(14) جواز الاقتطاف من المسجد والمقبرة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله، ونصلي ونسلم على رسول الله.
أما بعد:
فإنه من المعروف المألوف عند كل إنسان وفي كل مكان، أن أحوال الناس في البلدان تتطور من حال إلى حال، فتقوى أحيانًا وتضعف أحيانًا، وعلى أثر النماء والقوة تتسع في العمران، فيبدو لها حالات، ويتجدد لها حاجات غير حالاتهم وحاجاتهم في سالف الأزمان؛ لأن الله سبحانه يدبر أمر عباده فيبتليهم أحيانًا بالفقر ونقص الأرزاق، واختلال الأحوال وقلة المال، وأحيانًا يبتليهم ببسط الرزق، وفيض المال واتساع العمران، وكثرة السكان، على حسب ما يعرض لهم من أسباب النمو والفناء والفقر والغناء، ولكل زمان دولة ورجال.
وقد كانت البلدان العربية المتجاورة، وهي المقاطعة الشرقية وبلدان الخليج وعمان، كانت توصف هذه البلدان في قديم الزمان بأنها البلدان العابسة اليابسة قليلة المال سيئة الحال، ومضى اتصافها بذلك أحقابًا من الأزمان يتمتع أهلها بشظف من العيش وقلة من المال، تشبه عيشتهم حالة الصحابة قبل أن يفتح في زمنهم شيء من البلدان، وكانت موارد الثروة عندهم قليلة جدًّا، والعمال عاطلون، وقد يعمل أحدهم اليوم كله بشبع بطنه، وبأجرة زهيدة، وعمدة كسبهم من غياصة البحر لاستخراج اللؤلؤ وهو من أشق الأعمال، وغالب كسبهم منه لا يزيد على قوت سنتهم، وقد يصيب منه بعضهم ويخطئ أكثرهم. لهذا تجد غالبيتهم موقرين من الديون، وعلى أثر هذا الضعف تجد مساكنهم متواضعة في غاية من الرثاثة، مبنية بالطين ومسقفة بالخشب وجريد النخل. أما قلة الغبطة وكساد القيمة في العقارات في هذه البلدان، فلا تسأل عنه، فقد كانت في غاية من السقوط والهوان إلى حد النهاية من أجل كساد غلتها لتلاشي أحوال الناس، وعدم الوجود للنقود، فكانوا يتبايعون البيوت بالعشرات من الريالات والبيوت النفيسة يتبايعونها بالمائة والمائتين من الريالات، وما يباع بمائة ريال في ذلك الزمان، فإنه يباع الآن بما يعادل مائتي ألف وثلاثمائة ألف ريال.
وهذا الضعف والكساد قد استمر بهم إلى نهاية الستين والثلاثمائة وألف هجرية، وعلى هذا الضعف إذا مات أحدهم دفنوه بالقرب من البلد أو بالقرب من بيته؛ لهذا تجد المقابر في هذه القرى متوزعة في كل جهة، غير محتازة في مكان واحد، ويكون في البلدة الصغيرة عشر مقابر وعشرون مقبرة؛ لرخص مساحة الأرض في نفوسهم، وضعف أملهم في نفاستها، مع قصر نظرهم عن وسائل الصحة، وعمل الوقاية الذي يتطلب منهم إبعاد المقبرة عن الأحياء إلى حالة أن بعض البلدان تجد فيها المقبرة متصلة بسوق البلد بدون حائل، والسوق هو موضع زحمة الناس واجتماعهم وبيعهم وشرائهم، وإنما سمي سوقًا من أجل أن الناس يقفون فيه على سوقهم.
وكانت طرقهم مجانسة لحالة بيوتهم، ضيقة ملتوية على قدر ما يجوزها البعير والحمار، لكون وسائل النقل للأحمال والأثقال مقصورة على البعير والحمار، فاستمر عملهم طيلة السنين على هذا الصنيع، لا ينظرون إلى سعة طريق ولا إلى إزالة وسائل التعويق.
