المسَاجد
المساجد هي أشرف بقاع الأرض وأعظم حرمة من المقابر وغيرها؛ لأنها بيوت الله، ﴿أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرۡفَعَ وَيُذۡكَرَ فِيهَا ٱسۡمُهُۥ يُسَبِّحُ لَهُۥ فِيهَا بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡأٓصَالِ ٣٦ رِجَالٞ﴾ [النور: 36-37]. ﴿وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ أَن يُذۡكَرَ فِيهَا ٱسۡمُهُۥ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَآۚ﴾ [البقرة: 114]. وفي صحيح مسلم أن النبي ﷺ قال: «أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقُهَا» [167]، فمتى حصل مندوحة عن المسجد كان من الواجب احترامه باستبقائه على حالته، أما إذا صمد إليه الطريق حسب التخطيط الجاري على البلد، فإن التصرّف بهدمه جائز متى تحقق استبداله بغيره، كما يجوز في بيوت الناس من الأرامل واليتامى والأوقاف وغيرهم، لكون المفاسد الجزئية تغتفر في ضمن المصالح العمومية، ولأنه لا يراد من هدمه إزالته، بإزالة التعبد فيه، وإنما يراد إبداله بمثله أو بما هو أصلح منه فيستفيد الناس المصلحتين معًا؛ بقاء المسجد وسعة الطريق، والكل لله وفي سبيل مصالح عباد الله، وقد جرى العمل بهذا من الخلفاء الراشدين والصحابة المهديين، ولم ينكره أحد منهم.
من ذلك أن سعد بن أبي وقاص كتب إلى عمر بن الخطاب يخبره أن بيت المال بالكوفة قد نقب وسرق، فكتب إليه يأمره بأن يهدم المسجد ويجعله سوقًا، وأن يجعل السوق هو المسجد، ويكون بيت المال في قبلته، فإنه لا يزال في المسجد مصلى، وكتب إلى ابن مسعود بذلك، وكان عامله على القضاء بالكوفة. ذكره ابن جرير في التاريخ، وفعلاً هدم المسجد وجعله سوقًا وجعل السوق هو المسجد، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة، لكونه من التصرف الحسن الملائم لمقاصد الشرع ومحاسنه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن إبدال المسجد لمصلحة راجحة مثل أن يبدل بخير منه أو يبنى بدله مسجد آخر أصلح منه لأهل البلد، فهذا ونحوه جائز عند أحمد وغيره من العلماء، واحتج أحمد بأن عمر نقل مسجد الكوفة القديم إلى مكان آخر وصار المسجد الأول سوقًا للتمارين. قاله في المسائل الماردانية. وحيث جاز مثل هذا التصرف في المسجد، فإن كل شيء دونه، وتكون المقابر أولى بالجواز كما سيأتي بيانه.
* * *
[167] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة.