إهداء ثواب الأعمال إلى الموتى
الأصل في هذا الباب هو أن كل امرئٍ مجازى بما عمل إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر، وأن من أبطأ به عمله لم يسرع به عمل غيره، وأن الأولين والآخرين يسألون يوم القيامة ويقال لهم: ماذا كنتم تعملون وماذا أجبتم المرسلين؟ قال الله تعالى: ﴿ٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۢ بِمَا كَسَبَتۡۚ لَا ظُلۡمَ ٱلۡيَوۡمَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ ١٧﴾ [غافر: 17]، وقال: ﴿وَوُفِّيَتۡ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا عَمِلَتۡ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِمَا يَفۡعَلُونَ ٧٠﴾ [الزمر: 70]، وقال: ﴿وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرٗاۗ وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا﴾ [الكهف: 49]، وقال: ﴿وَلَا تَكۡسِبُ كُلُّ نَفۡسٍ إِلَّا عَلَيۡهَاۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰ﴾ [الأنعام: 164]، وقال: ﴿لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡ﴾ [البقرة: 286]، وقال: ﴿أَمۡ لَمۡ يُنَبَّأۡ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ ٣٦ وَإِبۡرَٰهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰٓ ٣٧ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰ ٣٨ وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ٣٩ وَأَنَّ سَعۡيَهُۥ سَوۡفَ يُرَىٰ ٤٠ ثُمَّ يُجۡزَىٰهُ ٱلۡجَزَآءَ ٱلۡأَوۡفَىٰ ٤١﴾ [النجم: 36-41]، وقال: ﴿يَوۡمَئِذٖ يَصۡدُرُ ٱلنَّاسُ أَشۡتَاتٗا لِّيُرَوۡاْ أَعۡمَٰلَهُمۡ ٦ فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَيۡرٗا يَرَهُۥ ٧ وَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖ شَرّٗا يَرَهُۥ ٨﴾ [الزلزلة: 6-8]، وقال: ﴿مَن جَآءَ بِٱلۡحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشۡرُ أَمۡثَالِهَاۖ وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلَا يُجۡزَىٰٓ إِلَّا مِثۡلَهَا وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ١٦٠﴾ [الأنعام: 160]، وفي الآية الأخرى: ﴿مَن جَآءَ بِٱلۡحَسَنَةِ فَلَهُۥ خَيۡرٞ مِّنۡهَاۖ وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلَا يُجۡزَى ٱلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسَّئَِّاتِ إِلَّا مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ٨٤﴾ [القصص: 84]،
وفي الصحيح من حديث عدي بن حاتم، أن النبي ﷺ قال: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ فَيَنْظُرُ عَنْ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا شَيْئًا قَدَّمَهُ ثُمَّ يَنْظُرُ عَنْ أَيْسَرَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا شَيْئًا قَدَّمَهُ ثُمَّ يَنْظُرُ أَمَامَهُ فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَّقِىَ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ»، والله يقول عند عرض صحائف الأعمال على سبيل الأعذار: «يَا عِبَادِى إِنَّمَا هِىَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ»[38].
ومن أجله حذر الله عباده من أن يغتروا بعمل أي أحد أو يتكلموا على صلاح والد أو ولد، فقال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمۡ وَٱخۡشَوۡاْ يَوۡمٗا لَّا يَجۡزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِۦ وَلَا مَوۡلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِۦ شَيًۡٔا﴾ [لقمان: 33]، وكان آخر آية نزلت من القرآن هي قوله تعالى: ﴿وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا تُرۡجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ٢٨١﴾ [البقرة: 281] من آخر سورة البقرة، فهذه هي العقيدة الدينية التي أنزل الله بها كتبه وأرسل بها رسله وأنذر بها الرسول عشيرته، وقال: «اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا»[39].
