متقدم

فهرس الكتاب

 

المقابر

قد تقدم الكلام على صفة عمل الناس في المقابر في غابر الأزمان، وأنهم كانوا يدفنون موتاهم بالقرب من بيوتهم، حتى إنك لتجد في القرية الصغيرة عشر مقابر وعشرين مقبرة متخللة لجهات البلد، لهذا كان من الضروري عند تخطيط الشوارع أن يمر الطريق على بعضها، ويتحاشى حكام المسلمين التصرف فيها إلا بالاستناد إلى فتوى عالم أو علماء يتقون بها عذل العوام، والإنحاء بالملام، فقد ثبت في صحيح الآثار وفي السير والأخبار أن رسول الله ﷺ لمّا هاجر إلى المدينة اختار الله لمسجده مكانًا بركت فيه ناقته، وكان مربدًا لرجلين من الأنصار هما: سهل وسهيل، فقال: «ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ». فقالا: لا نطلب ثمنه إلا من الله، بل نهبه لك يا رسول الله، وكان فيه شجر غرقد ونخل وقبور للمشركين، فأمر رسول الله ﷺ بالقبور فنبشت وبالنخل والشجر فقطعت ثم بناه مسجدًا[168]. وهذا أمر ثابت لا مجال للشك في صحته.

لكن قد يظن بعض من سمعه من العلماء أن هذا التصرف من النبي ﷺ في نبش قبور المشركين من هذا المكان أنه من أجل كونهم مشركين، كما يفهم من عبارة بعض الفقهاء، قال في الإقناع للحجاوي: ويجوز نبش قبور المشركين وجعلها مسجدًا، كما فعل رسول الله، والصحيح أن هذا النبش اقتضته الحاجة وعموم المصلحة لا لكونهم مشركين، ولأن القبور لا تجامع المسجد بحال، فقد لعن رسول الله ﷺ زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج، فاقتضى شرعه تطهير هذه البقعة من هذه القبور بنبشها قبل تمهيدها مسجدًا، والمقتضي لذلك هو الحاجة، وعموم المصلحة، وإلا فإن النبي ﷺ لم يتعرض لنبش قبر أحد من المشركين من أجل جريمة شركه، كيف وهؤلاء من مشركي الفترة ولهم حالة غير حالة من بلغته الدعوة، فهذا التصرف يستدل به على جواز نبش القبر أو القبور للحاجة وعموم المصلحة حتى ولو كانت قبورًا للمسلمين، وقد علم الصحابة ذلك وعملوا به في قبور الشهداء الذين هم أشرف المقبورين.

من ذلك أن عين حمزة التي يشرب منها أهل المدينة إنما أحدثها معاوية في خلافته وأمر بنقل الشهداء من موضعها، فصاروا ينبشونهم وهم رطاب لم ينتنوا حتى أصابت المسجات رجل أحدهم فانبعثت دمًا (قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد الأول صفحة 14 من الطبعة القديمة).

وقد اتفق فقهاء المذاهب الأربعة على جواز نبش القبر وتحويله إلى مكان غيره للحاجة، قال في الإقناع للحجاوي: ويجوز نبش الميت لغرض صحيح كتحسين كفنه، ولبقعة خير من بقعته، وإفراده عمن دفن معه. انتهى.

وفي البخاري عن جابر قال: كان أبي أول قتيل قتل يوم أحد، فدفن مع رجل، فلم تطب نفسي حتى أخرجته وجعلته في قبر على حدة، فاستخرجته بعد ستة أشهر فإذا هو كيوم وضعته غير أذنه.

فقولهم: إنه يجوز نبش الميت والموتى لغرض صحيح يدل بمنطوقه على جواز نبشه عندما يعرض لجهة الطريق لكون هذا غرضًا صحيحًا كما هو ظاهر المذهب، إذًا الحاجة إلى استقامة الطريق الذي هو من مصلحة جميع الناس أشد من الحاجة إلى ما ذكروا، والقول بهذا يتمشى على تقدير بقاء عظام الميت أو لحمه، أما إذا ذهبت عظامه وصارت ترابًا فإنه يجوز الانتفاع بالقبر مطلقًا في الحاجة وبدون حاجة، فبعض العلماء قدّره بمائة سنة، والصحيح عدم التقدير بهذا الحد، لكون حالة الميت تختلف باختلاف محل قبره، فبعض المقابر حصينة حارة، يبلى الميت بها بسرعة، وبعض المقابر رملية يبقى الميت فيها مائة سنة، فكونه يبلى إنما يعرف بالمشاهدة.

