الأوقاف والوصايا في عمل البر والخير
يكثر من الناس النص بالوقف في عمل البر والوصية بالثلث في عمل البر والخير، ومنهم من ينص في وصيته بأن يعمل له ما يعمل الحي للميت، يريد بذلك الوصية في وجوه البر والخير وكله حسن جائز، غير أنه ينبغي أن نعرف حقيقة البر لنعرف به حقيقة التنفيذ في سبيله.
البِرّ: بكسر الباء، هو التوسع في أعمال الخير، وضد البر الفجور، وهو التوسع في أعمال الشرور، يقول الله: ﴿إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ لَفِي نَعِيمٖ ١٣ وَإِنَّ ٱلۡفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٖ ١٤﴾ [الانفطار: 13-14]، وفي الشرع هو: الإيمان بالله وما يتقرّب به إليه من الأعمال الصالحة على اختلاف أنواعها، يقول الله: ﴿لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّۧنَ وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُوفُونَ بِعَهۡدِهِمۡ إِذَا عَٰهَدُواْۖ وَٱلصَّٰبِرِينَ فِي ٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ ١٧٧﴾ [البقرة: 177].
فذكر - سبحانه- أعمال البر ومن جملتها ركن البر من المال، وهو ما عناه بقوله: ﴿وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ﴾، وهذا هو البر لمن سأل عن البر أو أوصى في عمل البر، وقد أخذ عمر بن الخطاب بهذه الآية في مصرف وقفه الذي استشار فيه رسول الله ﷺ فوقفه على الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم صديقًا غير متمول مالاً، ولم يذكر في وقفه حجة ولا أضحية كما يفعله الناس الآن، فبدأ - سبحانه- بإيتاء المال على حبه وذلك بأن يخرج صدقته في حال صحته ومحبته لماله كما في الصحيح أن النبي ﷺ قال: «أفضل الصدقة أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحيحٌ تَأْمُلُ الْغِنَى، وَتَخْشَى الْفَقْرَ، وَلَا تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ» ولهذا روي أن مثل من لا يتصدق إلا عند الموت كمثل من لا يهدي إلا إذا شبع، فلا أفضل من كون الإنسان يرى صدقته جارية مجراها في حال حياته وصحته، فما نفع الإنسان مثل اكتسابه بنفسه لنفسه، وحسن ظنه بغيره إساءة منه في عمل الحزم.
ثم قال: ﴿وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ﴾ وهم أقارب الواقف والموصي، فبدأ بهم للاهتمام بأمرهم؛ لأن الصدقة على القريب صدقة وصلة، ولمّا تصدق أبو طلحة ببيرحاء وقال للنبي ﷺ: ضعها حيث شئت، فقال له: «سمعت ما قلت وأرى أن تضعها في أقاربك»، فقال: أفعل يا رسول الله. فقسمها بين بني عمه وهم حسان وأُبي بن كعب وأبو قتادة، وكل واحد منهم ملك مستحقه منها حتى باع أحدهم مستحقه منها بصاع دنانير[54]. وأقارب الشخص المستحقون للوصية بالبر هم من لا يرثه بفرض أو تعصيب من إخوانه وأخواته وأعمامه وعماته وأخواله وخالاته وأولاد العم والعمة، ويرجو ثوابه لأن السنة في الوصية هو أن يأخذ الموصى إليه وصيته قبل أن يأخذ الوارث إرثه، وإن أوصى بمال أو بالثلث في عمل البر استحقوا الدخول فيه إذا كانوا فقراء؛ لأن كل وقف أو وصية في عمل البر والخير فإن المقدم فيها من قدمه الله في كتابه وإن لم ينص الموصي عليه؛ لأن فقراء الموصي أحق بالتقديم في خير ما أوصى به من الوصية في عمل البر أو الوقف في البر.
