزَوۡنَ إِلَّا مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ [النمل: 90]، وفي الآية الأخرى: ﴿هَلۡ تُجۡزَوۡنَ إِلَّا بِمَا كُنتُمۡ تَكۡسِبُونَ [يونس: 52]، ﴿لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡ [البقرة: 286]، ﴿كُلُّ ٱمۡرِيِٕۢ بِمَا كَسَبَ رَهِينٞ ٢١ [الطور: 21]، ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰ ٣٨ وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ٣٩ وَأَنَّ سَعۡيَهُۥ سَوۡفَ يُرَىٰ ٤٠ ثُمَّ يُجۡزَىٰهُ ٱلۡجَزَآءَ ٱلۡأَوۡفَىٰ ٤١ [النجم: 38-41]، إلى غير ذلك من الآيات المحكمـات الدالة على أن كل إنسان سيجزى بعمله إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر: ﴿يَوۡمَ لَا تَمۡلِكُ نَفۡسٞ لِّنَفۡسٖ شَيۡ‍ٔٗاۖ وَٱلۡأَمۡرُ يَوۡمَئِذٖ لِّلَّهِ ١٩ [الأنفطار: 19]، وفي الصحيح: «تُعْرَضُونَ عَلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلا»[72]. «يَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ»[73]، وفي الحديث الثاني: «كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا»[74]، والله يقول عند عرض صحائف الأعمال: «يَا عِبَادِى إِنَّمَا هِىَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ»[75]، فهذه الأدلة الشرعية هي حجة الله على جميع عباده، بخلاف رأي العالم، فإنه يخطئ ويصيب، ولأن تطرق الخطأ إلى بعض آراء العلماء يكثر، بخلاف تطرقها إلى مثل هذه الأدلة الشرعية.
وإذا البينات لم تغن شيئًا
فالتماس الهدى بهن عناء
ثم قال الشيخ عبد العزيز بن رشيد:

إن أصحابنا - رحمهم الله- قالوا في كتبهم المختصرة والمطوّلة: وأي قربة فعلها المسلم وجعل ثوابها لميت مسلم أو حي نفعه ذلك، ومثلوا بالصلاة والصيام والصدقة والحج والأضحية.

فالجواب: إننا بسطنا القول في الرسالة عن هذه القاعدة وبيّنا بأنها من كلام بعض الأصحاب وليست من نصوص السنة والكتاب، فهي قاعدة وضعية اصطلاحية وليست شرعية، ومن المعلوم أن أقاويل الرجال يستدل لها ولا يستدل بها، وأول من نسب إليه هذه القاعدة هو الموفق بن قدامة - رحمه الله- ذكرها في كتاب المغني، بناء على توجيه القول منه بجواز إهداء ثواب القراءة إلى الميت، فأخذها الأصحاب عنه فاشتهرت من بينهم وانتشرت في كتبهم، وتوسعوا فيها حتى قالوا بجواز إهداء صلاة الفرض، كما ذكره صاحب الإقناع، وكذا قوله بجواز الأضحية عن الميت الذي هو موضع النزاع، وقد قلنا في الرسالة بأنه ليس كل ما يكتبه العالم يكون حجة على الناس بدون دليل يؤيده، لأن العالم قد يقول ما يعجزه أن يقيم الحجة على صحته، وهذه المسألة تعبدية يجب لها الوقوف عند الكتاب والسنة وعمل الصحابة، والأضحية عن الميت ليس فيها نص ثابت عن رسول الله، لا من فعله ولا من قوله ولا إقراره، ولم يكن معروفًا عن الصحابة ولا السلف ولا يمكن نقله عن أحد منهم مع شدة حرصهم على فعل الخير وإيصال ثوابه إلى الغير من موتاهم، وقد أرشدهم إلى الدعاء والاستغفار وأرشد الأولاد إلى الصدقة والحج والصيام، ولو كان ثواب الأضحية يصل إلى موتاهم لأرشدهم إليه ولكانوا يفعلونه؛ لأنهم أبرّ هذه الأمة قلوبًا وأعمقها علمًا وأقلها تكلفًا، اختارهم الله لصحبة نبيه ولإقامة دينه كما قاله ابن مسعود في وصفهم.

ثم قال الشيخ عبد العزيز بن رشيد:

إن النصوص تتظاهر على وصول ثواب الأعمال إلى الميت، إذا فعلها الحي عنه وهذا محض القياس، فإن الثواب حق للعامل، فإذا وهبه لأخيه المسلم لم يمنع من ذلك، كما لم يمنع من هبته ماله في حياته، وقد نبّه الشارع بوصول ثواب الصدقة على وصول سائر العبادات المالية ونبّه بوصول ثواب الصوم على وصول سائر العبادات البدنية، وأخبر بوصول الحج المركب بين المالية والبدنية.