فإن قيل: إن القبر وقف على الميت لا يجوز التصرف فيه حتى يبلى وتذهب عظامه، قلنا: نعم، فهذا هو الحكم فيه عند عدم الحاجة إليه، لكن متى دعت الحاجة إلى أخذه لسعة الطريق أو توسيع المسجد، جاز ذلك كما فعل الصحابة، كما قلنا: إن بيت المسلم محترم لا يجوز التصرّف فيه بدون إذنه. وكذا المسجد والأوقاف الخيرية والأهلية، ومثله القبر فمتى دعت الحاجة إلى استعمال المقبرة لسعة السوق أو الطريق أو لراحة الأحياء وسلامة أرواحهم، والوقاية من اصطدام السيارات التي هي مراكب الحديد والتي ينجم عنها الضرر والبأس الشديد، فإن هذا جائز شرعًا وعرفًا، كما يخرج الحي عن بيته ويهدم بغير رضاه واختياره، لكون المضار الجزئية تغتفر في ضمن المصالح العمومية، ولأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وكما يجوز هدم المسجد لتوسعة الطريق فهذا أولى بالجواز، لكون حاجة الحي مقدمة على حاجة الميت، كما نص الفقهاء، فمن عنده خرقة يحتاج إليها ميت لتكفينه وحي يستر بها عورته؛ تدفع إلى الحي، أما كون الحي يدفع له التعويض عن بيته بخلاف صاحب القبر فهذا لا يمنع من الفرق؛ إذ الحي محتاج إلى بيت يستر عورته وأهله، بخلاف صاحب القبر، فإنه لا حاجة له بثمن قبره، وإنما حاجته أن تستر عظامه في محل يشبه القبر.

يبقى الكلام فيما إذا كانت الحاجة أو الطريق يستدعي التعرّض لقبور كثيرة، فهل الأولى نبشها ونقل العظام إلى مكان آخر، أو تسطيحها ويبقى الميت على حاله في محله؟

فالجواب أنه من القواعد المقررة جواز ارتكاب أدنى الضررين لدفع أعلاهما، ومن المعلوم أن نبش القبور فيه شيء من البشاعة، بحيث تنفر منه طباع الناس ويعدونه هتكًا لحرمة الميت، أما تسويتها والانتفاع بسطحها، فإنه ألطف وأستر، وأما نبش النبي ﷺ لقبور المشركين فإنه قد أعده مسجدًا فلزم تطهيره من قبورهم، وكذلك الصحابة في قبور الشهداء في إجراء عين حمزة، فإنهم حفروا المجاري فوصلت إلى القبور وهم رطاب لم ينتنوا، فلزم نبشهم ونقلهم إلى مكان آخر، وليس كذلك الطريق حينما يتعرّض للقبور، فإن استبقاء الميت على حاله في محله مع الانتفاع بسطح قبره لا يضر بكرامته ولا يهتك حرمته، وفيه الجمع بين مصلحة الحي والميت، وغاية ما يمنعه هو الأحاديث الواردة في النهي عن القعود على القبر والوطء عليه، كما روى مسلم قال: نهى رسول الله ﷺ أن يجصص القبر أو يقعد عليه أو يبنى عليه[169]. وروى مسلم أيضًا عن أبي مرثد الغنوي أن النبي ﷺ قال: «لَا تَجْلِسُوا إِلَى الْقُبُورِ، وَلَا تُصَلُّوا إِلَيْهَا»، وعن أبي هريرة أن النبيﷺ قال: «لَأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ ثِيَابَهُ، وَتَخْلُصَ إِلَى جِلْدِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ مُسْلِمٍ» رواه مسلم. فهذه الأحاديث في النهي عن الجلوس والوطء على القبر قد حمل الفقهاء من الحنابلة والشافعية والأحناف هذا النهي على الكراهة، وهذا هو مقتضى تعبير الحنابلة في كتبهم، قال في الروض المربع: ويكره الجلوس والوطء عليه والاتكاء إليه. وفي الإقناع و المنتهى نحو ذلك.