وقد توسع الفقهاء في إهداء ثواب الأعمال توسعًا خارجًا عن حدود ما أنزل الله في كتابه، من ذلك قول الموفق في كتابه المغني: وأي قربة فعلها المسلم وجعل ثوابها لميت مسلم نفعه ذلك إن شاء الله، أما الدعاء والاستغفار والصدقة وأداء الواجبات فلا أعلم فيه خلافًا إذا كانت الواجبات مما تدخلها النيابة[40]، لأن الصوم والحج والدعاء والاستغفار عبادات بدنية، وقد أوصل الله نفعها إلى الميت بالنص فكذلك سواهما، قال: ولأن المسلمين في كل عصر ومصر يجتمعون يقرؤون القرآن ويهدون ثوابه إلى موتاهم من غير نكير، فكان إجماعًا. انتهى.
فتساهل الموفق - رحمه الله- في دعوى الإجماع في ذلك، مع عدم صحته كما سيأتي بيانه وجعل هذه الكلمة بمثابة تأسيس قاعدة فقهية وعقيدة دينية، وقد تلقاها عنه الأصحاب بالقبول وبنوا عليها من التعليق فوق ما تطيق وتوسعوا فيها بدون تمحيص ولا تحقيق، فإذا أردت تصحيح ذلك فانظر إلى عشرين مؤلفًا من كتب الأصحاب تجد في كل كتاب منها هذه الكلمة بحروفها أو بمعناها.
ومن المعلوم أن العالم قد يقول القول المرجوح مجتهدًا فيه فيطبع وينشر وتحفل به الجماهير والخلق الكثير وترسخ حقيقته في ذهن الصغير والكبير، غير أنه ليس بلازم أن يقبل كل ما يقوله العالم أو يفتي به بدون دليل يؤيده، لأن العالم قد يقول ما يعجزه أن يقيم الحجة على صحته، وحسبك ما جرى بين الصحابة من رد بعضهم على بعض في مسائل الفروع وكل يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله ﷺ.
فما كان أحد هؤلاء المجتهدين يجيز لأحد أن يقلده فيما أخطأ فيه ويجعله شريكًا لله في التشريع وأمور التحليل والتحريم، فالقول باعتقاد إهداء ثواب الأعمال إلى الأحياء والأموات، كما يقوله الفقهاء يفضي إلى أن يعرى عمل العامل من ثواب الله له على عمله ويحصل الأجر والثواب لمن لا يعمل، وهو خلاف سنة الله وشرعه في الجزاء على الأعمال بالثواب والعقاب، وقد زاد المتأخرون من الفقهاء القول بجواز إهداء ثواب صلاة الفرض وسائر ما لا تدخله النيابة من العبادات إلى كل مسلم حي أو ميت، وعندهم لا فرق بين الفرض والنفل، بل لو صلى صلاة مفروضة وأهدى ثوابها لأبويه صحت الهدية.
قال في الإقناع: وكل قربة فعلها المسلم وجعل ثوابها أو بعضها كالنصف ونحوه لمسلم حي أو ميت جاز ونفعه ذلك لحصول الثواب له حتى لرسول الله، من تطوّع وواجب تدخله النيابة كحج ونحوه أو لا تدخله النيابة كصلاة ودعاء واستغفار وصدقة وأضحية وأداء دين وصوم وكذا قراءة وغيرها. انتهى.
فقد عرفت كيف زاد على الموفق بالقول بجواز إهداء ثواب الأعمال التي لا تدخلها النيابة كصلاة فرض وصيام فرض حتى لرسول الله، وقد أجمع الأئمة الأربعة على أنه لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد، كما أن إهداء القرب الدينية إلى النبي بدعة كما حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية، ولشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- قولان في المسألة، أحدهما: إن الميت ينتفع بإهداء جميع العبادات البدنية من الصلاة والصوم والقراءة، كما ينتفع بالعبادات المالية من الصدقة والعتق ونحوها، وكما لو دُعي له واستغفر له.
والقول الثاني قال: إنه لم يكن من عادة السلف إذا صاموا تطوّعًا أو حجوا تطوّعًا أو قرؤوا القرآن أنهم يهدون ثواب ذلك إلى أموات المسلمين، فلا ينبغي العدول عن طريق السلف فإنه أفضل وأكمل. وهذا القول الأخير هو الجدير بسعة علم شيخ الإسلام وورعه وحرصه على التمسك بالشرع وسنته ومحاربته للبدع المخالفة لسنة رسول الله وسيرة خلفائه وأصحابه، ولعل هذا هو الأخير من أمره والمحقق من رأيه، وحسبك شهادته بأن إهداء التطوّعات من القراءة والصيام والصلاة ليس من عمل السلف الصالح الذين هم الرسول وأصحابه، وكل ما ليس من عمل السلف الصالح فإنه من محدثات الأمور، وشر الأمور محدثاتها.
وقد ذكر ابن مفلح في شرح المحرر ما يحقق ذلك فقال: ذكر الشيخ تقي الدين بأنه ليس من عادة السلف إهداء ثواب الأعمال إلى موتى المسلمين، بل من عادتهم أنهم كانوا يعبدون الله بأنواع العبادات المشروعة فرضها ونفلها، وكانوا يدعون للمؤمنين والمؤمنات كما أمر الله بذلك ويدعون لأحيائهم وأمواتهم، فلا ينبغي للناس أن يعدلوا عن طريق السلف، فإنها أفضل وأكمل.
فهذا هو الجدير بسعة علم شيخ الإسلام وحرصه على التمسك بصريح السنة والقرآن.
فهذا هو الأمر المحقق من رأيه وقد نقله ابن مفلح الذي هو أعرف الناس بأقواله، كما نقله ابن اللحام في اختياراته، إذ لا يمكن أن يدعو الناس إلى هذا الشيء الذي هو طريقة السلف من أهل السنة، ثم يدعو إلى خلافه.
فهذا القول هو الذي يجب المصير إليه لدلالة صريح الكتاب والسنة عليه، وأما القول بقياس إهداء ثواب الأعمال على الدعاء والاستغفار الثابت فضله والمجمع على وصول نفعه، فإنه قياس مع الفارق، لأن الدعاء عبادة من العبادات التي خلق الله الناس لها وأمرهم بالقيام بها، كما في حديث النعمان بن بشير، أن النبي ﷺ قال: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ٦٠﴾ [غافر: 60] رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وصححه الترمذي، وله من حديث أنس مرفوعًا: «الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ» والله يحب الملحين في الدعاء ويحب أن يسأل كل شيء ومن لم يسأل الله يغضب عليه، وإذا استجيب الدعاء لم تكن استجابته من باب إهداء ثوابه ولكنه تفضل من الله للمدعو له وللداعي أجره وثوابه، وكذا يقال في استغفار الملائكة لمن في الأرض، فإن الله خلقهم لعبادته التي هي التسبيح والدعاء والاستغفار، فهم يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا، ومثله انتفاع الميت بصلاة الحي عليه كما يقوله من يستدل به، فإن الصلاة على الميت هي كسائر الصلوات المشروعة، فالمصلي عن الميت إنما يصلي لله ويحتسب ثواب صلاته عند الله، كما في الصحيحين مرفوعًا: «مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ» فالمصلي يحتسب هذا الأجر لنفسه ويتضرع بالدعاء إلى الله لميته، إن شاء الله استجاب له وإن شاء رده، ولم يكن ليهدي ثواب دعائه أو ثواب صلاته إلى الميت، وهذا كله يعد من العبادة التي خلق الله الخلق لها وأمرهم بالقيام بها، وانتفاع الميت به هو شيء يصل إليه من الله، وهو شيء وإهداء الثواب شيء آخر، فإن إهداء الثواب هو أن يعمل الشخص العمل من صلاة وصيام وتلاوة القرآن، ثم يقول: اللهم اجعل ثواب ما عملت لفلان ابن فلان. أو يقول: اللهم إن كنت أثبتني على هذا العمل فاجعله لفلان ابن فلان، فيخرج العامل من ثواب عمله ويحصل الثواب والأجر لمن لا يعمل وهو خلاف سنة الله وشرعه في الجزاء على الأعمال ﴿يَوۡمَئِذٖ يَصۡدُرُ ٱلنَّاسُ أَشۡتَاتٗا لِّيُرَوۡاْ أَعۡمَٰلَهُمۡ ٦ فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَيۡرٗا يَرَهُۥ ٧ وَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖ شَرّٗا يَرَهُۥ ٨﴾ [الزلزلة: 6-8].
