الرُّوح وما يتعَلّق بهَا
اختلف العلماء في عذاب القبر، هل هو على الجسم والروح أو على الروح فقط، ورجحوا كونه على الجسم والروح وأن الجسم يفنى حتى يصير ترابًا، ولسنا من الفكرة التي يحكيها بعض أهل الكلام من قولهم: إن تراب الأرض متكوّن من أجسام الموتى، وأنشدوا في ذلك:
رويدًا بأخفاف المطي فإنما
تداس جباه في الثرى وخدود
فإن هذه الفكرة لا يوافقها العقل ولا يصدقها النقل. والقول الصحيح هو أن الروح تبقى بعد مفارقتها للبدن منعمة أو معذبة، فهي من الأشياء التي لا يعتريها الفناء، وقد نظمها بعضهم فقال:
ثمانية حكم البقاء يعمها
من الخلق والباقون في حيز العدم
هي العرش والكرسي نار وجنة
وعجب وأرواح كذا اللوح والقلم
وأشار بالعجب إلى عجب الذنب كما في الصحيح أن النبي ﷺ قال: «يَبْلَى مِنِ ابْنِ آدَمَ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا عَجَبُ الذَّنَبِ»[173]. وهو قدر الذرة. ومعنى يبلى، أي يذهب ويضمحل، وقد أخبر الله عن الشهداء بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وهذه حياة أرواح غيبية، يفسرها ما روى الإمام أحمد عن ابن عباس، قال: قال رسول الله ﷺ: «إِنَّهُ لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ، وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ، فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَأْكَلِهِمْ وَمَشْرَبِهِمْ، وَحُسْنَ مَقِيلِهِمْ، قَالُوْا: يَا لَيْتَ إخواننا الأحياء يَعْلَمُوْنَ مَا صَنَعَ اللهُ بِنَا، لِئَلَّا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ، وَلَا يَنْكُلُوا عَنِ الْحَرْبِ؟ فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ، وَأَنْزَلَ اللهُ: ﴿وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ ١٦٩ فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ وَيَسۡتَبۡشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمۡ يَلۡحَقُواْ بِهِم مِّنۡ خَلۡفِهِمۡ أَلَّا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ ١٧٠﴾ [آل عمران: 169-170].
قال ابن كثير في التفسير: وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثًا فيه البشارة لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة تسرح فيها وتأكل من ثمارها، وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة أهل المذاهب المتبعة، فإن الإمام أحمد رحمه الله رواه عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي، عن مالك بن أنس، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب، عن أبيه كعب بن مالك رضي الله عنهم قال: قال رسول الله ﷺ: «نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ يَعْلُقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ»، ومعنى يعلق أي يأكل. وأشار إلى بقاء الروح لأنها الأصل في الإنسان لا في حياته ولا بعد موته، أما البدن فإنه يذهب ويضمحل حتى يصير ترابًا إلى أن ينشئه الله خلقًا جديدًا حين يبعثه.
أما الأرواح فإنها تبقى كما ثبتت في حديث الإسراء أن النبي ﷺ صلى بالأنبياء، وهو إنما صلى بأرواحهم وإلا فإن أجسامهم بالأرض ما عدا عيسى عليه السلام. وكذلك المراجعة الحاصلة بين النبي ﷺ وبين موسى عليه السلام ليلة الإسراء إنما هي بينه وبين روح موسى، ويلتحق بهذا ما ورد من عرض أعمال الأحياء على الأموات، وكونهم يسرهم ما كان حسنًا ويسوؤهم ما كان قبيحًا، وكان أبو الدرداء يقول: اللهم إني أعوذ بك أن أعمل عملا أخزى به عند عبد الله بن رواحة[174]، وكان عمه، فهذا العرض ونحوه هو عرض الأعمال على الأرواح لا على القبور، ومنه ما ورد في الصحيح أن النبي ﷺ قال: «أَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ»[175]، وقال: «لَا تَتَّخِذُوْا قَبْرِي عِيدًا، وَلَا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي أين كُنْتُمْ»[176]. فمن يصلي ويسلم على رسول الله بحافة قبره الشريف ومن يصلي عليه في أقصى بقاع الأرض هما في التبليغ سواء، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد.
ومن الدليل على بقاء الأرواح وتخاطب أرواح الموتى مع الأحياء وإحساس كل منهما بالآخر ما يراه الإنسان في منامه من تخاطبه مع الأموات ويرى الرؤيا الصادقة ثم تأتي كفلق الصبح، لهذا يصبح مسرورًا حينما يرى أن أحدًا من الموتى أو الأحياء قد بشره بخبر أو أعطاه خيرًا، وهذه هي عاجل بشرى المؤمن، وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «ذَهَبَتِ النُّبُوَّاتُ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْمُبَشِّرَاتُ». قالوا: ما المبشرات؟ قال: «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، يَرَاهَا الرَّجُلُ، أَوْ تُرَى لَهُ»[177]. وهذه الرؤيا الصادقة هي بمثابة الأنموذج لالتقاء أرواح الأحياء بالأموات وإحساس كل منهما بصاحبه، وقد سمى الله النوم وفاة في قوله: ﴿ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلۡأَنفُسَ حِينَ مَوۡتِهَا وَٱلَّتِي لَمۡ تَمُتۡ فِي مَنَامِهَاۖ فَيُمۡسِكُ ٱلَّتِي قَضَىٰ عَلَيۡهَا ٱلۡمَوۡتَ وَيُرۡسِلُ ٱلۡأُخۡرَىٰٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمًّى﴾ [الزمر: 42].
ولا ينبغي لنا أن نتكلف الزيادة على هذا فيما يتعلق بأرواح الموتى والتقائها بأرواح الأحياء؛ لأن الأرواح بمثابة الخيل تتشام في الهوى. أما مشروعية السلام على القبور، فقد ثبت أن النبي ﷺ قال: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا، فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمِ الْآخِرَةَ».[178] وفي رواية: «تزهدكم في الدنيا»، فرؤية القبر تذكر بساكنه، وإن كان قد اضمحل جسمه حتى صار ترابًا، فرسول الله قد زار قبور أصحابه للدعاء والاستغفار لهم، قال العلامة ابن القيم رحمه الله في الهدي: كان رسول الله ﷺ إذا زار قبور أصحابه إنما يزورها للدعاء لهم والترحم عليهم والاستغفار لهم، وأمرهم أن يقولوا: «السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ، نَسْأَلُ اللهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ».[179] وكان يقول ويفعل عند زيارتها من جنس ما يفعل عند الصلاة عليها. فقوله: «السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ» هو دعاء لهم بالسلامة والعافية من العذاب؛ لأن السلام دعاء بالسلامة، نظيره قول المصلي في التشهد: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وهي تشمل كل عبد صالح حي أو ميت، والسلام على رسول الله دعاء له، مع أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ﴿رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا وَلِإِخۡوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَا تَجۡعَلۡ فِي قُلُوبِنَا غِلّٗا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٞ رَّحِيمٌ ١٠﴾ [الحشر: 10]. والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
والحمد لله رب العالمين حرر في الحادي عشر من شوال لعام 1393هـ.
[173] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [174] ذكره صاحب إحياء علوم الدين. [175] أخرجه أبو داود من حديث أوس بن أوس. [176] أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة. [177] أخرجه الطبراني في الكبير من حديث حذيفة بن أسيد. [178] أخرجه الإمام أحمد من حديث علي. [179] أخرجه مسلم من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه.