متقدم

فهرس الكتاب

 

فصل في رد القول بمنع الأكل من أضحية الميت

وأما القول: بمنع الأكل من أضحية الميت لكونها - بزعمهم - حقًّا للمساكين كما يقوله عبد الله بن المبارك ومن أخذ برأيه، كما هو الظاهر من مذهب الشافعي وأبي حنيفة. فهذا المنع ليس له مستند من الصحة، فإن الله سبحانه أباح الأكل من لحوم الأضاحي على الإطلاق، فقال: ﴿فَإِذَا وَجَبَتۡ جُنُوبُهَا -أي سقطت بالأرض بعد ذبحها- ﴿فَكُلُواْ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُواْ ٱلۡقَانِعَ وَٱلۡمُعۡتَرَّ [الحج: 36]، ولأن الإنسان يشتري الأضحية ويذبحها لميته على سبيل التبرك ومن نيته أن يأكل هو وأهله وعياله منها، كما يفعل بأضحيته بنفسه، فهذا هو المتعارف عند الناس والفعل العرفي كالشرط اللفظي، ولكل امرئٍ ما نوى، ولم نجد دليلاً يحرم الأكل منها على المتقرب بها، لكونه ليس في نيته ولا من قصده أن يتصدق بها كلها، أشبه دم المتعة والقران، حيث قال بعض الفقهاء بمنع الأكل منه لكونه دم جبران، والصحيح إباحة الأكل منه، فإن الله سبحانه أباح الأكل منها، وقد أكل رسول الله وأزواجه وأصحابه منها، لكونها دم نسك وليست بدم جبران.

ومثله قول من يقول: إن الأضحية متى عينها صاحبها لم يجز له الأكل منها، كما هو ظاهر مذهب الشافعي، والتعيين هو أن يقول: هذه أضحية. فتصير واجبة بالتعيين ويحرم عليه الأكل منها عندهم، وهذا التحريم ليس له مستند من الصحة لا من الكتاب ولا من السنة ولا من عمل الصحابة والتابعين، فإن الإنسان متى اشترى أضحيته وسأله سائل عنها، قال: هذه أضحيتي. ولن تحرم عليه بهذه الكلمة، كما في البخاري عن أبي أمامة بن سهل، قال: كنا نسمّن الأضحية بالمدينة وكان المسلمون يسمّنون. فهؤلاء الصحابة والمسلمون لا يتحاشى أحدهم من قوله: هذه أضحيتي. ولا يرون هذه الكلمة تحرم عليهم ما أحل الله لهم من لحم نسكهم، ومثله لما قسم النبي الأضاحي بين أصحابه، إذ من المعلوم أن أحدهم سيقول: هذه أضحيتي. وهم أعرف الناس، هذا كبش أريد أن أذبحه يوم العيد، فتكون مباحة الأكل عندهم، فالتحليل والتحريم يرجع إلى التلفظ بهذه الكلمة وهو ضعيف جدًّا، وإنما الذي يمتنع الأكل منه على صاحبه هو دم الكفارات على الإطلاق، كدم جزاء الصيد، وكذا الدم الواجب لترك واجب من واجبات الحج أو فعل محظوراته، وكمن نذر أن يتصدق ببدنة أو شاة فيمتنع الأكل منها، لأنه لو أكل منها لم يصدق عليه أنه أخرج فداء كاملاً، وليس كذلك الأضحية عن الميت، سواء وقعت عنه بطريق الانفراد أو الاشتراك، وسواء قلنا إنها شرعية أو غير شرعية، لأنها إن لم تكن شرعية فإنها ذبيحة لحم مباحة الأكل له ولأهله، أشبهت أضحية أبي بردة بن نيار، التي ذبحها قبل صلاة العيد فكانت غير شرعية، وأخبر النبي ﷺ بأنها شاة لحم عجلها له، أي مباحة الأكل، وكذلك الأضحية عن الميت، وهذا هو ظاهر المذهب، قال في الإقناع و شرحه: وأضحية عن ميت كأضحية عن حي من أكل وصدقة وهدية. انتهى. حتى ولو نذر ذبح أضحية جاز له الأكل منها، قال في الشرح الكبير: وإذا نذر أضحية في ذمته ثم ذبحها فله أن يأكل منها، لأن النذر محمول على المعهود والمعهود من الأضحية الشرعية ذبحها والأكل منها. انتهى.

يبقى الكلام في الأضاحي التي أوصى بها الأموات والتي تذبح من غلة الأوقاف والوصايا بأمر الموتى، فهذه بمثابة الوقف الخيري والوصية في فعل البر والخير، فلا يحل للمتولي أكلها مع غناه عنها لكونها حقًّا للفقراء والمساكين، وفرق بين هذه الأضحية وبين أضحية المتبرع بالصدقة بها، فإن أضحية المتصدق تذبح على ملكه، وإنما ثوابها لميته، فجاز له الأكل منها كأضحيته لنفسه، أما الأضحية من وقف الميت أو وصيته، فإنها تذبح على ملك الميت وتصرف في مصارفها الشرعية من الصدقة بها ويكون المتولي لها بمثابة المتولي لمال اليتيم ﴿يَكۡبَرُواْۚ وَمَن كَانَ غَنِيّٗا فَلۡيَسۡتَعۡفِفۡۖ وَمَن كَانَ فَقِيرٗا فَلۡيَأۡكُلۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِ [النساء: 6]، والأصل كونها للفقراء والمساكين.

قال في رد المحتار لابن عابدين: ولو ضحى عن ميت وارثه بأمره، أي بأمر الميت في نحو وصية أو وقف ألزم بالتصدق بها وعدم الأكل منها، وإن تبرع بها عن الميت فله الأكل، لأنها تقع على ملك الذابح والثواب للميت.