وأما قول الموفق: إن الصدقة وأداء الواجبات لا يعلم فيه خلافًا إذا كانت الواجبات مما تدخلها النيابة، لأن الصوم والحج عبادات بدنية، وقد أوصل الله نفعها إلى الميت بالنص وكذلك ما سواها. يشير الموفق بهذا إلى ما ثبت في الصحيحين عن عائشةأَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّىَ افْتُلِتَتْ نَفْسَهَا وَلَمْ تُوصِ وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ أَفَلَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ « نَعَمْ فتصدق عن أمك». وهذا الرجل المبهم هو سعد في عبادة، كما ورد مفسرًا في البخاري من حديث ابن عباس، «وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن عمرو بن العاص سأل النبي ﷺ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبِى أَوْصَى بِعِتْقِ مِائَةِ رَقَبَةٍ وَإِنَّ هِشَامًا أَعْتَقَ عَنْهُ خَمْسِينَ وَبَقِيَتْ عَلَيْهِ خَمْسُونَ رَقَبَةً أَفَأُعْتِقُ عَنْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «إِنَّهُ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا فَأَعْتَقْتُمْ عَنْهُ أَوْ تَصَدَّقْتُمْ عَنْهُ أَوْ حَجَجْتُمْ عَنْهُ بَلَغَهُ ذَلِكَ»»، وفي رواية: «لو كَانَ أَقَرَّ بِالتَّوْحِيدِ فَصُمْتَ وَتَصَدَّقْتَ عَنْهُ نَفَعَهُ» رواه أحمد وأبو داود والبيهقي.
«وعن ابن عباس، أن امرأة قالت: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِى الْحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِى شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرْكَبَ إِلَّا مُعْتَرِضًا أَفَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ «نَعَمْ حُجِّى عَنْه» » متفق عليه، «وعن ابن عباس أيضًا، أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَتْ: إنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ، أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ اقْضُوا اللَّهَ فَاَللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ»[41].
ولمسلم وأبي داود والترمذي من حديث بريدة قال: «كُنْت جَالِسًا عِنْدَ النَّبِىِّ ﷺ إِذْ أَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يا رسول الله إِنِّى تَصَدَّقْتُ عَلَى أُمِّى بِجَارِيَةٍ وإن أمي ماتت، فقال: «وجب أجرك وردها إليك الميراث»، قالت: يا رسول الله، إنه كان عليها صوم شهر، أفأصوم عنها؟ فقال: «نَعَمْ صُومِي عَنْهَا» قالت: يا رسول الله، إنها لم تحج، أفأحج عنها؟ قال: «نَعَمْ حُجِّى عَنْهَا»»، وفي البخاري ومسلم عن عائشة، أن النبي ﷺ قال: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ».
فهذه النصوص هي التي استمد منها الفقهاء جواز إهداء ثواب الأعمال إلى الموتى وكلها وقعت سؤالاً من الأولاد عن واجبات آبائهم فأفتاهم رسول الله بجواز قضائها، وشبهها بالدين اللازم الذي يجب قضاؤه لحديث: «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ»[42]، وللأولاد مع الآباء حالة لا تشبه حالة غيرهم، لأن الكتاب والسنة قد ألحقا ذرية المؤمن به، لقوله تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱتَّبَعَتۡهُمۡ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلۡحَقۡنَا بِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ﴾ [الطور: 21] ولهذا تجعل أفراط المؤمن في كفة ميزانه بمثابة حسناته، وفي الحديث: «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ وَإِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ»[43] لكونه هو السبب في إيجاده، كما أنه لا يقاس قضاء الواجبات على فعل التطوّعات.
