متقدم

فهرس الكتاب

 

أقوال العلماء في تفسير: ﴿وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ٣٩ [النجم: 39]

حكى القرطبي في التفسير عن الأكثرين أن هذه الآية محكمة وأنه لا ينفع أحدًا عمل أحد، قال: وأجمعوا على أنه لا يصلي أحد عن أحد.

ولمّا رأى بعض المفسرين وبعض الفقهاء أن هذه الآية تهدم قاعدة إهداء ثواب الأعمال إلى الموتى وتثبت بالصراحة بأن ليس للإنسان إلا ما سعى، فمنهم من يقول: إنها منسوخة، ومنهم من يقول: إن المراد بالإنسان الكافر، وأما المسلم فله ما سعى وما سعى له غيره، وأحيانًا يقولون: إنه ليس للإنسان إلا ما سعى بطريق العدل وله ما سعى له غيره بطريق الفضل، ومنهم من يقول: إنها ليست من شريعة محمد ﷺ وإنما هي من شريعة إبراهيم وموسى. وكل هذه التأويلات ليس عليها دليل من الكتاب والسنة، وإنما خرجت مخرج الانتصار للمذهب ليدفعوا بها حجة المحتج عليهم بهذه الآية الصريحة المخالفة لرأيهم ومذهبهم، لتستقيم بذلك قاعدة إهداء ثواب الأعمال عندهم.

ومن المعلوم أن أقوال العلماء تابعة لقول الله ورسوله، وليس قول الله ورسوله بتابع لأقوالهم، فلا ينقض بها أمر مستقر من كتاب الله وسنة رسوله، وليس لأحد أن يحمل كلام الله ورسوله على وفق مذهبه فيتكلف صرف الكلم عن المعنى المراد منه مع كونه لا يحتمل هذا المعنى لتستقيم بذلك حجته، فإن هذه الآية لها نظائر كثيرة من القرآن، كقوله تعالى: ﴿فَٱلۡيَوۡمَ لَا تُظۡلَمُ نَفۡسٞ شَيۡ‍ٔٗا وَلَا تُجۡزَوۡنَ إِلَّا مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٥٤ [يس: 54]، وكقوله: ﴿ٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۢ بِمَا كَسَبَتۡۚ لَا ظُلۡمَ ٱلۡيَوۡمَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ ١٧ [غافر: 17] في كثير من الآيات يذكر- سبحانه- جزاء الإنسان على أعماله من خير وشر.

وكما أن هذه الآية مقرونة بآيات محكمات هن أم الكتاب فلا يجوز قطعها عن نظائرها بدعوى النسخ لها، والنسخ لا يصار إليه إلا بدليل شرعي، وهي خبر لا يدخلها النسخ والآيات المقرونة بها هي قوله: ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰ ٣٨ [النجم: 38] وهي محكمة بالإجماع، أي لا تحمل نفس وزر غيرها ﴿كُلُّ نَفۡسِۢ بِمَا كَسَبَتۡ رَهِينَةٌ ٣٨ [المدثر: 38]، ﴿وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ٣٩ [النجم: 39]، أي بنفسه لنفسه ومن أبطأ به عمله لم يسرع به عمل غيره، لأن كل إنسان مجازى بما عمل إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر، ﴿وَأَنَّ سَعۡيَهُۥ سَوۡفَ يُرَىٰ ٤٠ [النجم: 40]، أي سوف يعرض وينشر ﴿يَوۡمَ يَنظُرُ ٱلۡمَرۡءُ مَا قَدَّمَتۡ يَدَاهُ [النبأ: 40]، ﴿يَوۡمَ تَجِدُ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا عَمِلَتۡ مِنۡ خَيۡرٖ مُّحۡضَرٗا وَمَا عَمِلَتۡ مِن سُوٓءٖ تَوَدُّ لَوۡ أَنَّ بَيۡنَهَا وَبَيۡنَهُۥٓ أَمَدَۢا بَعِيدٗا [آل‌عمران: 40]، ﴿يَوۡمَئِذٖ يَصۡدُرُ ٱلنَّاسُ أَشۡتَاتٗا لِّيُرَوۡاْ أَعۡمَٰلَهُمۡ ٦ فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَيۡرٗا يَرَهُۥ ٧ وَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖ شَرّٗا يَرَهُۥ ٨ [الزلزلة: 6-8]، ﴿ثُمَّ يُجۡزَىٰهُ ٱلۡجَزَآءَ ٱلۡأَوۡفَىٰ ٤١ [النجم: 41]، وقد فسر هذا الجزء بقوله: ﴿مَن جَآءَ بِٱلۡحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشۡرُ أَمۡثَالِهَاۖ وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلَا يُجۡزَىٰٓ إِلَّا مِثۡلَهَا وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ١٦٠ [الأنعام: 160]، وأما قولهم: إن المراد بالإنسان هنا الكافر، وأما المسلم فله ما سعى، وما سعى له غيره. فلا شك أن هذا التأويل أبعد عن معنى التنزيل من الذي قبله، فإن الكافر عمله حابط من أصله فلا سعي له عند ربه، يقول الله: ﴿مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡۖ أَعۡمَٰلُهُمۡ كَرَمَادٍ ٱشۡتَدَّتۡ بِهِ ٱلرِّيحُ فِي يَوۡمٍ عَاصِفٖۖ لَّا يَقۡدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ شَيۡءٖۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلَٰلُ ٱلۡبَعِيدُ ١٨ [ابراهيم: 18]، فكيف يستجيزون القول بهذا مع بعده عن مراد الله به.

