(12) حكمة الرب في خلق القمر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه البيان وجمله بالعقل وشرفه بالإيمان وفضله بالعلم على سائر الحيوان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مبرأَة من الشرك والشكوك والأوهام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد الأنام.
أما بعد:
فقد قال الله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمۡسَ ضِيَآءٗ وَٱلۡقَمَرَ نُورٗا وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ ٥﴾ [يونس: 5].
فأخبر الله سبحانه أنه جعل الشمس ضياء تضيء للناس من طلوعها إلى غروبها، ويترتب على انتشار ضيائها المصالح العديدة والحكم المفيدة: من صحة الأبدان وغرائس الأشجار ونضج الثمار وتسخين البحار وإجراء الأنهار وسائر ما يترتب عليها من المنافع الكبار ورفع المضار. تشع بضيائها على أقوام كل النهار ثم تغرب عنهم وتطلع على آخرين غيرهم، بسير متقن، مسخرة له لا تتجاوزه ولا تقصر عنه، وطريق سيرها في الصيف غير طريقه في الشتاء لاختلاف الفصول من صيف إلى شتاء ثم خريف وربيع ﴿صُنۡعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ أَتۡقَنَ كُلَّ شَيۡءٍ﴾ [النمل: 88].
ثم قال: ﴿وَٱلۡقَمَرَ نُورٗا﴾ أي جعل القمر نورًا يضيء للناس في ليلهم وفي سيرهم وسمرهم، ويبصرون بنوره ما يعرض لهم، وقدره منازل، فهو يبدو حين يستهل كالخيط الدقيق، ثم يتزايد جرمه ونوره بانتقاله من منزلة إلى منزلة حتى ينتهي إلى حالة إبداره أي كماله وتمامه، وفي حالة تزايده من طلوعه إلى إبداره. والبحر يمد بالزيادة تبعًا لزيادة القمر إلى أن ينتصف الشهر، فعند ذلك يأْخذ المد غايته ويبلغ من الاضطراب والطفور نهايته، فيعظم هيجانه وتشتد أمواجه.
فإذا نقص القمر بعد منتصف الشهر بدأ النقص في مد البحر بحسبه، وهذه من الحقائق التي هي بتقدير الخالق ﴿فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحۡسَنُ ٱلۡخَٰلِقِينَ ١٤﴾ [المؤمنون: 14].
وللقمر ثمانٍ وعشرون منزلة، ينزل كل ليلة منها منزلة غير منزلته الأولى، سميت بأَسماء النجوم المجاورة لها وهي: الشرطان، والبطين، والثريا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرف، والجبهة، والزبرة، والصرفة، والعواء، والسماك الأعزل، والغفر، والزبانا، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، وسعد الذابح، وسعد بلع، وسعد الأخبية، وسعد السعود، والفرغ المقدم، والفرغ المؤخر، والرشا، ثم يختفي غالبًا ليلة أو ليلتين وتسمى السرار والمحاق.
رتب الله القمر على هذه المنازل لمصلحة الناس وهي ما عناه بقوله: ﴿وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَ﴾ [يونس: 5]. وبعد المنزلة عن المنزلة مسافة بعيدة لا يعلم قدر مساحتها ولا بعد مسافتها إلا الله عز وجل.
أضف إلى ذلك أن الهلال إذا استهل ثم أبدر فإنه يستهل ويبدر على الدنيا أي المعمورة كلها في وقت واحد، وإذا غاب فإنه يغيب عن الدنيا كلها، باستثناء كون بعض البلدان يرونه أول يوم وآخرون لا يرونه، فإن هذا يرجع إلى مراقبته وتفاوت الأبصار في رؤيته. وقد قيل: إنه يرجع إلى اختلاف المطالع، وهو قول ضعيف جدًّا؛ فإن الله بحكمته نصب الشهر في السماء بقدرته لعموم منفعته لجميع الناس بحيث يجري حسابهم على دخوله وخروجه، وليس كالشمس تطلع على قوم وتغيب عن آخرين؛ لهذا صار من العسير معرفة الحساب بالشهر الشمسي بخلاف الشهر الهلالي؛ فإنه ميسر لكل أحد بحيث يعرفون كل شهر باسمه من ابتداء دخوله إلى خروجه، يشترك في معرفته العالم والعامي، والكاتب والأمي، والحضري والبدوي، حتى إنهم ليعرفون كم مضى من الشهر بمعرفة منزلة القمر، وبذلك تعرف الأشهر الحُرُم وأشهر الحج وشهر الصوم وأشهر عِدَدِ النساء وغير ذلك من الأحكام التي رتبها الله على الشهر الهلالي.
