الوجه الرابع:
قوله: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ ٢﴾ [الكوثر: 2]، قال جماعة من المفسرين: نزلت في صلاة العيد، ثم في النحر بعده. فالذبح للأضحية إنما شرع في حق من خوطب بفعل صلاة العيد، تشريفًا لعيد الإسلام وشكرًا لله على بلوغه وإدخالاً للسرور على الأهل والعيال بأكل اللحم فيه، وقد قال الفقهاء من الحنابلة بجواز أن يضحى لليتيم من ماله لإدخال السرور بها عليه، ويجوز أن تضحي المرأة من مال زوجها بلا إذنه، لكونها من النفقة بالمعروف.
وأما الأحاديث فمنها ما روى البخاري عن البراء بن عازب، أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِى يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّىَ ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، مَنْ فَعَلَهُ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلُ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لأَهْلِهِ»، فَقَامَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ وَقَدْ ذَبَحَ فَقَالَ إِنَّ عِنْدِى جَذَعَةً. فَقَالَ: اذْبَحْهَا وَلَنْ تَجْزِىَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ» ففي هذا الحديث بيان صفة الأضحية الشرعية وأنها سنة في حق من أدركه العيد من الأحياء. وقد ترجم على ذلك البخاري في صحيحه فقال: باب سنة الأضحية، قال ابن عمر: هي سنة ومعروف، ثم ذكر حديث البراء المتقدم وفيه أن من ذبح على خلاف ما سنه رسول الله في الأضحية، فإن ذبيحته شاة لحم وليست من الأضحية في شيء، لحديث: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهْوَ رَدٌّ»[14].
ومنها ما رواه أبو هريرة: أن النبي ﷺ قال: «مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ وَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا» رواه أحمد وابن ماجه وصححه الحاكم، لكن رجح الأئمة غيره وقفه.
فهذا الحديث إنما خاطب به النبي ﷺ من صلى العيد معه وكان لديه مقدرة على الأضحية، ومنها حديث مخنف بن سليم، أن النبي ﷺ قال بعرفات: «عَلَى أَهْلِ كُلِّ بَيْتٍ أُضْحِيَّةٌ فِي كُلِّ عَامٍ وَعَتِيرَةٌ» رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه الترمذي، لكنه منسوخ بحديث «لَا فَرَعَ وَلَا عَتِيرَةَ»[15]، وقيل: المنسوخ العتيرة فقط والأضحية باقية، إما على الأمر للوجوب أو للاستحباب، وقد أخذ بهذين الحديثين من قال بوجوب الأضحية، كما هو ظاهر مذهب أبي حنيفة، أنها واجبة على المقيمين من أهل الأمصار لمواظبة النبي عليها عشر سنين مدة إقامته بالمدينة، وهي رواية عن مالك، والرواية الثانية عن الإمام أحمد، والظاهر من مذهب مالك والشافعي وأحمد، أنها مستحبة وليست بواجبة، قال ابن حزم: لا يصح عن أحد من الصحابة أنها واجبة، وإنما هي سنة مؤكدة. قال الإمام أحمد: أكره تركها لمن قدر عليها. وروي مثل هذا القول عن مالك والشافعي.
ومنها ما روى عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا أَيُّوبَ الأَنْصَارِىَّ كَيْفَ كَانَتِ الضَّحَايَا فِيكُمْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ فِى عَهْدِ النَّبِىِّ ﷺ يُضَحِّى بِالشَّاةِ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فَيَأْكُلُونَ وَيُطْعِمُونَ ثُمَّ تَبَاهَى النَّاسُ فَصَارَ كَمَا تَرَى». رواه ابن ماجه والترمذي وصححه.
