متقدم

فهرس الكتاب

 

الأسباب والمقتضيات في توسع الناس في الأضاحي عن الأموات

إنه بمقتضى التتبع والاستقراء لكتب فقهاء الحنابلة المتقدمين، مثل: المغني على سعته، و إعلام الموقعين، و الخرقي، و الشرح الكبير، و المحرر، و الكافي، و المقنع، و النظم، و المذهب الأحمد، و زاد المعاد، و الإنصاف، لم نجد في كتاب واحد ذكر الأضحية عن الميت لا جوازًا ولا استحبابًا، فعدم ذكرهم لها يدل على عدم وجود فعلها في زمنهم، لأن العلماء إنما يعتنون بذكر الأمور الوجودية فيذكرون عنها ما تقتضيه أمانة التبليغ من الجواز والمنع، أما الأمور العدمية التي لا وجود لفعلها فلا يذكرونها إلا حينما يتصدون للرد عليها عند بوادر ابتداعها، من ذلك الأضحية عن الميت والقول بتفضيلها فإنها لم تكن معروفة ولا معمولاً بها زمن الصحابة والتابعين والفقهاء المتقدمين.

وأقدم من قال بتفضيلها هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيما نقله عنه ابن اللحام، ولم نر من سبقه إلى القول بذلك لا من فقهاء الحنابلة ولا من غيرهم، وقد أخذ ذلك صاحب المنتهى فصاغه بقوله: وأضحية عن ميت أفضل منها عن حي. وقال صاحب الإقناع: وذبحها - أي الأضحية - ولو عن ميت أفضل من الصدقة بثمنها.

ولمّا انتشر بين الناس كتاب الإقناع و المنتهى وتقرر عند المتأخرين أن المذهب هو ما اتفق عليه الكتابان ووجدوا فيهما هذا التفضيل، وتقوى صحته في نفوسهم بنسبته إلى شيخ الإسلام، بحر العلوم ومفتي الأنام ومفخر السلف الكرام، وقد أودع الله محبته في قلب الخاص والعام.

فلأجله استقر فضلها في الأذهان وجرى العمل بها من العلماء الأعلام، وتبعهم على العمل بها سائر العوام في الوصايا والأوقاف، وأخذوا يتوسعون في العمل بها عامًا بعد عام.

وليس بلازم أن يكون كل ما يكتبه العالم أو يفتي به يصير حجة على الناس بدون دليل يؤيده، فإن العالم مهما بلغ في سعة العلم والمعرفة، فإنه قد يزل ولا بد فيتبعه الناس على زلته، وقد يقول ما يعجزه أن يقيم الحجة على صحته، فيطبع وينشر وتحفل به الجماهير والخلق الكثير، وترسخ حقيقته في ذهن الصغير والكبير حتى يصير كالصحيح ويصير من الصعب مزاولة الناس في العدول عنه إلى الحق المنصوص عليه بدله.

وقد قلنا: إن الأضحية في خاصة الحي أفضل من الصدقة بثمنها، حتى باتفاق الأئمة الأربعة، أما الأضحية عن الميت فإنه لم يثبت مشروعيتها لا من الكتاب ولا من السنة ولا من عمل الصحابة، فكانت الصدقة بثمنها أفضل من ذبحها.

فإن قيل: إن في الأضحية عن الميت تقربًا إلى الله بإراقة دمها في ثوابه وصدقة بلحمها. قلنا: نحن لا نتكلم عن اللحم المركوم بعد ذبحه والذي لو لم يتصدق به أو يهدى منه لأنتن حتى يقذف به في بطون الكلاب أو في محل غير مستطاب، ولأنه ليس المقصود من الأضحية مجرد التصدق بلحمها بعد إراقة دمها، فإن ذلك مستحب وليس بواجب، فلو أكلها كلها إلا قدر قشة جاز كما أن الأضحية لا تسمى صدقة والصدقة لا تسمى أضحية ولكل شيء حكمه على حسب مسماه.

وإنما نتكلم الآن مع ولاة الأوقاف والوصايا والذي يجتمع عند أحدهم قدر الخمسين والستين من الأغنام، يريد أن يجزرها في مقام واحد كلها أضاحي عن الأموات، وعند الثاني والثالث مثل ذلك وكذا المتبرعون بأفعال الخير، بحيث يموت الرجل العظيم من عالم أو حاكم أو تاجر فينتدب كل واحد من أبنائه وأرحامه بأضحية عنه، بحيث يضحى له في يوم واحد بعشرين كبشا أو أقل أو أكثر، ومن لوازم هذا التصرف إتلاف المال وإزهاق أرواح الحيوان الذي يجب ألّا يسفك دمه إلا بحق، فإن الله كتب الإحسان على كل شيء.

فإن كان ذبح مثل هذه الأغنام يقع بطريق شرعي فسبيل من هلك ومن قتل في حق فالحق قتله، وإن كان قتلها بطريق غير شرعي وأنه ليس له أصل لا من الكتاب ولا من السنة ولا من عمل الصحابة، وجب العدول عنه إلى الصدقة بثمنها المنصوص عليها بدل ذبحها لكونها أنفع للحي والميت، وأقرب إلى طاعة الله ورسوله، والصرف إلى مثل هذا يعد من الإصلاح بالعدل الذي رفع الله الإثم عن فاعله في قوله: ﴿فَمَنۡ خَافَ مِن مُّوصٖ جَنَفًا أَوۡ إِثۡمٗا فَأَصۡلَحَ بَيۡنَهُمۡ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِ [البقرة: 182]، كما أرشد النبي ﷺ سعدًا، بأن يتصدق عن أمه[32]، وكما أرشد أبا طلحة بأن يتصدق ببيرحاء على أقاربه[33]، وكما أرشد عمر بن الخطاب بأن يتصدق بغلة وقفه على الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف[34]، وكما قال لعمرو بن العاص: «إِنَّ أَبَاكَ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا، فَتَصَدَّقْتَ عَنْهُ، نَفَعَهُ»[35]، وكما أخبر بأن الصدقة الجارية هي الباقية للشخص بعد موته[36]، والواقف والموصي إنما يبذل ماله في سبيل ما يقرّبه من رضى ربه وينفعه في آخرته، وقد ظن أن الأضحية هي أفضل ما يفعله أو أنها بمثابة فكاك رقبته من عذاب ربه أو أنها مطيته على الصراط المنصوب على متن جهنم، كما روى الحديث الموضوع في ذلك، والعامي مشتق من العمى، فهو يحتاج إلى من يدله على الطريق ويبين له ما ينبغي أن يفعله لآخرته، على سبيل التحقيق وقد أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية فيمن أوصى بمال في ختمات يهدى إليه ثوابها، وقصده بذلك التقرّب إلى الله، بأنه ينبغي صرف هذا المال إلى فقراء محاويج؛ لأن الصدقة أفضل من عمل ختمة، فمتى كان الأمر بهذه الصفة، فإن الوقف أو الوصية بالأضحية أحق بالصرف من هذا لعدم ما يدل على مشروعيتها؛ لأن من شرط صحة الوقف كونه على جهة بر، ونحن لم نتحقق فعل البرّ في الأضحية عن الميت لما ذكرنا، والله أعلم.

* * *

[32] ذكره البيهقي تعليقًا في معرفة السنن والآثار من قول الشافعي. [33] أخرجه البخاري من حديث أنس. [34] أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمر. [35] أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو. [36] متفق عليه من حديث أبي هريرة.