يقول الله تعالى: ﴿۞يَسَۡٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّ﴾ [البقرة: 189]. سمي الهلال هلالاً لاستهلال الأصوات برؤيته، كما سمي الشهر شهرًا لاشتهاره، وكان سبب نزول هذه الآية على ما رواه أبو نعيم عن ابن عباس أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم أو ابن غنيمة سألا رسول اللهﷺ وقالا: يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو دقيقًا كالخيط ثم يزيد حتى يعظم فيستوي ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان؟ فنزلت هذه الآية ﴿۞يَسَۡٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّ﴾ فعدل بهم سبحانه عن الإجابة عن جرم الهلال إلى الإخبار بحكمته، ففيه الإخبار بالصفات عن الذات، كأنه قال: عليكم أن تسألوا عن الحكمة والمصلحة التي خلق الله الهلال لها بدون أن تتكلفوا البحث والكشف عن ماهية الهلال، ولم يأْمر الله بشيءٍ إلا ومصلحته راجحة ومنفعته واضحة، ولم ينه عن شيء إلا ومفسدته راجحة ومضرته واضحة. لهذا رأينا الناس في هذا الزمان وفي هذه الأيام لما اشتغلوا بالبحث عن ماهية القمر وتحدثوا بوصول هؤلاء إليه، أحدث لهم هذا الخبر شيئًا من القلق والاضطراب في الأفكار والعقائد والفتنة في الدين، وطاشت بذلك أحلام الأكثرين لظنهم أنها هزيمة للدين وأنها تقضي بتكذيب نصوص القرآن المبين ونصوص الأحاديث الثابتة عن رسول الله الصادق الأمين، إلى غير ذلك مما يتلقونه من مفتريات الملحدين. وكان من واجب المسلم عند سماع هذا الهذيان هو التثبت والاطمئنان وعدم تزعزع الإيمان، لاعتقاد أنهم لم يأْتوا بما يناقض القرآن. وقد مدح الله في كتابه أهل الاستقامة والثبات، والله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات.
وأكثر الناس ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة لعدم رزانته واستقامته وعدم علمه ومعرفته بأَحكام الرب وقدرته.
وما يشعرني أن تسلط هؤلاء على الصعود إلى القمر أنه جرى بطريق القضاء والقدر ليمتحن الله به من يثبت على إيمانه ودينه، ممن ينقلب على عقبيه، كما جرت الفتنة زمن النبي ﷺ في تحويل القبلة، فقال السفهاء من الناس: ﴿مَا وَلَّىٰهُمۡ عَن قِبۡلَتِهِمُ ٱلَّتِي كَانُواْ عَلَيۡهَا﴾ [البقرة: 142]. إذًا صلاتهم السابقة فاسدة وكيف أقروا عليها وهي باطلة، فهلك في هذه الفتنة من هلك، وكذلك هزيمتهم يوم أحد حين قالوا: لو كانوا على الحق ما هزموا. وكذلك الفتنة بموت النبيﷺ، حيث قالوا: لو كان رسولاً لم يمت، فارتدت العرب من أجل فشو هذا الخبر.
غير أن هذه الفتن بمثابة الغيم الذي يخيم على القلوب ويحول بين القلوب وبين رؤية الأمر على حقيقته، وسرعان ما ينجلي هذا الغيم وينقشع لأن الحق أبلج والباطل رجرج.
لله در الحادثات فإِنها
صدأ الجبان وصيقل الأحرار
فهذا الخبر في وصول هؤلاء إلى القمر حاصله خبر شخص عن فعل نفسه، بما يقتضي مدحه ونجاحه في مهمة عمله سواء أكان صادقًا أو كاذبًا، فضجت بخبره الأصوات وتجاوبت به الإذاعات حتى صار كالخبر اليقين في نفوس الأكثرين.
ونحن بكلامنا هذا لا ننفي وصولهم إليه ولا نثبته إذ ليس من الأمر المستحيل وقوعه عند توفر الأسباب التي تؤهلهم إلى وصوله وإنما غايته أننا نستبعد إمكانيته، والاستبعاد للشيء لا ينفي وقوعه بالكلية، كما أن عدم العلم بالشيء ليس علمًا بعدمه، وكل شيءٍ مرهون بيقينه، ومن طبيعة الإنسان أنه إذا جَهِلَ شيئًا ولم يحط بعلمه ولم يقبله عقله فإنه يسرع بتكذيبه وذلك لا يغنيه من الحق شيئًا، فلو تحدث متحدث قبل اليوم أن أهل المشرق يتخاطبون مع أهل المغرب وأن من في بلدان أوروبا يتكلم مع من في نجد أو الحجاز بحيث يكلم أحدهما صاحبه بصوت جلي غير خفي وبينهما الجبال الشاهقة والبحار الواسعة والسحب المضطربة والأهوية المتقصفة كل هذه لم تعد حائلة دون سماع أحدهما لخطاب الآخر. فلو تحدث متحدث بذلك قبل وقوعه وقبل وقوف جميع الناس على حقيقته لما صدق به أحد، لاستبعادهم لإِمكانيته، ولن تسعَ عقولهم قبوله.
فنحن لا نكابر في إنكار ما أدركه هؤلاء من علم الكون وما اكتشفوه من الأسرار والآيات، وما سيكتشفونه فيما هو آتٍ من كل ما يؤهلهم إلى الوصول إلى الغايات الداخلة تحت حدود مقدرتهم.
فقد رأى الناس ما صنعوه من الطائرات الهوائية من تجارية وحربية حيث تحلق في الأجواء حتى تتجاوز محيط الهواء، وغواصاتهم البحرية تغوص في قعر البحار بحيث يعلوها بمن فيها الماء والأمواج، ويتخاطبون من أصقاع البقاع، وحسبك ما في الكهرباء من الأسرار والمنافع الكبار، كل هذه من الحقائق التي لا مجال للشك فيها، خلق الله موادها يوم خلق السماوات والأرض وأودعها في مظانها إلى وقت حاجة الناس لها، والمكتشفون يعترفون بأَن ما خفي عليهم من أسرار الكون أكثر مما يعرفون، وأنهم كلما أوغلوا في الكشف عن شيءٍ تبين لهم من جهلهم ما لم يكونوا يحتسبون، وما أحسن ما قيل:
كلما أَدبني الدهر
أَراني نقص عقلي
وكلما ازددت علمًا
زادني علمًا بجهلي[155]
إذا ثبت هذا فإن من جملة ما صنعوه لهذا الغرض - أي لغرض الوصول إلى القمر - الآلة المسماة عندهم بالمركبة الفضائية، وهي بزعمهم أسبق من سهم الرامي حيث زعموا أنها تقطع في الساعة الواحدة مسافة من العلو تقدر بأربعين ألف كيلو مترًا (40.000 كم) وقد مكثوا في صعودهم أيامًا وليالي قيل أربعة أيام بلياليها في حالة الصعود، وكانوا قبل ذلك بعشر سنين يقومون ويقعدون ويجرون التجارب على إثر التجارب لمحاولة الوصول إلى ما تحصلوا عليه إلى أن نجحوا في مهمة عملهم بزعمهم.
والقمر هو أدنى الأجرام العلوية مما يلي الأرض، فهو يضيء على أهل الأرض من جهته التي تلي الأَرض، كما قيل من أنه يضيء على أهل السماء من جهته التي تلي السماء، والله أعلم، يقول الله: ﴿وَجَعَلَ ٱلۡقَمَرَ فِيهِنَّ نُورٗا وَجَعَلَ ٱلشَّمۡسَ سِرَاجٗا ١٦﴾ [النوح: 16].
والقمر هو مستقل في فلكه بنفسه غير مغروز في السماء حسبما يتوهمه بعض الناس، وإِنما بينه وبين السماء فضاء أمسكه الرب بقدرته الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولإِن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده.
