(4) مذهب الحنابلة
إنه بمقتضى التتبع والاستقراء لكتب المتقدمين من الحنابلة مثل: كتاب المغني على سعته وشموله، وكذا الكافي و الخرقي و الشرح الكبير و المقنع و المحرر و المذهب الأحمد و الإنصاف و زاد المعاد و إعلام الموقعين وكذا المنتقى و الالمام في أحاديث الأحكام، كل هذه الكتب المعتمدة لم نجد في كتاب واحد منها ذكر الأضحية عن الميت، لعدم العمل بها أو لندرة وقوعها في زمنهم، وإنما يذكرون الأضحية عن الحي، وأن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها، ولم نجد عن الإمام أحمد نصًّا في المسألة، لا جوازًا ولا منعًا، فلا يجوز نسبة القول بالجواز إليه إلا عند وجود ما يدل عليه إلا أن يؤخذ من مفهوم قوله: الميت يصل إليه كل شيء. وهي كلمة تحتاج إلى تفصيل كما سيأتي بيانه، وأسبق من رأيناه تكلم فيها من الحنابلة هو شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- فقد سئل عن الأضحية عن الميت، فقال: يجوز أن يضحى عنه كما يحج عنه، ونقل صاحب الاختيارات عنه أنه قال: التضحية عن الميت أفضل من الصدقة بثمنها.
وفي الدرر السنية في الأجوبة النجدية: سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: أيهما أفضل الصدقة عن الميت أو الأضحية؟ فأجاب: هذه المسألة اختلف العلماء فيها، فذهب الحنابلة وكثير من الفقهاء إلى أن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وذهب بعضهم إلى أن الصدقة بثمنها أفضل، وهذا القول أقوى في النظر، وذلك لأن التضحية عن الميت لم تكن معروفة عند السلف، إلا أنه روي عن علي، أنه كان يضحي عن النبي ﷺ ويذكر أن رسول الله أوصاه بذلك، والحديث ليس في الصحاح، وبعض أهل العلم تكلم فيه، وبعض الفقهاء لما سمعه أخذ بظاهره وقال: لا يضحى عن الميت إلا أن يوصي بذلك، وإن لم يوص فلا يذبح عنه، بل يتصدق بثمنها، فإذا كان هذا صورته فالأمر في ذلك واسع إن شاء الله.
وقال في المنتهى: وأضحية عن ميت أفضل منها عن حي. وقال في الإقناع: وذبحها ولو عن ميت وذبح العقيقة أفضل من الصدقة بثمنها، ثم قال منصور في شرحه: صرح به ابن القيم في تحفة المودود وابن نصر في حواشيه؛ لأن النبي ﷺ ضحى والخلفاء، ولو كانت الصدقة أفضل لعدلوا إليها، ولحديث عائشة مرفوعًا: «مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ يَوْمَ النَّحْرِ عَمَلاً أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ هِرَاقَةِ دَمٍ»[29]. انتهـى. فقد عرفت كيف فرع ما ثبت عن رسول الله وعن الخلفاء في الأضحية الشرعية التي هي أضحية الحي على الأضحية عن الميت، لكون الكلام يعود على أقرب مذكور، ثم أكد ذلك بعزوه إلى العلامة ابن القيم في تحفة المودود، وابن القيم لم يتعرض للأضحية عن الميت بذكر، لا في تحفة المودود ولا في غيره، وإنما ذكر العقيقة عن المولود، وأن ذبحها أفضل من التصدق بثمنها، قال الخلال: أخبرنا سليمان بن الأشعث قال: سئل أبو عبد الله، وأنا أسمع، عن ذبح العقيقة أحب إليك أو يدفع ثمنها إلى المساكين؟ قال: العقيقة. وقال له صالح ابنه: الرجل يولد له وليس عنده ما يعق أحب إليك أن يستقرض ويعق عنه أم يؤخر ذلك حتى يوسر؟ فقال: أشد ما سمعت في العقيقة حديث الحسن عن سمرة عن النبي ﷺ قال: «كُلُّ غُلَامٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ»[30]، وإني أرجو إن استقرض أن يعجل الله له الخلف، لأنه أحيا سنة من سنن رسول الله. انتهـى[31].
فهذا الكلام وقع منه في تفضيل ذبح العقيقة على التصدق بثمنها، وهو أمر مجمع عليه بين الأئمة الأربعة، بلا خلاف، كما أن ذبح الأضحية لخاصة الحي أفضل من الصدقة بثمنها، باتفاق الأئمة الأربعة على ذلك أيضًا بخلاف الأضحية عن الميت، فقد قال مالك والشافعي وأبو حنيفة بعدم فعلها عنه لعدم ما يدل على مشروعيتها. وأما قول صاحب المنتهى: وأضحية عن ميت أفضل منها عن حي، فإنه باطل قطعًا، لا يعبأ به من له أدنى معرفة بالنصوص، لكون الأضحية إنما شرعت في حق من أدركه العيد من الأحياء، أشبه مشروعية صلاة العيد على السواء، وأشبه مشروعية صدقة الفطر فيمن أدرك عيد الفطر، فهذا هو الأمر الثابت بالكتاب والسنة وعمل الصحابة والتابعين فلا أدري في أي آية من كتاب الله أو حديث صحيح عن رسول الله وجدوا فيه مشروعية الأضحية عن الميت، فضلاً عن القول بتفضيلها على أضحية الحي الثابت فضيلتها بالنص والإجماع؟! ويقابله في البطلان قول صاحب الإقناع: من أن ذَبح الأضحية عن الميت أفضل من الصدقة بثمنها. فإن الأضحية عن الميت فيها الخلاف الكبير، إذ أكثر أئمة المذاهب يقولون بعدم مشروعيتها، لهذا تجد الأضحية عن الميت غير معروفة ولا معمول بها في سائر الأمصار التي ينتحل أهلها العمل بالمذاهب الثلاثة، كالشام ومصر والعراق وفارس واليمن، فليس لها ذكر عندهم لا في أوقافهم ولا وصاياهم ولا سائر تبرعاتهم، فكيف يقال بتفضيل ما فيه الخلاف الكبير على الصدقة الثابت فضلها ووصول نفعها إلى الميت بالنص والإجماع، فقياس الأضحية عن الميت على أضحية الحي قياس مع الفارق.
* * *
[29] أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث عائشة. [30] أخرجه أبو داود والنسائي من حديث سمرة بن جندب. [31] قال في تحفة المودود (ص35): العقيقة سنة ونسيكة مشروعة بسبب تجدد نعمة الله على الوالدين بهبة الولد، فكان ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها، كالهدايا والأضاحي، فإن نفس الذبح وإراقة الدم مقصود، ولهذا لو تصدق عن دم المتعة والقران بأضعاف أضعاف القيمة لم يقم مقامه، وكذلك الأضحية. قال: وفي العقيقة سر بديع وهو أن يفدى المولود عند ولادته بذبح يذبح عنه، ولا يستنكر أن يكون هذا حرزًا له من الشيطان بعد ولادته ولهذا قل من يترك أبواه العقيقة عنه إلا وهو في تخبيط من الشيطان، قال: ومن فوائدها أنها قربان يقرب به إلى الله عن المولود في أول أوقات خروجه إلى الدنيا، وغير مستبعد في حكمة الله وفي شرعه وقدره أن تكون سببًا لحسن إنبات الولد ودوام سلامته وطول حياته.