وكذلك قول من قال: إنها من شريعة إبراهيم وموسى وليست من شريعتنا، وهذا التأويل يقضي عزل هذه الآية عن المعنى المراد منها ليزول عن الناس التكليف بها والاحتجاج بموجبها، كأنها بزعمهم من حشو الكلام الذي لا يستفاد منه عظة ولا عبرة ولا حكم من الأحكام، والصحيح أنها من شرع الله وأصول دينه الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه وأنذر به الرسول عشيرته، وأنه كما نزل به القرآن فقد نزل في صحف الأنبياء إبراهيم وموسى، لأنه من باب الجزاء على الأعمال، وأن الأولين والآخرين يقال لهم: ﴿ ماذا كنتم تعملون ، و﴿مَاذَآ أَجَبۡتُمُ ٱلۡمُرۡسَلِينَ، نظيره قوله تعالى: ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن تَزَكَّىٰ ١٤ وَذَكَرَ ٱسۡمَ رَبِّهِۦ فَصَلَّىٰ ١٥ بَلۡ تُؤۡثِرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا ١٦ وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰٓ ١٧ إِنَّ هَٰذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلۡأُولَىٰ ١٨ صُحُفِ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ ١٩ [الأعلى: 14-19].

أفيقال: إن هذا ليس من شرعنا وإن التذكير بها ليس من شأننا. ليبطلوا بذلك سنة الله في التذكير بآياته وبيناته، وكل من تدبر الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وجدها تدل على ما دلت عليه هذه الآية بطريق المطابقة والتضمن كقوله تعالى: ﴿ٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۢ بِمَا كَسَبَتۡۚ لَا ظُلۡمَ ٱلۡيَوۡمَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ ١٧ [غافر: 17]، قوله: ﴿فَكَيۡفَ إِذَا جَمَعۡنَٰهُمۡ لِيَوۡمٖ لَّا رَيۡبَ فِيهِ وَوُفِّيَتۡ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ٢٥ [آل‌عمران: 25] وقوله: ﴿وَوُفِّيَتۡ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا عَمِلَتۡ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِمَا يَفۡعَلُونَ ٧٠ [الزمر: 70]، ﴿وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرٗاۗ وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا [الكهف: 49] وقوله: ﴿وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا تُرۡجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ٢٨١ [البقرة: 281]، وقوله: ﴿إِن كَانَتۡ إِلَّا صَيۡحَةٗ وَٰحِدَةٗ فَإِذَا هُمۡ جَمِيعٞ لَّدَيۡنَا مُحۡضَرُونَ ٥٣ فَٱلۡيَوۡمَ لَا تُظۡلَمُ نَفۡسٞ شَيۡ‍ٔٗا وَلَا تُجۡزَوۡنَ إِلَّا مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٥٤ [يس: 53-54]، وفي الصحيح عن عدي بن حاتم، أن النبي ﷺ قال: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ»، وفي حديث أبي ذر في عرض صحائف الأعمال: إن الله يقول: «يَا عِبَادِى إِنَّمَا هِىَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ» رواه مسلم. كل هذه الآيات والأحاديث تدل على ما دلت عليه هذه الآية بالمطابقة والتضمن، فإن قوله: ﴿وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ٣٩ [النجم: 39] هي من قبيل قوله: ﴿فَٱلۡيَوۡمَ لَا تُظۡلَمُ نَفۡسٞ شَيۡ‍ٔٗا وَلَا تُجۡزَوۡنَ إِلَّا مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٥٤ [يس: 54] ومن قبيل قوله في الحديث: «يَنْظُرُ الرجل أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ». فأين عمل الغير عند عرض صحائف الأعمال على الله سبحانه وتعالى ﴿يَوۡمَ يَتَذَكَّرُ ٱلۡإِنسَٰنُ مَا سَعَىٰ ٣٥ وَبُرِّزَتِ ٱلۡجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ ٣٦ [النازعات: 35-36] حيث لم يقع لها ذكر في كتاب الله ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّٗا [مريم: 64].

* * *