ذكرى في تحريم الربا لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد
أحل الله البيع وحرم الربا، والبيع الحلال هو كل بيع لا غش فيه ولا تدليس ولا خيانة ولا غرر ولا ربا... فهذا البيع بهذه الصفة من أفضل الكسب، كما في الحديث أن النبي ﷺ سئل: أي الكسب أفضل؟ فقال: «عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ». رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورواته ثقات.
فعمل الرجل بيده لسائر الحرف المباحة كالزراعة والصناعة محبوب عند الله، فإن الله يحب المؤمن المحترف ويبغض الفارغ البطال... وفي الحديث: «مَنْ غَرْسَ غَرْسًا فِي غَيْرِ ظُلْمٍ وَلَا اعْتِدَاءٍ، فَإِنَّ لَهُ أَجْرًا جَارِيًا مَا انْتَفَعَ بِهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ»[181]. فهو يجري له هذا الأجر حتى ولو زال عن ملكه ببيع أو عطاء.
والربا المحرم أنواع: أشده وأشره: ربا النسيئة، وهو الزيادة التي يأخذها الدائن من المدين نظير تأجيل الدين، كمن يستدين النقود من البنوك أو من بعض التجار، ومتى حل الدين ولم يجد وفاء مدوا في الأجل وزادوا ربحًا في الثمن، على حد ما يقال في الجاهلية: إما أن تقضي وإما أن ترابي.. فيربو المال على المدين حتى يصير كثيرًا، وهذا هو ربا الجاهلية الذي حرمه الإسلام، ونزل في الزجر عنه كثير من آيات القرآن، ولعن رسول الله آكله ومُوكله وشاهديه من بين الأنام.
وهذا الربا محرم في سائر الكتب وعند جميع الشرائع، ويكفر مستحله عند جميع علماء المسلمين.
لأن ضرر هذا الربا يقوض بالتجارات ويوقع في الأزمات ويهدم بيوت الأسر والعائلات.. فكم سلب من نعمة وكم جلب من نقمة، وكم خَرّب من دار وكم أخلى دارًا من أهلها فما بقي منهم ديّار.
فالمتعاطي للربا يسرع إليه الفقر والفاقة، ويحيق به البؤس والمسكنة، ويلازمه الهم والغم ويندم حيث لا ينفعه الندم، وحسب المرابي في الشر كونه محاربًا لربه في حياته وبعد وفاته.. يقول الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَوٰٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ٢٧٨ فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ فَأۡذَنُواْ بِحَرۡبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ﴾ [البقرة: 278-279].
وقد وصف الله المرابي في فساد تصرفاته بالمجنون الذي يتخبطه الشيطان من المسِّ.. ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡبَيۡعُ مِثۡلُ ٱلرِّبَوٰاْۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْ﴾ [البقرة: 275]. وعدوا من هذا النوع قلب الدَّين على المعسر ولو ببيعه عروضًا وسلعًا لكونهما نفس ما نهى الله عنه.
والنوع الثاني: ربا الفضل، وهو بيع النقود بالنقود أو الطعام بالطعام[182] مع الزيادة، ومنه ما يفعله بعض الناس بحيث يستدين من البنك مائة نقدًا بمائة وعشرة آلاف مؤجلة إلى سنة. وقد حرمه الله على لسان نبيه لكونه يقود إلى ربا النسيئة الذي هو ربا الجاهلية، وهو ما يتعامل به الناس اليوم، بحيث يستدينون النقود من البنوك لتوسيع تجارتهم فيحل الدين وليس عندهم وفاء... فترابي البنوك عليهم وهم نائمون على فرشهم، فترابي بأصل الدين وبالربح حتى يكون القليل كثيرًا.
وشَرْع الإسلام المبني على مصالح الخاص والعام، قد حرم هذا العمل، بدليل أنه حرم بيع الذهب بالذهب إلى أجل.. فقال ﷺ: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا الْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ، إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تَبِيعُوا غَائِبًا مِنْهَا بِنَاجِزٍ»... متفق عليه من حديث أبي سعيد.