فالجواب: أما قوله بقياس العبادات التي هي من عند الله وأمرها إلى الله، على هبة المال الذي يملكه صاحبه في الدنيا ويتصرّف فيه كيف يشاء، من بيع وعطاء، فإنه قياس مع الفارق حتى ولو قال به من قال؛ فإن الآيات المثبتة للجزاء على الحسنات والسيئات تبطل دعوى ملكية الإنسان لثواب عباداته؛ لأنه عبد لله وأعماله مملوكة لله، وليس من شأنه أن يتصرف في أعماله بهبتها لمن لا يعملها، لكون الجزاء على الأعمال ليس مملوكا للعامل، وإنما هو فضل من الله يتفضل به على من يشاء من عباده والناس منهم المقبول عمله ومنهم المردود، ومن نوقش الحساب يهلك؛ لأن الله سبحانه إذا بسط عدله على عبده وحاسبه على حسناته وسيئاته، لم يبق له حسنة، وإذا بسط فضله على عبده، لم يبق له سيئة، والنبي ﷺ قال: «ما منكم أحد يدخل الجنة بِعَمَلِهِ»،قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِىَ اللَّهُ مِنْهُ بِرَحْمَته»[76]، ولو جاز هبة الأعمال قياسًا على هبة المال لجاز بيعها، إذ الهبة نوع من البيع، فالفرق بين هبة المال وبين هبة الأعمال كالفرق بين الدنيا والآخرة وكالفرق بين العبادات والعادات، وبهذا يتبين بطلان قوله: إن الثواب حق للعامل، فإذا وهبه لم يمنع منه. لأنه ليس للعامل حق ثابت على الله، كما قيل:
ما للعباد عليه حق واجب
كلا ولا سعي لديه ضائع
إن عذبوا فبعدله أو نعموا
فبفضله وهو الكريم الواسع
وأما قوله: إنه نبّه بوصول الصدقة على وصول سائر العبادات المالية، ونبه بوصول الصوم على وصول سائر العبادات البدنية، فهذا كله بناء منه على ما وهى أصله ولم يصح سنده؛ فإن الأمر بالصدقة وبالصوم وبالحج وقع من النبي ﷺ بسؤال من الأولاد عن واجبات آبائهم، فأذن لهم بأن يقضوا دين الله عنهم، كما يقضون ديون الناس، وأن يتصدقوا عنهم، فهي ليست كإهداء ثواب الأضحية التي ليست بمفروضة على الأحياء ولا مشروعة عن الأموات ولا دليل على وصول ثواب الصوم مطلقًا من كل من يصوم عن الميت، حتى يقاس عليه غيره، وفي كتب الفقهاء من الحنابلة المختصرة والمطوّلة أن من مات وعليه صوم، فإنه يطعم عنه عن كل يوم مسكين، ولم يقولوا: يصام عنه، وهذا هو الظاهر من مذاهب الأئمة الأربعة، مستدلين عليه بما روى النسائي بسند صحيح عن ابن عباس، قال: لا يصل أحد عن أحد ولا يصم أحد عن أحد، وروي هذا القول عن ابن عمر وعائشة؛ لأن هذا هو الأصل من قواعد الشريعة إلا ما استثني بالنص من صيام الأولاد أو حجهم أو صدقتهم عن والديهم، لا سيما إذا كان ذلك حقًّا ثابتًا بأصل الشرع أو بالنذر، كما كانت الحال في الوقائع التي أفتى النبي فيها أولئك الأولاد. ولا يقاس عمل غير الولد على الولد، لمخالفته النص القطعي فهو قياس مع الفارق، فمتى كان الفقهاء من أئمة المذاهب الأربعة يمنعون قضاء الصوم الواجب على الميت بالشرع فكيف يقال بمشروعية صوم النفل عنه، فالقائل بهذا يعد من المتناقضين الذين يرجحون الشيء على ما هو أولى بالرجحان منه، إذ لو كان الإذن بالصيام عامة لكثر عمل الصحابة به حينئذ، بحيث يروى مستفيضًا أو متواترًا عنهم، لأنه من رغائب الأعمال التي يحرص الناس على مثلها، والله أعلم. وأما الأضحية عن الميت، فإنها أبعد من هذا كله عن مقاصد الشرع في مشروعية الأضحية فإنها إنما شرعت في حق الحي إشهارًا لشرف عيد الإسلام، وشكرًا لله على بلوغه والتوسعة على الأهل فيه، ولتكون أعياد المسلمين عالية على أعياد المشركين، وما يقربونه لآلهتهم من القرابين، أشبه صلاة العيد، قال تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ ٢ [الكوثر: 2]، فالمخاطبون بالأمر بصلاة العيد هم المخاطبون بالأمر بالأضحية والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون.