ولهذا قلنا: إنه يجوز للأبناء والبنات قضاء واجبات آبائهم من صلاة وصيام وحج، سواء كانت واجبة بطريق الشرع أو بالنذر للنصوص الواردة في هذا الخصوص، ومنها حديث عمرو بن العاص أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ أَبَاكَ لَوْ كَانَ مُوَحِّدًا فَصُمْتَ وَتَصَدَّقْتَ عَنْهُ نَفَعَهُ ذَلِكَ»[44]، قال في نيل الأوطار: فيه دليل على أن ما فعله الولد لأبيه من الصوم والصدقة فإنه يلحقه ثوابه بدون وصية منهما له ويخصص بهذا قوله: ﴿وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ٣٩﴾ [النجم: 39]، قال: وقد ثبت أن ولد الإنسان من سعيه فلا حاجة إلى دعوى التخصيص، وأما من غير الولد فالظاهر من العمومات القرآنية أنه لا يصل ثوابه إلى الميت فيتوقف عليها حتى يأتي دليل يقتضي تخصيصها.
وأما الصدقة، فقد حكى بعض العلماء الإجماع على فضلها[45]، ووصول نفعها لكونها من الفعل المتعدي، وأما قول الموفق: أداء الواجبات لا يعلم فيه خلافًا إذا كانت الواجبات مما تدخلها النيابة، فهذا غير صحيح فإن فيه الخلاف الكبير، أما الحج الواجب بالشرع فقال أبو حنيفة ومالك: يسقط بالموت، لأنه عبادة بدنية فسقط بالموت كالصلاة وإن أوصى به فمن الثلث، وقال فقهاء الحنابلة والشافعية: من وجب عليه الحج ومات قبل أن يحج وجب على ورثته أن يخرجوا من ماله ما يحج به عنه، سواء أوصى به أو لم يوص، أشبه دين الآدمي. وبهذا يتبين وقوع الخلاف بين الأئمة في الواجبات التي تدخلها النيابة كما عرفت. قال العلامة ابن القيم في الإعلام على قوله: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ»[46]، قال: فطائفة حملت هذا على عمومه وإطلاقه، فقالت: يصام عنه الفرض والنذر، وأبت طائفة ذلك وقالت: لا يصام عنه الفرض ولا النذر، وفصلت طائفة فقالت: يصام عنه النذر دون الفرض الأصلي، وهذا قول ابن عباس وأصحابه والإمام أحمد وأصحابه وهو الصحيح، لأن فرض الصيام جار مجرى الصلاة، فكما لا يصلي أحد عن أحد ولا يسلم أحد عن أحد، فكذلك الصيام لا يصوم أحد عن أحد، وأما النذر فهو التزام في الذمة بمنزلة الدين فيقبل قضاء الولي له كما يقضى دينه، وطرد هذا أنه لا يحج عنه إلا إذا كان معذورًا بالتأخير، كما يطعم الولي عمن أفطر رمضان للعذر، وبدون العذر لا يجوز الإطعام ولا الصيام، فأما المفرط من غير عذر أصلاً فلا ينفعه أداء غيره عنه لفرائض الله التي فرّط فيها وكان هو المأمور بها ابتلاءً وامتحانًا دون الولي، فلا تنفع توبة أحد عن أحد ولا إسلام أحد عن أحد ولا صلاة أحد عن أحد ولا غيرها من فرائض الله التي فرّط فيها حتى مات، فإذا ظهرت أمارات الحق وقامت أدلته وأسفر صبحه، فذاك هو شرع الله ودينه والسبيل الموصل إلى رضاه والفوز بجنته[47].