فخص الذهب والفضة بالذكر لكونهما المتعامل بهما زمن النبي ﷺ، وقد قامت الأوراق المالية على اختلاف أجناسها مقام نقود الذهب والفضة في المنع من استدانة بعضها ببعض نسيئة، وكونه ينطبق عليه ما ينطبق على استدانة الذهب بالفضة نسيئة في قوله: «وَلَا تَبِيعُوا غَائِبًا مِنْهَا بِنَاجِزٍ»، وكما روى البخاري ومسلم عن عمر أن النبي ﷺ قال: «الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ» يعني يدًا بيد. فلا يجوز استدانة أحدهما بالآخر نسيئة. وقد روى الخمسة وصححه الحاكم عن ابن عمر قال: قلت: يا رسول الله إني أبيع الإبل بالنقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ بالدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه. فقال رسول الله ﷺ: «لَا بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا، مَا لَمْ تَتَفَرَّقَا، وَبَيْنَكُمَا شَيْءٌ».
وليس الحكم مخصوصًا بهما ولا مقصورًا عليهما دون ما يقوم مقامهما ويعمل عملهما في القيمة والثمنية. وقد ثبت في الطعام مثل ذلك من المنع عن بيع أحد النوعين بالآخر نسيئة أو متفاضلاً؛ لما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن النبي ﷺ استعمل رجلاً على خيبر فجاءه بتمر جنيب فقال رسول الله ﷺ: «أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟» فقال: لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ صاعًا من هذا بالصاعين والثلاثة. فقال رسول الله: «لَا تَفْعَلْ، بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا» وقال في الميزان مثل ذلك، فهذا نوع ربا الفضل بالطعام، فإن القواعد الشرعية تعطي النظير حكم نظيره وتسوي بينهما في الحكم، وتمنع التفريق بينهما لكون الاعتبار في أحكام الشرع هو بعموم لفظها لا بخصوص سببها.
فالشريعة منزهة عن أن تنهى عن شيء لمفسدة راجحة أو متأكدة فيه، ثم تبيح ما هو مشتمل على تلك المفسدة أو أزيد منها في النقود المبدلة عن الذهب والفضة؛ فإن الله سبحانه على لسان نبيه أوجب الحلول والتقابض في بيع الدنانير بالدراهم، ونهى عن بيع بعضها ببعض نسيئة رحمة منه بأمته. وكل ثمن لم يقبض في الحال فإنه يعد نسيئة ويدخل في عموم النهي؛ لهذا نرى بعض الناس يتحايل من أجل التوصل إلى هذا الأمر المحرم وإباحة تعاطيه بجعل هذه النقود بمثابة العروض التي يسوغ بيع بعضها ببعض نسيئة، وخفي عليهم أن حكم النظير حكم نظيره إيجابًا ومنعًا.
فمتى كان الأمر بهذه الصفة، فإن بيع أوراق العُمَلِ بعضها ببعض نسيئة هي نفس ما نهى عنه رسول الله ﷺ من بيع الدراهم بالدنانير نسيئة.
وهذا النهي إنما صدر من الشارع الحكيم الذي ﴿عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١٢٨﴾ [التوبة: 128]. ولم ينه عن مثل هذا الشيء إلا ومضرته واضحة ومفسدته راجحة، وإن لم تظهر مضرته في الحال فإنها ستظهر على كل حال كما قيل:
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله
ويتلو كتاب الله في كل مشهد
وإن قال في يوم مقالة غائب
فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد
إن صاحب الدراهم كصاحب البنك وغيره متى انفتح له باب الطمع في بيعها إلى أجل ثم يجري المراباة بها فإنه يتحصل على الزيادة بطريق الربا بدون تعب ولا مشقة ولا رضى من المدين، فيفضي إلى انقطاع الإرفاق الذي شرعه الله بقوله: ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسۡرَةٖ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيۡسَرَةٖ﴾ [البقرة: 280]. لأن الناس متى انفتح لهم باب استدانة النقود فإنه يسهل عليهم استدانتها عند أدنى سبب، فتتراكم الديون على الشخص من حيث لا يحتسب، فيقع أولاً في ربا الفضل ثم يقوده إلى ربا النسيئة، والعاقبة إلزامه بالمأثم والمغرم الذي استعاذ منه النبي ﷺ كما في الحديث عن عائشة أم المؤمنين قالت: كان رسول الله ﷺ يقول في دبر الصلاة: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ». فقلت: يا رسول الله ما أكثر ما تستعيذ به من المأثم والمغرم. فقال: «إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ أَثِمَ، وَحَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ»[183].