وفي عام الستين بعد الثلاثمائة وألف هجرية، الموافق لعام اثنين وأربعين وتسعمائة وألف ميلادية، بدأت حركة نشاط هذه البلدان ببدء نجاح استنباط البترول فيها، وهو كما يعرفه الناس بأنه عظيم الشأن والموصوف بالذهب الأسود في لسان كل إنسان، فارتفع به ضعف هذه البلدان، وتوافد إليها العمال والصناع والسكان من كل مكان، فاتسع بها العمران وبدأ بها تنظيم الشوارع والبنيان، وتوفرت بها وسائل الراحة والرفاهية لكل إنسان، من إدخال الماء والكهرباء في بيوت الخاص والعام، وهذا يعد من الفتح لزهرة الدنيا وزينتها، وفيه ما فيه من المنافع والمضار، كما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الأَرْضِ». قيل: وما بركات الأرض؟ قال: «زَهْرَةُ الدُّنْيَا». فقال له رجل: هل يأتي الخير بالشر يا رسول الله؟ فصمت رسول الله حتى ظننت أنه سينزل عليه، ثم جعل يمسح عن جبينه، ثم قال: «أين السائل؟» قال: أنا. قال: «إِنَّهُ لَا يَأْتِي الْخَيْرُ إِلَّا بِالْخَيْرِ، وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، وَإِنَّ مَا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرَ، أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امتلأت خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتِ الشَّمْسَ، فَاجْتَرَّتْ وَثَلَطَتْ وَبَالَتْ ثُمَّ عَادَتْ فَأَكَلَتْ، وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، مَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ وَوَضَعَهُ فِي حَقِّهِ فَنِعْمَ الْمَعُونَةُ هُوَ، وَإِنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ، وَلَا يَشْبَعُ».
ففي هذا الحديث خاف النبي ﷺ على أمته مما يخرج الله لهم من بركات الأرض وزينتها، فسماه بركة وخيرًا وخاف على أمته منه، فالمال خير إذا استعمل في سبيل ما خلق لأجله، بأن أخذه من حقه وصرفه في حقه واستعان به على طاعة ربه وتمتع به إلى ما هو خير منه في آخرته، فيكون في حقه حسنات ورفع درجات في الجنات، فقد ذهب أهل الدثور بالأجور ورفيع الدرجات، ويكون شرًّا في حق من يأخذه من غير حقه ويصرفه في غير حقه ويمنع الحق الواجب لله فيه، من زكاة وصدقة وصلة، فالفعل السيئ فيه هو الذي يجعله شرًّا وإلا فإنه خير وبركة وزينة، يقول الله تعالى: ﴿قُلۡ مَنۡ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيٓ أَخۡرَجَ لِعِبَادِهِۦ وَٱلطَّيِّبَٰتِ مِنَ ٱلرِّزۡقِۚ قُلۡ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا خَالِصَةٗ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ﴾ [الأعراف: 32].
فكل ما خلق الله في الدنيا من صنوف الذهب والفضة والمعادن الخامدة والسيالة والجواهر والحيوانات وأصناف الثمرات، وسائر الفواكه والخيرات، كل هذه خلقها الله كرامة ونعمة لابن آدم، يتنعم بها في دنياه ويتمتع بها إلى ما هو خير منها لآخرته، ﴿كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥ﴾ [سبأ: 15]. ﴿فَٱبۡتَغُواْ عِندَ ٱللَّهِ ٱلرِّزۡقَ وَٱعۡبُدُوهُ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥٓ﴾ [العنكبوت: 17]. ﴿كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ وَلَا تَطۡغَوۡاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيۡكُمۡ غَضَبِيۖ وَمَن يَحۡلِلۡ عَلَيۡهِ غَضَبِي فَقَدۡ هَوَىٰ ٨١﴾ [طه: 81]. فأمر الله عباده بالأكل من طيبات ما رزقهم وحذرهم من الطغيان فيه، وهو مجاوزة الحد في الكفر والفسوق والعصيان، بأن يستعينوا بنعم الله على معاصيه، أو يستعملوها في سبيل ما يسخطه ولا يرضيه، فكل ما تسمعونه في القرآن أو في الحديث، من ذم الدنيا أو ذم المال، فإنما يقصد به ذم أفعال الناس السيئة فيه؛ لأن أفعال الناس في الدنيا تقع غالبًا على الأمر المكروه أو الأمر الحرام، من أكلهم الربا وشربهم الخمور وتوسعهم في أعمال الفجور والشرور.
