أول من نقل عنه القول بتفضيل ذبح الأضحية عن الميت
إن القول بتفضيل ذبح الأضحية عن الميت على الصدقة عنه هو مقتبس من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- إن صح ذلك عنه، فقد نقله ابن اللحام في الاختيارات، كما أشار إليه صاحب الفروع قائلا: واختار شيخنا تفضيل الأضحية عن الميت على الصدقة، ولم أر من سبقه إلى هذا القول من سائر علماء المذاهب، ولسنا نسقط رأيه في هذه القضية بنظريات اجتهادية من عندنا، وإنما نسقطه بما ظهر لنا من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، والله يعلم أننا من أشد الناس محبة لشيخ الإسلام، واحترامًا له، ونفضل آراءه في كثير من المسائل التي خالف فيها أئمة المذاهب لرجحانها عندنا بالدليل، ونحن إذ نرد كلامه في هذه القضية، فإنما نرد كلامه بكلامه، فهو الذي عوّدنا معارضة كل قول يخالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، مع قطع النظر عن قائله، إذ الحق فوق قول كل أحد.
وفرق بين أن يكون الإنسان قصده معرفة حكم الله ورسوله وما عليه إجماع الصحابة في مثل هذه المسألة، أو أن يكون قصده معرفة ما قاله إمام مذهبه وفقهاؤه أو ما قاله الشيخ الفلاني الذي اشتهر علمه.
وقد قال العلامة ابن القيم رحمه الله: إن كل من له سعة علم بالشرع والواقع يعلم قطعًا أن العالم الجليل الذي له في الإسلام قدم راسخ وقلم خالص وعلم واسع وآثار حسنة، أنها قد تكون منه الزلة هو فيها معذور، بل ومجتهد مأجور، فلا يجوز أن يتبع على زلته ولا أن يهدر من أجلها مكانته وإمامته، لأن سعة علمهم وفضلهم ونصحهم لله ورسوله لا يوجب قبول كل ما قالوه وما وقع في فتاويهم من المسائل التي قالوا فيها بمبلغ علمهم واجتهادهم والحق في خلافها لا يوجب اطراح أقوالهم جملة ولا تنقصهم من أجلها، بل نسلك بهم مسلك الصحابة في مخالفة بعضهم لبعض، فإنهم لا يؤثمون المجتهد المخطئ ولا يعصمونه ولا يقبلون كل أقواله. انتهـى.
والذي جعل شيخ الإسلام يغفل عن تحقيق هذه القضية على الوجه الشرعي المطلوب هو عدم الابتلاء بها في زمنه، على أنه إمام المحققين ورأس المدققين لأن الابتلاء بالشيء يستدعي التوسع في العلم به أكثر من غيره، وما من أحد من الناس إلا ويخفى عليه شيء من أمر السنة في وقت ثم يذكره في وقت آخر، والعلم ذو شجون يستدعي بعضه بعضًا، وسبحان من أحاط بكل شيء علمًا. ومن تربى على مذهب قد تعوّده واعتقد صحة ما فيه وهو لا يحسن الأدلة الشرعية ولا تنازع العلماء فيها، فإنه لا يفرق بين ما جاء عن الرسول وتلقته الأمة بالقبول ولا يقنع بحجة القرآن وما جاء عن الصحابة والسلف الكرام، وبين ما قاله علماء مذهبه مع تعذر إقامة الحجة على صحته، ومن كانت هذه صفته فإنه يعد من المقلدين الناقلين لأقوال غيرهم والمقلد لا يعد من أهل العلم.
ولقد كنا قبل أن نستقصي في البحث والتحقيق عن هذه القضية، وقبل أن نقف على دلائلها من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأقوال الأئمة، نظن كل الظن أن الأضحية من أفضل ما يعملها الحي للميت، وأنها في فضلها ووصول نفعها ترتفع عن مجال الشك والإشكال، من أجل رواجها في الأذهان.
ولشيخ الإسلام الأجر الجزيل والثناء الجميل من الله إن شاء الله، ومن الناس حتى فيما أخطأ فيه ولا يكون المنتصر لمقالته بمنزلته في حصول الأجر وحط الوزر، بل فرضه الاجتهاد والنظر حتى يتبين له الحق فيأخذ به، وقد أعرض العلماء عن العمل ببعض اختياراته، لما تبين أن الراجح خلافها، وهو نفسه لا يرضى أن يقلده أحد فيما أخطأ فيه ويجعله شريكًا لله في التشريع وأمور التحليل والتحريم.
إذ لو كان للأضحية عن الميت أصل في الشرع، أو أنه مرغوب فيها، أو أنه يصل ثوابها لما جهلها الصحابة والسلف الأول، ولو علموها لما أهملوا العمل بها لكونها تعد من العبادات العملية التي يهتم بها الصحابة والسلف الصالح، بالعمل بها، ثم تبليغها حتى تتوفر الهمم والدواعي على نقلها بالتواتر، كما نقلوا سائر السنن والمستحبات، ومع عدم ما يدل على ذلك علمنا حينئذ أنها ليست بمشروعة، ولا مرغب فيها، لأنهم عن علم وقفوا وببصر نافذ كفوا، والله الهادي إلى الصواب وإليه المرجع والمآب.
* * *