وإن المشاهدة في الحاضرين هي أكبر شاهد لتصديق نصوص الدين، فقد رأينا الذين انتهكوا حرمة هذا النهي فاستباحوا استدانة النقود من البنوك نسيئة بلا مبالاة لقصد التوسع في التجارات أو شراء الأراضي والعقارات أو الدخول في الشركات، رأيناهم يجرون الويلات على إثر الويلات من جراء أضرار المراباة، وقد يعرض لهم ما يفاجئهم من كساد التجارات وعدم نفاقها في سائر الأوقات.
أضف إليه ما قد يعرض لهم من حوادث الزمان، كإثارة الحروب أو الحريق وغيرها مما يؤذن بالكساد والركود، فتضاعف عليهم البنوك الأرباح بطريق المراباة على سبيل التدريج حتى يعجزوا عن وفاء ما عليهم من الديون، فتستأصل البنوك حواصل ما بأيديهم من الأموال أو العقارات. وصدق الله العظيم: ﴿يَمۡحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ وَيُرۡبِي ٱلصَّدَقَٰتِ﴾ [البقرة: 276]. فترابي البنوك عليهم وهم نائمون على فرشهم.
لأن البنوك الآن تعامل الناس بربا النسيئة الذي هو ربا الجاهلية الذي حرمه الإسلام ونزل في الزجر عنه كثير من آيات القرآن. وحقيقته: أنه متى حل الدين وعجز عن الوفاء زادوا في الربح ومدوا في الأجل، فترابي بالدين وبربحه حتى يصير القليل كثيرًا، ولهذا يكفر مستحل هذا الربا عند جمهور العلماء.
وقد حَمى النبي ﷺ هذا الحمى، وسد الطرق التي تفضي إليه، وحذر أشد الحذر من مقاربته رحمة منه بأمته، ولا يجني جان إلا على نفسه وكل امرئ بما كسب رهين.
لقد ورد في الكتاب والسنة من النهي والزجر والتحذير والوعيد الشديد عن جريمة الربا ما لا يرد في غيره من كبائر المنكرات... فمنها قوله سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُواْ ٱلرِّبَوٰٓاْ أَضۡعَٰفٗا مُّضَٰعَفَةٗۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ١٣٠ وَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِيٓ أُعِدَّتۡ لِلۡكَٰفِرِينَ ١٣١ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ ١٣٢﴾ [آل عمران: 130-132].
ففي هذه الآية من الزجر والتقريع ما لا يخفى، وأكل الربا أضعافًا مضاعفة هو أن يعامل به كل أحد فيرابي بأصل الدين وبالربح.
فأمر الله المؤمنين بتقواه، وأن ينتهوا عما حرم الله، ويطيعوا الله ورسوله في امتثال الأمر واجتناب النهي.. ثم ذكر سبحانه صفة أعمال المرابين فقال: ﴿ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡبَيۡعُ مِثۡلُ ٱلرِّبَوٰاْۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۖ وَمَنۡ عَادَ فَأُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ ٢٧٥﴾ [البقرة: 275]. ففي هذه الآية بيان بفساد سيرة المرابين وسوء سريرتهم، وأنهم كالمجانين في كسبهم بالربا وعدم تورعهم منه، لكون الحلال هو ما حل بأيديهم والحرام هو ما حُرِموه، ثم هم يتحايلون على إباحته بدعوى إنما البيع مثل الربا فيرتكبون ما ارتكبت اليهود فيستحلون محارم الله بأدنى الحيل.
ثم عرض سبحانه على هذا المرابي عرض صلح وإصلاح، وأنه متى جاءته موعظة من ربه أو من نبيه تردعه عن هذا الردى فقبلها وتاب إلى الله من سوء عمله ومعاملته فإننا لا نقول له: اخرج من مالك كله وإنما يقول الله: ﴿فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ﴾ [البقرة: 275]. من معاملته وأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه.