فالذم ينصرف إلى هذه الأعمال لا إلى نفس المال. وحيث وجد هذا الثراءُ الطائل في مكان، فإنه المعشوق المرموق مغناطيس النفوس، ومن ضرورة وجوده يتطلب المراكب والآلات التي تحمله وتسيره، لكون إبل العرب أصبحت لا تطيق حمل ثروتهم، فاحتاجوا إلى جلب آلات الحديد من قطارات وسيارات وحفارات وتراكتورات وسائر الآلات والأدوات، وكل سوق فإنه يجلب إليه ما نفق فيه.
لهذا السبب غزت الحضارة الغربية هذه البلدان العربية، بعددها وعددها وحديدها ومراكبها المعدة لحمل الأثقال والتي تشبه في ضخامتها وعظمتها القصور، وهذه المراكب تحتاج بطبيعة الحال إلى طرق واسعة ومساحات فسيحة تلائمها، وتأمن الاصطدام بما يسايرها من أمثالها ومن يلقاها معاكسًا لسيرها، كما يأمن الناس من أضرارها، على أن الطرق الواسعة أصبحت من ضروريات السكان ومن مصالح الخاص والعام، كما أنها من مفاخر البلدان، والله جميل يحب الجمال، وهذه الأشياء التي عادت من ضروريات هذا الزمان ما كان الناس يحتاجون إليها في سالف الأزمان، وقد قيل: «إن الحاجات هي أم الاختراعات وإن الضروريات تستدعي التسهيلات». لهذا صار من مفاخر الحضارة والمدنية فتح الشوارع الواسعة المتخللة للبلد وخارجها لكون حكمة تخطيط الشوارع وصلبها واتساعها وتسهيل السير عليها، هي من لوازم الحضارة للسكان. ولقد كان لسلفنا الصالح من الخلفاء الراشدين والصحابة المهديين الحظ الوافر والسبق الطائل إلى هذا الشأن، فقاموا بتنظيمه أتم قيام.
من ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمّا عزم على تخطيط الكوفة وكان سببها على ما ذكر ابن جرير في التاريخ ج 4 ص189، أن المسلمين لمّا فتحوا المدائن وسكنوها استوخموها، فنحفت أجسامهم وتغيرت ألوانهم وكبرت بطونهم وآذاهم الغبار والذباب، فكتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر يخبره بذلك، فكتب إليه عمر وقال: إن العرب لا يصلح لهم المكان إلا ما صلح للبعير والشاء، فارتد لهم منزلاً بريًّا بحريًّا ليس بيني وبينكم بحر ولا جسر. فبعث سعد حذيفة وسلمان بن زياد يرتادان للمسلمين منزلا مناسبًا، فمرا على أرض الكوفة وهي حصباءُ في رملة حمراء فأعجبتهما وكتبا إلى سعد يخبرانه بذلك، فسار إليها سعد بنفسه في أول شهر المحرم سنة سبع عشرة من الهجرة فنظر إليها فأعجبته، فكان أول ما بدأ به تأسيس المسجد، وأمر سعد رجلاً راميًا شديد الرمي فرمى من المسجد إلى أربع الجهات، وحيث سقط سهمه بنى الناس منازلهم، وأذن لهم سعد بأن يعمروا بيوتهم ويدعوا للطريق المنهج سعة أربعين ذراعًا، وللطريق الذي دون ذلك ثلاثين ذراعًا، وللطريق الصغير عشرين ذراعًا، وللأزقة سبعة أذرع، والقطائع أي الأراضي التي تجعل بيوتًا ستين ذراعًا، وجعل المسجد مائتي ذراع. وذكر ابن كثير في البداية والنهاية نحو ذلك.
وقبل هذا بسنتين أي عام 15 هجريًّا أرسل عمر بن الخطاب عتبة بن غزوان لتخطيط البصرة، وأرسل معه عبد الرحمن بن أبي بكرة، وزياد بن أبيه، وأمره أن يخططها، فعمل تخطيطها، وكانت أرضًا ذات حجارة غليظة، فأجرى التخطيط فيها على نحو ذلك، وكان أول من غرس فيها النخل عبد الرحمن بن أبي بكرة ولم يسبقه إلى ذلك أحد، ذكره صاحب معجم البلدان.
فهذا مشروع عمل الصحابة في تنظيم البلدان وتخطيط الطرق قبل أن يوجد في زمنهم شيء من القطارات أو السيارات أو الآلات الضخمة، كما يوجد في هذا الزمان، لكنهم ينظرون برأي الحزم وفعل أولي العزم إلى ما عسى أن يقع بعد ألف عام كنظرهم إلى وقت الآن؛ لعلمهم أن للإسلام الاعتناء التام بتنظيم البلدان وفتح الطرق الواسعة وتنظيفها، إلى حالة أن إماطة الأذى عن الطريق يعد من شعب الإيمان، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح، والله جميل يحب الجمال، طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، فنظفوا أفنيتكم. أي طرقكم.
هذا وإن تنظيم البلدان بالعدل وتنظيفها عن الظلم هو أكبر ما يهتم به الإسلام ويوصي به الخاص والعام، لكون الظلم والعدوان مؤذنًا بخراب العمران ونفرة السكان؛ لأنه متى حصل على الناس الاعتداء في أموالهم بأخذها وعدم أداء ثمنها، فإنهم بذلك تضعف آمالهم وتنقبض أيديهم عن السعي والكسب وجلب الحاجات والتوسع في التجارات، لعدم الثقة وضعف الأمل في الوفاء بالعقد، فيكسد السوق من أجل ذلك؛ لأن استقرار العمران ووفرة السكان ونفاق أسواق البلدان إنما هو بالثقة والأمانة والاطمئنان، وعمل الوسائل في تسهيل موارد الثروة والتجارة ومصادرها، والمسلم إذا دخل مع صاحبه في عقد بيع وشراء عرف أنه قد دخل معه في عهد وأمانة، والله يأمر بالوفاء بالعقود وأداء الأمانات إلى أهلها، كما في الصحيح عن حذيفة بن اليمان أنه قال: لقد مضى علي زمان لا أبالي أي الناس بايعت؛ إن كان مسلمًا رد مالي إلى دينه - أي ثمن ما يشتريه - وإن كان يهوديًّا أو نصرانيًّا رده إلي ساعيه.[165] أي السلطان عليه، وذلك لوجود الثقة والأمانة وقوة الوازع، ومتى فقدت الثقة والأمانة من البلد كسدت أسواقها وانتقضت أحوالها وآذنت بخرابها ولو بعد حين. وكتب رجل إلى عمر بن عبد العزيز يشكو إليه خراب بلده ويطلب منه مالاً يعمرها به، فكتب إليه: أما بعد، فقد كتبت إلي تذكر خراب بلدك وتطلب مالاً تعمرها به، فإذا أتاك كتابي هذا فخطها بالعدل ونق طرقها من الظلم، فإنه عمارها، والسلام.
وأما عثمان بن عفان، فإنه لمّا أراد أن يوسع في المسجد النبوي، حيث ضاق بالناس، فعزم على أخذ البيوت المجاورة له، حسب ما تبلغ من أثمانها، فامتنع بعض الناس عن الموافقة عن بيع بيوتهم، فألزمهم بالموافقة ووضع أثمانها في بيت المال، وأشهد عليها الصحابة، ثم هدمها كرهًا، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، لكون المضار الجزئية تغتفر في جنب المصالح العمومية، ولأن المدينة بما فيها من المساجد والطرق موضوعة لعموم الناس لا للخواص، فمتى شذ أحد عن الموافقة لفساد طبعه أو سوء طمعه ألزم بالموافقة، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب لاعتباره من المصالح المرسلة الملائمة لمقاصد الشرع وأحكامه.