قال النووي في المجموع: وأرادوا به كراهة التنزيه. وفي الإقناع و المنتهى نحو ذلك. وحكي عن الإمام مالك أنه قال: لا يكره الوطءُ على القبر، قاله في المجموع أيضًا. ومتى كان النهي عن الجلوس والوطء للكراهة، فإن الكراهة تزول بأدنى حاجة، ولأجله قلنا بترجيح تسوية قبر الميت والانتفاع بسطح قبره مع بقاء الميت على حاله في محله، ورأيت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ذكر هذه التسوية في جواب سؤال عن مسجد فيه قبر، وهل تجوز الصلاة فيه، فقال: لا يجوز دفن ميت في مسجد، فإن كان المسجد قبل الدفن غير، إما بتسوية القبر وإما بنبشه إن كان جديدًا، وإن كان المسجد بني بعد القبر، فإما أن يزال المسجد، وإما أن تزال صورة القبر، فالمسجد الذي على القبر لا يصلى فيه فرض ولا نفل. انتهى من المجلد الثاني من الفتاوى - الطبعة القديمة- ص192. فقد عرفت كيف ذكر تسوية القبر بإذهاب صورته ولم يبق ما يعارضه مما يمنعه سوى الأحاديث الواردة بالنهي عن الوطء عليه والجلوس عليه ونحو ذلك، وقد قلنا: إن النهي فيها للكراهة، والكراهة تزول بأدنى حاجة.

ثم إنه لم يكن المراد من هذا النهي تأذي الميت بما يفعل الناس بقبره من وطء وغيره، كما يتصوره بعض الناس، فإن الميت لا يحس بشيء من ذلك أبدًا، إذ هو ميت، وما لجرح بميت إيلام، حتى لو أن رجلاً حيًّا اضطجع باللحد وردم عليه بالحجارة، ثم سوى التراب عليه كما يفعل بالميت، فإنه لن يحس بوطء قبره ولا بدوسه لكثافة التراب فوقه، فما بالك بالميت. فنهي النبي ﷺ عن الوطء عليه وقوله: «كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ، كَكَسْرِهِ حَيًّا»، رواه أبو داود. وقوله: «لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا» رواه البخاري، وقوله: «اذْكُرُوا مَحَاسِنَ مَوْتَاكُمْ، وَكُفُّوا عَنْ مَسَاوِئِهِمْ»[170]، إنما مراد النهي في هذا الحكم هو بيان حرمة المسلم حيًّا وميتًا، وأن احترام قبره عنوان احترام شخصه، كما أن مهانته تدل على مهانته.

ولهذا نرى العرب في شركهم ينحرون الجزر على قبر من يعظمونه كما أن الشعراء يشيدون بمدح قبر من يحبونه، وكذلك الجبابرة الظلمة يحرقون جثث من يبغضونه ويرمون بالحجارة قبر من يبغضونه، كما كانت العرب ترجم قبر أبي رغال، وكان قائد فيل الحبشة إلى مكة لهدم الكعبة. ولمّا بلغ عمر بن الخطاب أن غيلان بن سلمة طلق نساءه، وقسّم ماله بين أولاده، على إثر مرض أصابه، دعاه عمر فقال: إني أرى الشيطان نفخ في صدرك أنك تموت من مرضك، فطلقت نساءك وقسمت مالك بين عيالك، فوالله لتراجعن نساءَك ولتردن مالك أو لآمرن بقبرك فيرجم كما رجم قبر أبي رغال[171].

والحاصل أن الميت لا يحس بما يفعله الحي بقبره، لا من نعيم ولا من عذاب أليم، لكونه ميتًا قد انقطع عنه الإحساس، وإنما يحس بما يصل إليه من الله من نعيم أو عذاب أليم، وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن الرجلين يدفنان في القبر الواحد، فيكون على أحدهما روضة من رياض الجنة، وعلى الثاني حفرة من حفر النار، بدون أن يحس أحدهما بعذاب الآخر أو نعيمه. كما اتفقوا أيضًا على أن الرجل لو احترق حتى صار هباءً منبثًّا أو أكله سباع البر أو حيتان البحر، فإنه لا بد أن يمتحن عن سؤال القبر، كما روى البخاري في صحيحه عن النبي ﷺ قال: «كَانَ رَجُلٌ يُسْرِفُ عَلَى نَفْسِهِ فَلَمَّا حَضَرَهُ المَوْتُ قَالَ لِبَنِيهِ: إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي، ثُمَّ اسْحَقُونِي، ثُمَّ ذَرُوا نِصْفِي فِي البَحْرِ، وَنِصْفِي فِي البَرِّ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِّي عَذَابًا مَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا، فَلَمَّا مَاتَ فَعَلَ بِهِ بَنُوهُ ذَلِكَ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَحْرَ؛ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، وَالْبَرَّ؛ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، وَإِذَا هُوَ قَائِمٌ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: مَخَافَتُكَ يَا رَبِّ»[172] الحديث.

* * *

[168] متفق عليه من حديث أنس بن مالك. [169] أخرجه مسلم من حديث جابر. [170] رواه أبو داود عن ابن عمر. [171] أخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن عبد الله بن عمر. [172] أخرجه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري.