متقدم

فهرس الكتاب

 

رد القول بتفضيل الأضحية عن الميت على الصدقة عنه

يجب أن نعلم بأنه ليس كل ما يكتبه العالم أو يفتي به، يكون حجة على الناس بدون دليل يؤيده، لأن العالم قد يقول القول المرجوح الذي يعجزه أن يقيم الحجة على صحته فيطبع وينشر وتحفل به الجماهير والخلق الكثير وترسخ حقيقته في ذهن الصغير والكبير وهو باطل في نفس الأمر والواقع، لهذا ينبغي أن نعرف بأن العالم مهما بلغ في سعة العلم والمعرفة، فإنه قد يزل ولا بد فيتبعه الناس على زلته، وقد شبهوا غلطته بغرق السفينة يغرق لغرقها الخلق الكثير، وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ ومن استبانت له سنة رسول الله لم يكن له أن يدعها لقول أحد كائنًا من كان، من ذلك القول بتفضيل الأضحية عن الميت على الصدقة عنه، كما حكاه صاحب الإقناع وقد أخذه من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إن صح ذلك عنه. وكان نسبة هذا القول إليه هو الحجر الأساسي في توسع الناس في الأضاحي عن الأموات، ولم نر من سبق شيخ الإسلام إلى القول بهذا لا من فقهاء الحنابلة المتقدمين ولا من غيرهم من سائر علماء المذاهب، ولم يقع لها ذكر في كتب المتقدمين من الحنابلة، فضلاً عن القول بتفضيلها على الصدقة لكونها غير معروفة ولا معمول بها عند العلماء المتقدمين، كما أنها غير معروفة عند الصحابة والتابعين حتى إنه ليتردد في الذهن عدم صحة نسبة هذا التفضيل إلى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ لأنه قد حكى إجماع العلماء على وصول ثواب الصدقة إلى الميت ولن يستطيع أن يقول بذلك في الأضحية.

مع العلم أن الظاهر من مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة عدم مشروعيتها وكونه لا يصل إلى الميت ثوابها، لهذا تجد الأضحية عن الميت على سبيل الانفراد غير معروفة ولا معمول بها في سائر الأمصار التي يحكم أهلها بمذاهب الأئمة الثلاثة، كالشام ومصر والعراق واليمن وفارس، فلا تذكر في أوقافهم ولا وصاياهم لاعتقادهم عدم مشروعيتها، فكيف يقال بتفضيل ما اتفق الأئمة الثلاثة على عدم مشروعيتها على الصدقة الثابت بالنص فضلها والمجمع على وصول نفعها، وإنما يذكر الفقهاء فضل أضحية الحي، وأن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها، وكذلك العقيقة، وهذا صحيح ثابت لاشك فيه ولكل مقام مقال، فقياس الأضحية عن الميت على أضحية الحي في تفضيلها إنما هو قياس مع الفارق، لأن الشرع ورد بالتقرّب إلى الله بإراقة الدم في حق من أدرك عيد الحج الأكبر الذي هو عيد الإسلام وما يتبعه من الأيام، تعظيمًا لأمر هذا العيد وإشهارًا لشرفه وشكرًا لله على بلوغه، ولا يحصل ذلك بالتصدق بالقيمة لكون الصدقة بالقيمة تفضي إلى إهمال هذه السنة وعدم العمل بها.

فلا وجه للتعليل فيما هو خالص حق لله تعالى، يوضحه أن الله سبحانه وتعالى قد نصب لعباده حكمًا قسطًا يقطع عن الناس النزاع ويعيد خلافهم إلى مواقع الاجتماع وهو الكتاب والسنة.

أما الكتاب، فإن مبدأ مشروعية الأضحية هو ما قص الله عن نبيه إبراهـيم مع ابنه إسماعيل، حيث قال: ﴿وَفَدَيۡنَٰهُ بِذِبۡحٍ عَظِيمٖ ١٠٧ [الصافات: 107] وهذا الذبح هو كبش أمر إبراهيم بذبحه فداء عن ابنه وقربانًا إلى ربه في يوم عيد النحر، فصار سنة في ذريته، وقد أمر النبي بأن يتبع ملته فسنها رسول الله في أمته، كما في حديث زيد بن أرقم، قال، قلنا أو قالوا: «يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الأَضَاحِىُّ قَالَ «سُنَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ». قَالُوا فَمَا لَنَا فِيهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «بِكُلِّ شَعَرَةٍ حَسَنَةٌ...»» الحديث[37].

والدليل الثاني قوله تعالى: ﴿وَٱلۡبُدۡنَ جَعَلۡنَٰهَا لَكُم مِّن شَعَٰٓئِرِ ٱللَّهِ لَكُمۡ فِيهَا خَيۡرٞۖ فَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَا صَوَآفَّۖ فَإِذَا وَجَبَتۡ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُواْ ٱلۡقَانِعَ وَٱلۡمُعۡتَرَّۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرۡنَٰهَا لَكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ٣٦ [الحج: 36]، فهذه الآيات نزلت في دماء الأضاحي والمناسك، والخطاب فيها للأحياء الذين سخر لهم البدن وجعلها من شعائر الله، ولا تكون من شعائر الله إلا إذا ذبحت في سبيل القربة والطاعة، فهم أي الأحياء الذين أمروا بأن يذكروا اسم الله عند ذبحها، وأن يأكلوا منها ويطعموا القانع والمعتر والبائس الفقير، فهذا الأمر وهذا الخطاب إنما وجه إلى الحي الذي هو محل تكليف بالأمر والنهي والموتى يبعثهم الله.

وبهذا يعلم مبدأ مشروعية الأضحية وكيفية نظامها، وأنها من عمل الأحياء ولا علاقة فيها لذكر الأموات، فكيف يقال بتفضيلها مع عدم ما يدل على مشروعيتها؟!

* * *

[37] أخرجه ابن ماجه من حديث زيد بن أرقم.