ثم قال الشيخ عبد العزيز بن رشيد:

ثبت أن النبي ﷺ ذبح كبشًا وقال: «اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَعَنْ آلِ مُحَمَّدٍ»[77]، فأهدى ثواب الكبش لنفسه وآله الحي منهم والميت.

فالجواب: إن هذا الحديث صحيح ثابت قد ورد من طرق متعددة، ورواه عدد من الصحابة، فنحن نؤمن به وندعو إلى العمل بموجبه، وقد استدل به الصحابة وكثير من العلماء على جواز اشتراك أهل البيت في ذبيحة واحدة، ولو كانوا مائة أو أكثر، وقد عمل به الصحابة، كما قال عطاء: قلت لأبي أيوب: كيف كانت الضحايا فيكم على عهد رسول الله؟ قال: كان الرجل منا يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويتصدقون. والمراد بأهل بيته هم الأحياء الموجودون معه والمخاطبون بقول النبي ﷺ فيما رواه مسلم عن أم سلمة، قال: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ أو يضحى عنه، فَإِذَا دَخَلَتِ الْعَشْر فَلَا يَأْخُذَنَّ مِنْ شَعْرِهِ وَلَا مِنْ أَظْفَارِهِ شَيْئًا»، والكلام يحمل على المتبادر إلى الأذهان وإلى ما سبق إليه فهم الإنسان، فالصحابة لا يعني أحدهم بأضحية عنه وعن أهل بيته من مات له، لأن الفعل لا يمت للأموات بصلة، لا بطريق المنطوق ولا المفهوم، كما أن أحدنا إذا ضحى عن نفسه وأهله لا يعني بذلك من مات له، ثم إن إجزاء الأضحية عن كافة أهل البيت ولو كثر عددهم هي من محاسن الشريعة، فإن الله بعث نبيّه بشرع كامل وإحسان تام عام، ووصفه بأنه ﴿عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ [التوبة: 128] فمن رأفته ورحمته أن شرع لأمته جواز اشتراك أهل البيت ولو كانوا مائة أو أكثر في أضحية واحدة ولم يجعلها واجبة على كل فرد كوجوب الفطرة؛ لأن هذا يقتضي التوسع في إتلاف الحيوان المحترم، ويجحف بسيد أهل البيت ومن تلزمه مؤنتهم، ولكون الحيوانات من الإبل والبقر والغنم، قد تعز وترتفع أثمانها، كما يوجد في بعض الأزمان وفي بعض البلدان، فيشق ذاك على الناس، فاقتضت الشريعة التخفيف على الناس، وذلك باكتفاء الأضحية الواحدة عن كافة أهل البيت، بخلاف الفطرة، فإنها تجب على كل فرد بعينه، ويجب على الشخص فطرة سائر من يمونهم من زوجاته وأولاده، لأنها قدر يسير، أي صاع من الطعام لا يجحف بأحد في كل زمان ومكان، وتسقط عن المعسر الذي لا يجد ما يزيد على مؤنته ومؤنة عياله يوم العيد وليلته، كما أنها لا تشرع عن الأموات، وهذا كله من محاسن الشريعة وأسرار حكمها، ثم إن هذه الأضحية وقعت بطريق الأصالة عن النبي ﷺ وإنما أشرك أهله معه في ثوابها والاشتراك في الثواب موسع فيه ونحن إنما نتكلم على إفراد الميت بالأضحية، كأن يضحي لأبيه الميت أو لابنه أو أن يوصي بأضحية تذبح له بعد موته ويوقف وقفًا في أضحية ونحو ذلك، وأنه لم يثبت من فعل النبي ولا من فعل أصحابه، ومثله الاستدلال بأضحية النبي ﷺ عن أمته، حيث استظهر منه بعض الناس جواز الأضحية عن الأموات، لكون أمته منهم الأحياء منهم والأموات، وهذا الاحتجاج يعد بعيدًا عن المعنى المراد ولا يمكن حمل اللفظ والفعل عليه إلا بتكلف صرفه عن المعنى المراد.