الصنف الثاني: اليتامى: وهم من توفي أبوهم الذي هو كاسبهم والساعي عليهم قبل أن يبلغوا سن الرشد، لأنهم بموته تحيق بهم الحاجة وتحيط بهم المسكنة وتنقطع عنهم صلات أهل الحفاوة والمودة، كما قيل:
إذا ما رأس أهل البيت ولَّى
بدا لهم من الناس الجفاء
فيصيرون مستحقين للصدقة على كل حال وبالخصوص من وقف البر ومن الوصية في عمل البر، وللموصى إليه الأجر في تنفيذ ما ذكر لأن الخازن الأمين - وبمعناه الوكيل الذي ينفذ ما استؤمن عليه في سبيله - أحد المتصدقين.
والصنف الثالث: المساكين: وهم الفقراء البائسون الذين قعدت بهم المسكنة والحاجة أو علة المرض والزمانة عن السعي والكسب لما يكفيهم وعيالهم وفي الحديث: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِى تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلَكِنِ الْمِسْكِينُ الَّذِى لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلَا يُفْطَنُ بِهِ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ»[55].
والصنف الرابع: ابن السبيل: وهو الذي يريد السفر إلى أهله وليس بيده ما يوصله إلى بلده فيعطى من الصدقة الواجبة ومن الوصية في عمل البر ما يؤهله إلى الوصول إلى بلده.
والصنف الخامس: السائلون: وهم الذين يتكففون الناس بالسؤال، وللسائل حق ولو جاء على فرس، ولو صدق السائل ما أفلح من رده، ومن سأل وعنده ما يغذيه ويعشيه فقد ألحف في المسألة.
والصنف السادس: الرقاب: وهو تحرير الأرقاء ومساعدة المكاتبين، ويلتحق بذلك المغرمون بالديون والمساجين والمحكوم عليهم بأداء الديات أو أروش أضرار الجنايات في الأرواح والسيارات وليس لهم مال ولا عاقلة فيعطون من الزكاة الواجبة ومن الصدقة المستحبة ومن الثلث الموصى به في عمل البر والخير والوقف على البر قدر ما يخلصهم من عنت هذا الغرم، ومما يدخل في عمل البر معالجة المرضى من الفقراء وبناء البيوت للضعفة المضطرين والنفقة في الجهاد في سبيل الله وعلى المجاهدين وبناء المساجد وفتح الطرق وإجراء المياه وغير ذلك من المنافع العامة والمصالح الشاملة الداخلة في عموم الصدقة الجارية الباقية للإنسان بعد موته والنافعة الشافعة له عند ربه، وقد غفل الناس عن هذه النصائح والمصالح التي حث عليها كتاب ربهم وسنة نبيهم وجرى عليها عمل الصحابة والسلف الصالح في أوقافهم ووصاياهم وسائر تبرعاتهم وصرفوا جل عقولهم وجل أعمالهم وجل اهتمامهم إلى الوصية بالأضحية والوقف على الأضحية، حتى إنك لتجد غالب بيوت القرية محبوسة على ذلك لكون هذا الأمر قد جرى العمل به من العلماء وتبعهم عليه سائر العوام في الوصايا والأوقاف العظام حتى كأنها من أفضل ما يتقرّب به إلى الله من صالح الأعمال.
وقد سبق القول بعدم جواز الأضحية عن الأموات مطلقًا، لكونه لم يثبت عن رسول الله الأمر بها ولا عن أحد من الصحابة فعلها ولا الوصية بها، فضلاً عن القول بفضلها بطريق الإصلاح، والعدل يوجب على كافة العلماء تدارك هذا الخطأ بصرف هذه الأوقاف والوصايا المجعولة في الأضاحي عن الأموات فيما نص عليه الكتاب والسنة، وجرى عليه العمل من الصحابة والتابعين حتى ولو خالف نص الموصي؛ لأن الحق فوق كل أحد لاعتبار أن هذا الصرف والتصرف يعد من الإصلاح والعدل المأجور فاعله والمرفوع عنه إثمه، لقول الله تعالى: ﴿فَمَنۡ خَافَ مِن مُّوصٖ جَنَفًا أَوۡ إِثۡمٗا فَأَصۡلَحَ بَيۡنَهُمۡ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِ﴾ [البقرة: 182] ولأن من شرط صحة الوقف على البر أن يكون على طاعة محققة، ونحن لم نتحقق فعل الطاعة في الأضحية عن الميت بشهادة الأئمة الثلاثة وهم: مالك والشافعي وأبو حنيفة، بعدم مشروعيتها وحسبك بهم في العدالة وقبول الشهادة، ثم إن الواقف وبمعناه الموصي إنما يقصد بوقفه ووصيته حقيقة ما يقرّبه من رضى ربه وينفعه في آخرته، وقد ظن أن الوصية بالأضحية والوقف عليها أنه أفضل ما يعمله لكون العامي مشتق من العمى، فهو يحتاج إلى من يدله على الطريق ويبين له ما ينفعه في آخرته على سبيل التحقيق.