والمقصود أن الموفق - رحمه الله- قد تساهل في القول في إهداء ثواب الأعمال إلى الموتى حتى حكى الإجماع على إهداء ثواب القراءة قائلاً: إنه إجماع المسلمين[48]، فإنهم في كل عصر ومصر يجتمعون ويقرؤون القرآن، ويهدون ثوابه إلى موتاهم من غير نكير، وحتى قال بجواز القراءة على القبور وأيد القول بذلك بأدلة ضعيفة، وقد أخذ الفقهاء عنه ذلك فقالوا بمثل قوله، فانتشر هذا الرأي المرجوح في كتب الأصحاب حتى صار له الأثر الكبير في نفوس العلماء والعوام والخاص والعام، وقد نجم عن هذا التعبير سوء التدبير، حيث عملت الوصايا وأُوقفت الأوقاف في الأمصار على إهداء الختمات وعلى قراءة القرآن على رمم الأموات، والقرآن إنما نزل للتذكر والتدبر لينذر به من كان حيًّا لا ليهدى منه الختمات إلى الأموات، على أن إهداء ثواب القراءة يعد من مفردات مذهب الإمام أحمد، كما حكى القول به صاحب الإنصاف، ونظمها صاحب المفردات قال:
تطوّع القربات كالصلاة
ثوابه لـمسلمي الأموات
يُهدى وكالقرآن مثل الصدقهْ
منفعته تأتيهم محققهْ
وقد حكى ابن كثير في التفسير على قوله: ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰ ٣٨ وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ٣٩﴾ [النجم: 38-39]، قال: أي كما لا يحمل عليه وزر غيره، فكذلك لا يحصل له من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه، ومن هذه الآية استنبط الشافعي ومن اتبعه أن القراءة لا يصل ثوابها إلى الموتى، لأنها ليس من عملهم ولا كسبهم، ولهذا لم يندب إليه رسول الله أمته ولا حثهم عليه ولا أرشدهم إليه لا بنص ولا إيماء، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه، وباب القربات يقتصر فيها على النصوص ولا يتصرّف فيها بأنواع الأقيسة والآراء، قال: وأما الدعاء والصدقة فذاك مجمع على وصولهما ومنصوص من الشارع عليهما.
وأما الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، أن النبي ﷺ قال: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلّاَ مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ»، فهذه الثلاث بالحقيقة هي من سعيه وكده كما جاء في الحديث: «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ وَإِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسبه»[49] والصدقة الجارية كالوقف ونحوه هي من آثار عمله لقوله تعالى: ﴿وَنَكۡتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَءَاثَٰرَهُمۡ﴾ [يس: 12]، والعلم الذي ينشره في الناس واقتدي به بعده هو أيضًا من سعيه وعمله، وثبت في الصحيح: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ مِنْ عير أن ينقض مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا»، وكذا حديث: «مَنْ سَنَّ فِى الإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلی يوم القيامة وَمَنْ سَنَّ فِى الإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلى يوم القيامة»[50]، انتهـى. وهذا القول يعد من أعدل الأقوال في المسألة وأسعدها بالصواب وإن خالفه من خالفه.
وقد أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- فيمن أوصى بمال في ختمات وقصده التقرّب إلى الله بأنه ينبغي صرف هذا المال إلى الصدقة به على الفقراء والمحاويج، قاله في الاختيارات، ويقاس على هذه الفتوى من أوصى بمال في حج أو أضاحي تذبح عنه وكان قد حج عن نفسه، فإن الصدقة بهذا المال على الفقراء والمحاويج أفضل من صرفه في الحج والأضاحي، الذي يقول أكثر العلماء بعدم جواز ذلك.
وفرق بين أن يكون الإنسان قصده معرفة حكم الله ورسوله في المسألة، أو أن يكون قصده معرفة ما قاله إمام مذهبه أوفقهاؤه أو الشيخ الفلاني الذي اشتهر علمه، وقد نقل صاحب المحرر عن شيخ الإسلام ابن تيمية، بأنه لم يكن من عادة السلف إهداء ثواب الأعمال إلى موتى المسلمين، بل عادتهم أنهم كانوا يعبدون الله بأنواع العبادات فرضها ونفلها، وكانوا يدعون للمؤمنين والمؤمنات كما أمر الله بذلك ويدعون لأحيائهم وأمواتهم، فلا ينبغي للناس أن يعدلوا عن طريقة السلف فإنها أفضل وأكمل.. انتهى.
وقال في تفسير المنار على قوله: ﴿وَلَا تَكۡسِبُ كُلُّ نَفۡسٍ إِلَّا عَلَيۡهَاۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰ﴾ [الأنعام: 164]، قال: هذه قاعدة من أصول دين الله الذي بعث الله به جميع رسله، كما قال تعالى: ﴿أَمۡ لَمۡ يُنَبَّأۡ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ ٣٦ وَإِبۡرَٰهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰٓ ٣٧ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰ ٣٨ وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ٣٩ وَأَنَّ سَعۡيَهُۥ سَوۡفَ يُرَىٰ ٤٠ ثُمَّ يُجۡزَىٰهُ ٱلۡجَزَآءَ ٱلۡأَوۡفَىٰ ٤١﴾ [النجم: 36-41]، قال: وهي من أعظم أركان الإصلاح للبشر في أفرادهم وجماعاتهم لأنها هادمة لأساس الوثنية وهادية للبشر إلى ما تتوقف عليه سعادتهم الدنيوية والأخروية وهو عملهم دون عمل غيرهم، فمعنى الجملتين: فلا تكسب نفس إثمًا إلا كان عليها جزاؤه الأخروي دون غيرها ولا تحمل نفس وزر نفس أخرى، بل كل نفس لها ما كسبت، أي من الحسنات وعليها ما اكتسبت، أي من السيئات، فالدين قد علمنا أن سعادة الناس وشقاءهم بأعمالهم، وأن الجزاء في الآخرة مبني على هذا التأثير، وأما من كان قدوة صالحة في عمله أو معلمًا، فإنه ينتفع بعمل من أرشدهم زيادة على انتفاعه بأصل عمله، ومن كان قدوة سيئة في عمل أو دالًّا عليه، فإن عليه إثم من أفسدهم، وكل هذا وذاك يعد من قبيل عمله، وقد بين النبي ﷺ هذا وذاك بقوله: «منْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلى يوم القيامة، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلى يوم القيامة»[51].
قال: ومما ينتفع به المؤمن من عمل غيره، بحيث يعد من قبيل عمله دعاء أولاده له وحجهم وتصدقهم عنه وقضاؤهم لصومه. وهو داخل في عموم قوله: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ وَعِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ وَوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» رواه مسلم من حديث أبي هريرة، وقد ألحق الله ذرية المؤمنين بهم في نص الكتاب والسنة.
ومن قال بانتفاع الميت بكل عمل يعمل له وإن لم يكن العامل ولده، قد خالف نص القرآن ولا حجة له في الحديث الصحيح ولا القياس الصحيح. انتهى[52].
والحاصل أن الأخبار الصحيحة وردت بجواز صدقة الأولاد عن الوالدين وقضاء ما وجب عليهما من صيام وحج وقضاء نذر، لكن مدار الجزاء والثواب والعقاب على عمل الإنسان بنفسه لنفسه لا على عمل أولاده وأقاربه جمعًا بين النصوص، كقوله تعالى: ﴿وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا لَّا تَجۡزِي نَفۡسٌ عَن نَّفۡسٖ شَيۡٔٗا وَلَا يُقۡبَلُ مِنۡهَا عَدۡلٞ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَٰعَةٞ وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ ١٢٣﴾ [البقرة: 123]، وقوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمۡ وَٱخۡشَوۡاْ يَوۡمٗا لَّا يَجۡزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِۦ وَلَا مَوۡلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِۦ شَيًۡٔا﴾ [لقمان: 33]، ثم إن هذا الانتفاع مشروط بكون الوالد والولد متفقين على الإيمان بالله والعمل بطاعته، وإن حصل التقصير من أحدهما في ترك طاعة أو ارتكاب معصية، كما في الحديث «إن الرجل لينزل المنزلة العالية في الجنة وينزل ابنه دون منزلته، فيقول أين ابني؟ فيقال له: إنه دون منزلتك قد قصرت به أعماله، فيقول: يا رب إني عملت لي وله، فيقول الله: صدق ارفعوا منزلته إلى والده لتقر به عينه»[53]، ثم تلا قوله: ﴿وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱتَّبَعَتۡهُمۡ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلۡحَقۡنَا بِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ﴾ [الطور: 21]، أشبه الشفاعة لا تكون إلا لمن أذن له الرب ورضي عمله، لهذا قلنا: إنه يجوز للأولاد قضاء واجبات آبائهم من صلاة وصيام وحج، سواء كانت واجبة بطريق الشرع أو النذر، أما غير الواجبات من سائر أفعال التطوّعات فالظاهر من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية أنها لا تفعل عنه بعد موته فلا يصل إليه ثواب القراءة ولا الأضحية ولا يحج نفلاً عنه ولا يصام نفلاً عنه ولا يصلى عنه، بل يتصدق عنه، فإن الصدقة أفضل من هذا كله وأنفع للحي والميت لكونها من النفع المتعدي للغير وحتى جاز فعلها مع الكافر، ولمّا تحرّج أصحاب رسول الله من الصدقة على أقاربهم من المشركين وقالوا: لا نؤجر على الصدقة على من ليس من أهل ديننا، أنزل الله تعالى: ﴿لَّيۡسَ عَلَيۡكَ هُدَىٰهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَلِأَنفُسِكُمۡۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ ٱللَّهِۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ ٢٧٢﴾ [البقرة: 272]، فأمروا بالصدقة على الكافر، وبهذا فارقت سائر أفعال البر كما عرفت، والله أعلم.
[38] أخرجه مسلم من حديث أبي ذر. [39] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [40] إنا لا نسلم لصحة ما يدعيه من عدم الخلاف في أداء الواجبات التي تدخلها النيابة، بل إن فيها الخلاف الكبير، أما الحج فإن الظاهر من مذهب الإمام أحمد والشافعي، فيمن مات قبل أن يحج، فإنه يجب أن يخـرج من تركتـه ما يحج به عنه، أشبه دين الآدمـي، وذهب الإمام مالك وأبو حنيفة إلى أنه يسقط بالموت، وإن أوصى به فمن الثلث، وأما الصوم فظاهر مذهب الأئمة الأربعة أنه لا يصام عن الميت مطلقًا، وخص الإمام أحمد جواز قضاء الولي للصوم الواجب بالنذر دون الواجب بالشرع، أما الواجب بالشرع، فإن فيه الإطعام عن كل يوم مسكينًا ولا يصام عنه في قول أكثر أهل العلم وهو ظاهر المذهب، قاله في المغني، أما إذا مات المريض في إثر مرضه أو مات المسافر في سفره، أو ماتت الحائض أو النفساء قبل أن يتمكن أحد هؤلاء من قضاء ما عليه، فإنه لا يجب الإطعام ولا الصيام لكونه معذورًا شرعًا. [41] متفق عليه من حديث ابن عباس. [42] أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة. [43] أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث عائشة. [44] أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو. [45] ممن حكى الإجماع: النووي وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن كثير وابن العربي. [46] متفق عليه من حديث عائشة. [47] من المجلد الثالث من فتاوى رسول الله، وذكره بأبسط من هذا في تهذيب السنن (ج 3- ص279). [48] راجع كتاب المغني طبعة المنار، تجد في حاشيته من آخر كتاب الجنائز رد القول بدعوى الإجماع في إهداء ثواب القراءة، وقال: إن دعوى الإجماع باطلة لم يعبأ بها أحد قطعًا حتى إن المحقق ابن القيم الذي جاراه في أصل المسألة قد صرح بما هو في نص بطلانها، كما ورد أيضًا القول بجواز القراءة على القبور، وتكلم صاحب المنار على الأحاديث والآثار التي ساقها الموفق وبين حقيقة ضعفها وكونها موضوعة لا يحتج به. [49] أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث عائشة. [50] أخرجه مسلم من حديث جرير بن عبد الله. [51] رواه مسلم بنحوه من حديث جرير بن عبد الله. [52] المجلد الثامن- ص246. [53] أخرجه الطبراني في الصغير من حديث ابن عباس.