وقد ورد في فضائلها أحاديث كثيرة، كحديث: «احضروها إذا ذبحت، فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَكِ بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهَا»[16]، وحديث: «إِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ يوم النّحر إِرَاقَةُ دَمٍ»[17]، وحديث: «إِنَّهَا لَتَأْتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ -على الصفة التي ذبحت عليها- بِقُرُونِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَظْلَافِهَا وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ مِنَ الأَرْضِ»[18]، وحديث: «إِنَّ لِلْمُضَحِّي بِكُلِّ شَعَرَةٍ حَسَنَةٌ»[19]، وحديث: «إن الدراهم لن تنفق في عمل صالح أفضل من نفقتها في أضحية يوم النحر»، فهذه الأحاديث وإن كان فيها مقال للنقاد غير أن هذه النصوص والفضائل إنما وردت في أضحية الحي[20] إذ إنها هي الأضحية الشرعية المنصوص عليها بالكتاب والسنة وعمل الصحابة والتابعين، لكون الأحكام الظاهرة تابعة للأدلة الظاهرة من البينات والإقرارات والشواهد للأحوال، فلا تحصل هذه الفضائل إلا إذا وقعت الأضحية موقعها من الصفة المأمور بها على الوجه المطابق للحكمة في مشروعيتها، بأن قصد بها امتثال أمر الله واتباع سنة رسول الله، وتجرّدت عن البدع الخاطئة والتصرفات السيئة، فيكون والحالة هذه ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها، كما هو ظاهر مذهب الأمام أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة، ولأن في ذبحها إحياء لسنتها وخروجًا من عهدة من قال بوجوبها، ولكونه يتمكن من الصدقة كل وقت ولا يتمكن من فعل الأضحية إلا في الوقت المحدد لها، أشبه العقيقة فإن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها بالإجماع.
* * *
[14] أخرجه مسلم وأحمد من حديث عائشة. [15] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [16] أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث عمران بن حصين. [17] أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث عائشة. [18] أخرجه الترمذي من حديث عائشة. [19] أخرجه ابن ماجه من حديث زيد بن أرقم. [20] (أ)- حديث «مَا عَمِلَ آدَمِىٌّ مِنْ عَمَلٍ يَوْمَ النَّحْرِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ إِهْرَاقِ الدَّمِ إِنَّهَا لَتَأْتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَظْلَافِهَا وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ مِنَ الأَرْضِ فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا» رواه ابن ماجه والترمذي وقال: حديث حسن غريب. والحاكم وقال: صحيح الإسناد. كلهم رووه عن عائشة أن رسول الله.. إلخ. (ب) وحديث: «قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الأَضَاحِىُّ قَالَ «سُنَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ». قَالُوا فَمَا لَنَا فِيهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «بِكُلِّ شَعَرَةٍ حَسَنَةٌ ». قَالُوا فَالصُّوفُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: بِكُلِّ شَعَرَةٍ مِنَ الصُّوفِ حَسَنَة»» رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث زيد بن أرقم، قال الحاكم: صحيح الإسناد، وطعن المنذري في تصحيح الحاكم له، لأن في إسناده عائذ الله المجاشعي وأبو داود نفيع بن الحارث الأعمى وكلاهما ساقط. (ج) وحديث أن النبي ﷺ قال: «يَا فَاطِمَةُ قَوْمِي إِلَى أُضْحِيَّتِكَ فَاشْهَدِيهَا فَإِنَّ لَكِ بَأَوَّلِ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِهَا أَنْ يُغْفَرَ لَكِ»، قالت: يا رسول الله، ألنا خاصة أهل البيت أو لنا وللمسلمين، قال: «بَلْ لَنَا وَلِلْمُسْلِمِينَ» رواه البزار وأبو الشيخ، ابن حبان، من حديث أبي سعيد الخدري ورواه أبو القاسم الأصبهاني عن علي، قال المنذري: وقد حسن بعض مشايخنا حديث علي هذا. (د) وحديث «مَا أُنْفِقَتُ الْوَرِقُ فِي شَيْءٍ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ نَحيرٍ يُنْحَرُ فِي يَوْمِ عِيدٍ» رواه الطبراني في الكبير والأصبهاني من حديث ابن عباس. (هـ) وحديث «عَظِّمُوا ضَحَايَاكُمْ، فَإِنَّهَا عَلَى الصِّرَاطِ مَطَايَاكُمْ» قال ابن حجر: لم أره معزوًّا إلى أحد، وقال ابن الصلاح: هذا حديث غير ثابت ولا معروف، وذكر ابن العربي، شارح الترمذي مثل ذلك.