كما قضى رسول الله ﷺ بانتزاع الشقص المشفوع من يد مشتريه بثمنه لمصلحة الجار ودفع ضرره، فما بالك بمصلحة عموم الناس ودفع الضرر عنهم. ولمّا اشتكى رجل من الأنصار إلى رسول الله ﷺ وقال: إن لأبي لبابة نخلة في حائطي، وإنه يدخل علي وأنا غافل مع أهلي، وطلبتها منه بالثمن وامتنع عني، فدعا رسول الله أبا لبابة، وقال: «بعه هذه النخلة بنخلة مثلها». قال: لا. قال: «بنخلتين؟» قال: لا، فقال رسول الله ﷺ: «اذهب فأخرج له نخلة مثل نخلته مما تلي حائطه، واضرب فوق ذلك بجدار فإنه لا ضرر في الإسلام ولا ضرار»[166].
والحاصل أن دين الإسلام مبني على جب المصالح ودفع المضار، وأنه له النظر العالي في هذا الشأن، لأنه ليس بحرج ولا إغلال، ولا عقبة كؤود دون الإصلاح والكمال، فلا يمنع أهله من الحضارة ولا التجول في التجارة المباحة، لأن الإسلام عدل الله في أرضه، ورحمته لعباده، لم يشرعه إلا لسعادة البشر في أمورهم الروحية والجسدية والاجتماعية.
وإنما تضيع مصالحه وتختفي محاسنه بين الجاحد والجامد، وإلا فإنه صالح لكل زمان ومكان، قد نظم حياة الناس أحسن نظام.
ذلك بأنها لمّا انتشرت الفتوح الإسلامية وامتد سلطان المسلمين على الأقطار الأجنبية، لم يقصروا نفوسهم على استلذاذ الترف، ورخاء العيش وتزويق الأبنية فحسب، بل عكفوا جادين على تمهيد قواعد الدين وهدم قواعد الملحدين، وترقية العلوم الإسلامية، ونشر اللغة العربية، وتعميم الأحكام الشرعية، فاستنبطوا الأحكام وبينوا للناس الحلال والحرام، وكشفوا عن قلوبهم سجوف البدع والضلال والأوهام، فرقت حضارة الإسلام رقيًّا عظيمًا لا يماثل ولا يضاهى ولا يضام، فاختطوا المدن وأنشأوا المساجد ونشروا العلوم والمعارف، وأزالوا المنكرات والخبائث، فأوجدوا حضارة نظرية جمعت بين الدين والدنيا، أسسوا قواعدها على الطاعة فدامت لهم بقوة الاستطاعة، وغرسوا فيها الأعمال البارة فأينعت لهم بالأرزاق الدارة، أمدهم الله بالمال والبنين وجعلهم أكثر أهل الأرض نفيرًا.
والمقصود أن الناس العام منهم والخاص، قد استقر في نفوسهم استحسان فتح هذه الطرق وتوسعتها، وقد عرفوا تمام المعرفة عموم مصلحتها، وذاقوا حلاوة منفعتها، ولأجله استسلموا لهدم ما يعرض لها من عقارات رفيعة أو وضيعة، يبقى النظر في المواضع المحترمة، مثل المسجد والمقبرة متى صمد الطريق إليهما أو إلى أحدهما والتي يتعاظم الناس التصرف فيها بهدمها، ومسؤولية البيان وعدم الكتمان مطلوب من كل عالم، ولا يذهب العلم حتى يكون مكتومًا. وقد قلنا: إن دين الإسلام مبني على جلب المصالح ودفع المضار، وإنه صالح لكل زمان ومكان، وقد نظم حياة الناس أحسن نظام بطريق العدل والإصلاح والإتقان، ونحن لا نذكر في هذا المقام شيئًا إلا مرفقًا بدليله، حسب مبلغ علمنا، ولا علم لنا إلا ما علمنا ربنا، وقد يخفى علينا ما قد يظهر لغيرنا، ﴿وَفَوۡقَ كُلِّ ذِي عِلۡمٍ عَلِيمٞ ٧٦﴾ [يوسف: 76].
* * *
[165] متفق عليه من حديث حذيفة بن اليمان. [166] أخرجه أبو داود في المراسيل من حديث واسع بن حَبان.