وقد أجمع العلماء على أن أضحيته عن أمته تشمل جميع الأحياء والأموات، ومن في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات، وتشمل جميع المعدومين ممن سيوجد من أمته إلى يوم القيامة، وهذه الأوصاف لا تنطبق على أضحية غيره فلا يجوز لشخص أن يضحي عن إنسان حي ليس من أهل بيته بغير إذنه ولا يضحي عن الحمل في البطن ولا عن المعدوم ممن سيوجد له، كما نص على ذلك سائر الفقهاء من المذاهب الأربعة، وقد استظهر العلماء من أضحيته لأمته سقوط الوجوب عن سائر الأمة، وهذه المميزات تثبت كونها من خصائصه، كما نص على ذلك بعض أهل الحديث، ولا يقاس عليها أضحية غيره، ومن قال إنها للتشريع يلزمه أن يقول باستحباب الأضحية عن جميع أمة محمد، كما فعل رسول الله، إذ هذا أقرب للأسوة به ولم نسمع عن أحد من الصحابة أو التابعين ولا عن أحد من علماء المسلمين القول به، ومع عدمه يسقط الاستدلال بموجبه ولا يجوز لأحد أن يتكلف صرف هذا الحديث عن غير المعنى المراد منه لتستقيم بذلك حجته.

لهذا يجب على المؤمن أن يحاسب نفسه هل يرى أنه أعلم من الصحابة بمراد رسول الله من أضحيته لأمته، أو أنه أحرص على فعل الخير وإيصال ثوابه إلى الغير من موتاهم، حيث لم يثبت عن أحد منهم أنه ضحى لميته، ولا نص عليها في وقفه ولا وصيته، أفيقال: إنها سنة فجهلوها، أو إنهم علموها فأهملوا العمل بها. كل هذا من لوازم قول المحتج به، ولا يمكن نسبته إليهم، فإنهم عن علم وقفوا وببصر نافذ كفوا، وهذه الأضحية قد وقعت عن الرسول بطريق الأصالة، وإنما أشرك أمته معه في ثوابها والاشتراك في الثواب موسع فيه، كما دلت النصوص على إجزاء الشاة عن الرجل وأهل بيته وخدمه، ولو كانوا مائة أو أكثر، ونحن إنما نتكلم على إفراد الميت بالأضحية، وأنه لم يثبت عن رسول الله فعله ولا عن أحد من الصحابة، وقد قلنا في الرسالة: إن الله سبحانه قد أثبت لنبيه الولاية على أمته، فقال: ﴿ٱلنَّبِيُّ أَوۡلَىٰ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡ أَنفُسِهِمۡ [الأحزاب: 6]، وفي الحديث: «أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ»[78]، وهذه الولاية هي أحق وأخص من ولاية الرجل على عياله وأهل بيته، بل وعلى نفسه، فمن ولايته أضحيته لأمته لكل من شهد لله بالتوحيد وشهد لنبيه بالرسالة، كما أنه سيشفع لكل من لم يشرك بالله من أمته، فلا يقاس عليها أضحية غيره والحالة هذه، وقد عقدت فصلاً في الرسالة، تضمن أقضية رسول الله ﷺ في أفضل ما يفعله الحي لميته ولنفسه بعد موته فليراجع، فإن فيه الكفاية والمقنع، وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

حرر في 18/4/1391هـ.

[57] أخرجه أبو داود والترمذي من حديث أبي أمامة. [58] أخرجه ابن ماجه والترمذي من حديث عائشة. [59] أخرجه أبو داود وابن ماجه من حديث ابن عباس. [60] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [61] متفق عليه من حديث عائشة. [62] أخرجه ابن ماجه والترمذي من حديث عائشة. [63] متفق عليه من حديث ابن عباس. [64] أخرجه أبو داود والنسائي من حديث ابن عباس. [65] متفق عليه من حديث ابن عباس. [66] ذكره البيهقي تعليقًا في معرفة السنن والآثار من قول الشافعي. [67] أخرجه أحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. [68] متفق عليه من حديث عائشة. [69] أخرجه ابن ماجه والترمذي من حديث عائشة. [70] متفق عليه من حديث عمران بن الحصين. [71] أخرجه مسلم من حديث ثوبان. [72] متفق عليه من حديث عائشة. [73] متفق عليه من حديث عدي بن حاتم. [74] أخرجه مسلم من حديث أبي مالك الأشعري. [75] أخرجه مسلم من حديث أبي ذر. [76] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [77] أخرجه الحاكم والبيهقي من حديث أبي رافع. [78] أخرجه مسلم وأبو داود وأحمد من حديث جابر.