فمتى أسلم شخص مراب وجب عليه أن يستأنف أمره بتحسين عمله، فإن كان له ديون عند شخص أو أشخاص وجب أن يتخلى عن الربا منها أي الزيادة على رأس المال بإسقاطه، لاعتبار أنه ملك الغير، ومثله ما لو قبض نقودًا معلومة من شخص أو أشخاص يعرفهم، فإنه يجب عليه أن يرد الزيادة التي قبضها التي هي الربا الزائد على رأس المال لقول الله تعالى: ﴿وَإِن تُبۡتُمۡ فَلَكُمۡ رُءُوسُ أَمۡوَٰلِكُمۡ لَا تَظۡلِمُونَ وَلَا تُظۡلَمُونَ ٢٧٩﴾ [البقرة: 279]. وهذا معنى قول النبيﷺ: «إِنَّ أَوَّلَ رِبًا أَضَعُ رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ»[184] يعني بذلك إسقاط الزيادة الحاصلة بالمراباة. ومثله صاحب البنك متى كان يعامل الناس بالربا وبالبيع المباح ثم تاب من تعاطي الربا، فإنه يجب عليه التخلي عن الزيادات الربوية بإسقاطها ورد ما أخذه منها إلى صاحبه، وما جهله مما طال عليه الزمان فإنه يتوب إلى الله ويكثر من الصدقة وله ما سلف وأمره إلى الله.
وأما من عاد إلى معاملته بالربا وأصر على معصيته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
ثم أخبر سبحانه بسوء عاقبة الربا وأن مصيره إلى قلته وإلى انتزاع بركته من يد صاحبه أو من يد ورثته مهما طال الزمان أو قصر، إذ إن الفشل ومَحْق الرزق مقرون به. فقال سبحانه: ﴿يَمۡحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ وَيُرۡبِي ٱلصَّدَقَٰتِ﴾ [البقرة: 276]. وكل مال اكتسب من ربا فهو حرام.
ثم أعلن سبحانه الحرب على المرابين، فقال: ﴿فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ﴾ أي ولم تنتهوا عن التعامل بالربا وعن أكله أضعافًا مضاعفة ﴿فَأۡذَنُواْ بِحَرۡبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ﴾ [البقرة: 279]. لاعتبار أن المرابي عدو لله ومن ذا الذي يطيق غضب الله ومحاربته... لهذا قلنا: إنه لم يرد في جريمة من كبائر الذنوب أشد مما ورد في جريمة الربا.
لهذا عده رسول الله ﷺ من الموبقات التي توبق صاحبها في الإثم ثم توبقه في النار، ولعن آكل الربا وموكله. لقد حرم الله الربا رحمة منه بعباده، ولا يحرم شيئًا إلا ومضرته واضحة ومفسدته راجحة، فهو أشد تحريمًا من الزنا وشرب الخمر سواء فعله لضرورة أو لغير ضرورة، لكونه لو قيل بإباحته للضرورة لسهل على الناس تعاطيه بحجة الضرورة، إذ كل أحد سيعرض له في حال حياته وماله شيء من الضرورة.
والنبي ﷺ خطب الناس بعرفة في حجة الوداع قبل موته بثلاثة أشهر فقال في خطبته: «أَلَا وَإِنَّ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ مِنْ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ»[185] مع العلم أن الناس في ذلك الزمان في غاية الحاجة والضرورة والفقر، ولم يبح تعاطيه لأحد. ﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا ٢ وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُ﴾ [الطلاق: 2-3].
﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مِنۡ أَمۡرِهِۦ يُسۡرٗا ٤﴾ [الطلاق: 4]. فلا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل.
فإيَّاك إيَّاك الربا فَلَدِرهَم
أشَدُّ عِقابًا من زِنَاكَ بِنُهَّدِ
وتمحقُ أموالُ الرباء وإن نَمتْ
ويربو قليلُ الحِلِّ في صدق موعد
وقد حدث في هذا الزمان في خاصة بعض البلدان بيوع مبتدعة تؤذن بالإفلاس وشر العواقب، ويسمونها البورصة، وهي حقيقة في القمار بلا شك وأكل للمال بالباطل، وأول من ابتدعها في المنطقة هم أهل الكويت، ثم سرت بطريق العدوى والتقليد الأعمى إلى بعض البلدان المجاورة. وحقيقتها أنهم يتعاملون في أشياء لا حقيقة لوجودها، كعدد كثير من الذهب وعدد كثير من الفضة وهو لا يوجد شيء منهما بين أيديهم، وكذا أو كذا من النحاس والملايين من جنيهات الذهب والملايين من الدولارات والملايين من الجنيه الإسترليني وأسهم شركات لا وجود لها، وكذا الأسهم من شركات متنوعة لم تنشأ بعد، وإنما يحققونها في الأذهان دون الأعيان، ويُقوون عزم الناس في التبايع بهذه الأشياء التي لا وجود لها بقولهم: مدار البيع على الثقة، يريدون من هذه الكلمة عدم التفكر في أصل هذا البيع، لعلم الجميع أنه لا وجود له وإنما يحققونه في الأذهان دون الأعيان. ثم يأخذ من بيده شيء من هذه الأسهم أو من هذه الأوراق النقدية النيطان فيه فيعرضها للسوم ويبيعها، ثم يقع التناوب فيها بالبيع من واحد إلى آخر، وكل هذا حرام، وكسبه حرام، لكونه غررًا ومجهولاً. ومنه نقود الذهب والفضة الني يجب فيه الحلول والتقابض عند البيع.
وحدثني أحد التجار أنه قال لأحد المتبايعين فيها: ما هذا التبايع الذي أرى أنه لا أصل له، لعدم وجود شيء منه في الحاضر؟ فأجابه بقوله: إننا نخرج من بيوتنا ونترك عقولنا في البيوت، ثم نخرج إلى سوق المناخ فنتعامل بلا عقول. فهذا الرجل حكى صفة الحال من هذا التبايع الحرام وقد وقعوا في ما نهى الله عنه بقوله سبحانه: ﴿وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ١٨٨﴾ [البقرة: 188]. ومن صفة الحرام أنه معقود به مَحْقُ الرزق وانتزاع البركة ﴿يَمۡحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ وَيُرۡبِي ٱلصَّدَقَٰتِ﴾ [البقرة: 276]. وكل مال أخذ من طريق الربا فهو حرام، وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رَوْعِي أَنَّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ، وَدَعُوا مَا حَرُمَ، وَلَا يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ عَلَى أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَا يُسْخِطُ اللهَ، فَإِنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ لَا يُنَالُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ»[186].
وهذا التبايع في الأسهم التي لا وجود لأصلها، وفي الأوراق النقدية بحيث تدور بين الناس من واحد إلى آخر حرام. والنبي ﷺ نهى عن بيع الذهب بالفضة إلا يدًا بيد، وحتى الموزونات التي تشترى جزافًا فقد كان الصحابة يضربون من يبيعها حتى يحوزها إلى رحله، فما بالك بالنقود التي نهى رسول الله ﷺ عن بيع بعضها ببعض نسيئة: فقال: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا غَائِبًا مِنْهَا بِنَاجِزٍ»[187]. فما بالك بهذا التبايع الذي يتعاطاه الناس بالنقود بمجرد الأذهان دون الأعيان فإنها أشد تحريمًا.
وقد سبق منا القول بتحريمه، وأنه حرام بلا شك بالكتاب والسنة لأنه ربا وقمار، فإن الذي نهى عنه النبي ﷺ من العقود منه ما يدخل في جنس الربا المحرم في القرآن، ومنه ما يدخل في جنس الميسر الذي هو القمار، وبيع الغرر هو من نوع القمار والميسر، فالأُجرة والثمن إذا كانت غررًا مثل ما يوصف ولم يُر ولم يُعلم جنسه كان ذلك غررًا وقمارًا. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ٩٠ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ فِي ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِ وَيَصُدَّكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ ٩١ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَٱحۡذَرُواْۚ فَإِن تَوَلَّيۡتُمۡ فَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ ٩٢﴾ [المائدة:0-92].