فلو أن هؤلاء المستولين على الأوقاف والوصايا والذين يجتمع عند أحدهم قدر الخمسين والستين من الأغنام يريد أن يجزرها كلها أضاحي الأموات في مقام واحد، وعند الثاني والثالث مثل ذلك فلو أن هؤلاء صرفوا قيمة هذه الأضاحي إلى الفقراء والمساكين والمضطرين، بحيث يدفع إلى أهل كل بيت ثمن أضحية في ثواب ميتهم وكذا كل من يريد أن يبر والديه، بأضحية أو أضحيتين يدفع قيمة كل أضحية إلى أهل بيت من الفقراء في ثواب والديه، لا شك أن هذه أنفع للحي والميت وأقرب إلى طاعة الله ورسوله، لا سيما إذا صادف إخراج هذه الصدقة في عشر ذي الحجة حيث العمل الصالح أحب إلى الله فيها من سائر السنة لكونها تصادف من الفقير موضع حاجة وشدة فاقة، لما يتطلبه العيد من ضرورة النفقة والكسوة وسائر المؤنة له ولعياله، فأين تقع هذه الصدقة وعموم نفعها وسداد العوز بها من الصدقة بقطعة لحم لا قيمة لها تأتيهم وهم لها كارهون، لا شك أن الفرق واسع والبون شاسع لولا أن بعض الفقهاء يقيدون الشريعة بقيود توهن الانقياد ويقولون: إن نصوص الواقف كنصوص الشارع، فهم يحكمون بإلزام الناس بالعمل بما نص عليه الموصي أو الموقف مع قطع النظر عن الصحيح الراجح وهذا هو حقيقة ما عناه ابن القيم، حيث قال: إن بعض الفقهاء محبوسون في سجن الألفاظ ومقيدون بقيود العبارات. غير أن من تربى على مذهب واعتقد صحة ما فيه وهو لا يحسن الأدلة الشرعية ولا تنازع العلماء فيها فإنه لا يفرق بين ما جاء من الله وعن الرسول وتلقته الأمة بالقبول وبين ما قاله علماء مذهبه مع تعذر إقامة الحجة على صحته، ومن كانت هذه صفته فإنه يعد من المقلدين الناقلين لأقوال غيرهم.
وفرق بين أن يكون الإنسان قصده معرفة حكم الله ورسوله في المسألة أو أن يكون قصده معرفة ما قاله إمام مذهبه أو فقهاؤه أو الشيخ الفلاني الذي اشتهر علمه. ومن المعلوم أنه متى ساء الحكم ساءت النتيجة، لهذا نجد الولاة على الأوقاف والوصايا الخيرية والتي يستغلون منها الأجور الطائلة خاصة في البلدان الراقية، نجدهم يستحلون هذا الدخل بأضحية يسفكون دمها ويأكلون مخها ولحمها، كأنه لا حساب عليهم ولا عقاب فيها، لهذا لا يجوز للمفتي أن يفتي بمذهبه ويلزم الناس بالعمل بموجبه وهو يعلم أن مذهب غيره أقرب للصواب وأسعد بالدليل من مذهبه.
نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من الذين يهدون بالحق وبه يعدلون، وسبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
حرر في 27 رجب عام 1390هـ.
[54] أخرجه البخاري من حديث أنس. [55] متفق عليه من حديث أبي هريرة.