فبدأ سبحانه هذه الآية بدعوة أهل الإيمان الذين يستجيبون لداعي القرآن، وبيّن فيها ما حرم عليهم من الخمر والميسر، وهو القمار، وكونهما رجسًا - والرجس هو النجس الخبيث - وكونهما من عمل الشيطان، ولهذا قال: ﴿فَٱجۡتَنِبُوهُ﴾ فعبر عنهما بالمجانبة وهي المباعدة، كأنه يقول: كونوا في جانب وهما في جانب، لكونهما من عمل الشيطان، فلا يدمن على محبتهما إلا شيطان مثلهما. ثم قال: ﴿لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ٩٠﴾ فعلمنا بهذا أن المتعاطي لهما بعيد عن الفلاح، ساقط في السفه والفساد. ثم قال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ فِي ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِ﴾. وهي واقعة قطعًا، فإن من غلبك فقد غبنك مالك، فتضمر له العداوة والبغضاء، وهي محققة في الخمر بسوء تصرفه وكذلك القمار. ومن الأمر الأكيد كون متعاطيهما لا يتحرك قلبه لفعل الصلاة الواجبة، بل هم في غفلة ساهون، ولهذا ختم هذا النهي بقوله: ﴿فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ ٩١﴾. وقد قال الصحابة: سمعًا وطاعة لله ورسوله قد انتهينا قد انتهينا.
ومن صفة المقامر ما أخبر الله عنه من كونه يصد عن ذكر الله وعن الصلاة، لكون المقامر تنصرف قواه العقلية في الولوع به حتى لا يبقى في قلبه بقية يذكر الله فيها، أو يتنبه لفعل الصلاة رجاء ثوابها والخوف من عقاب تركها، ألسنتهم لاغية وقلوبهم لاهية، ﴿ٱسۡتَحۡوَذَ عَلَيۡهِمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَأَنسَىٰهُمۡ ذِكۡرَ ٱللَّهِۚ أُوْلَٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱلشَّيۡطَٰنِ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ ١٩﴾ [المجادلة: 19]. فوصف سبحانه المتعاطي للقمار بالخسران المبين؛ لأن من صار مغلوبًا في القمار مرة دعاه ذلك إلى اللجاج فيه، برجاء أنه ربما صار غالبًا فيه، وقد يتفق ألا يحصل له ذلك إلى ألا يبقى له شيء من المال فيعود بخسارة الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين، فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم.
ومن مضرات الميسر -أي القمار- أنه يفسد أخلاق الذين يعيشون في التلاعب به، بحيث تتعود أنفسهم الكسل عن السعي في سبل المكاسب المعتادة لانتظارهم الرزق والتجارة من الأسباب الوهمية، فيتركون الزراعة والصناعة والتجارة التي هي أركان العمران.
ومنها -وهو أشهرها- تخريب البيوت فجاءة بالانتقال من الغنى إلى الفقر في ساعة واحدة، فكم من عشيرة كبيرة نشأت في الغنى والعز وانحصرت ثروتها في رجل أضاعها في ليلة واحدة بلعب القمار، فأصبحت غنية وأمست فقيرة لا قدرة لها على أن تعيش على ما تعودت من السعة ولا ما دون ذلك، وقد قيل: ارحموا عزيز قوم ذلّ، وغني قوم افتقر، والله أعلم. وصلى الله على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
* * *
[181] أخرجه أحمد من حديث أبي الدرداء. [182] والأصل فيه ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري قال: استعمل النبي ﷺ رجلاً على خيبر فجاءه بتمر جنيب -أي نوع طيب- فقال رسول الله ﷺ: «حديث أبي سعيد الخدري قال: استعمل النبي » فقال: لا يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والثلاثة. فقال رسول ﷺ: «لَا تَفْعَلْ، بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ». أي: اشتر بالدراهم جنيبًا. [183] متفق عليه من حديث عائشة. [184] أخرجه مسلم من حديث جابر. [185] أخرجه مسلم من حديث جابر. [186] أخرجه هناد في الزهد من حديث عبد الله بن مسعود. [187] أخرجه مالك في الموطأ من حديث أبي سعيد الخدري.