فمتى كان الأمر بهذه الصفة وأن القمر هو أدنى الأجرام العلوية مما يلي الأرض، وليس عندنا ما يقتضي أن العلم به والوصول إليه أنه من علم الغيب الذي لا يحيط به أحد، وقد استخدموا هذا المركب الفضائي الذي يسبق سهم الرامي والذي مكث في الصعود إليه أيامًا وليالي، فإذًا لن نستبعد وصولهم إليه بعد استعمالهم لهذه الأسباب التي تؤهلهم من وصولهم إلى مقصدهم، وقد ذكر الله الأسباب وذكر النجاح فيها في أربع آيات متواليات فقال: ﴿وَيَسَۡٔلُونَكَ عَن ذِي ٱلۡقَرۡنَيۡنِۖ قُلۡ سَأَتۡلُواْ عَلَيۡكُم مِّنۡهُ ذِكۡرًا ٨٣ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُۥ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَءَاتَيۡنَٰهُ مِن كُلِّ شَيۡءٖ سَبَبٗا ٨٤ فَأَتۡبَعَ سَبَبًا ٨٥﴾ [الكهف: 83-85]. وفي الآية الثالثة: ﴿ثُمَّ أَتۡبَعَ سَبَبًا ٨٩﴾ [الكهف: 89]. وفي الآية الرابعة: ﴿ثُمَّ أَتۡبَعَ سَبَبًا ٩٢﴾ [الكهف: 92]. فذكر الله عن ذي القرنين من اتباعه للأسباب والوسائل التي تمكن بها من السيادة على جميع الأرض وأهلها، قال ابن عباس: ﴿وَءَاتَيۡنَٰهُ مِن كُلِّ شَيۡءٖ سَبَبٗا ٨٤﴾. أي من كل شيءٍ علمًا [156]. يتسبب به إلى ما يريد؛ لأَن السبب في اللغة هو كل شيءٍ يتوصل به إلى غيره، فالإسلام دين العلم والعقل والفكر والحكمة، يأْمر باستخدام الأَسباب والاحتفال بها، كما قيل:
ما أنت بالسبب الضعيف وإنما
نجح الأمور بقوة الأسباب
ومن طبيعة النفوس التطلع إلى كل مستور عنها من كل ما تظنه في متناولها، أو أنه مما ستدركه بوسائل عملها حتى ولو كان عندها ما يغنيها ويكفيها، كما قيل:
لا يُشبع النفس شيء حين تحرزه
ولا يزال لها في غيره وطر
ولا تزال وإن كانت لها سعة
لها إلى الشيء لم تظفر به نظر
فإن قيل: من أين لكم أن القمر أدنى الأجرام العلوية، وأنه مستقل في فلكه، وأن بينه وبين السماء فضاء، والله يقول: ﴿تَبَارَكَ ٱلَّذِي جَعَلَ فِي ٱلسَّمَآءِ بُرُوجٗا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَٰجٗا وَقَمَرٗا مُّنِيرٗا ٦١﴾ [الفرقان: 61].
فالجواب: أن السماء تطلق في القرآن ويراد بها ما علا وارتفع ومنه قوله: ﴿وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡ﴾ [إبراهيم: 32]. ومعلوم أَن المطر إنما ينزل من السحاب لا من السماء، وقال: ﴿ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا كَلِمَةٗ طَيِّبَةٗ كَشَجَرَةٖ طَيِّبَةٍ أَصۡلُهَا ثَابِتٞ وَفَرۡعُهَا فِي ٱلسَّمَآءِ ٢٤﴾ [إبراهيم: 24]. وهذه الشجرة هي النخلة. وتطلق ويراد بها السماوات العلى وهي السقف المرفوع. فالله جعل في السماء بروجًا أي نجومًا وجعل فيها سراجًا وهي الشمس، وجعل فيها قمرًا منيرًا، وليست الشمس والقمر والنجوم كلها في فلك واحد وإنما هي متباينة المنازل، فكل واحد منها يسير في فلكه المرسوم له بقدرة الله وحكمته.
وقد اتفق أرباب الهيئة من المتقدمين وكذلك علماء الفلك من المتأخرين على أن القمر هو أدنى الأجرام العلوية مما يلي الأرض، وأن بينه وبين السماء فضاء واسعًا، أدركوا ذلك بوسائل علمهم الدقيقة وبكشوفهم ومراصدهم التي تقرب لهم البعيد وترسمه على صفته، فصار عندهم بمثابة العلم اليقيني الذي يدرك بالمشاهدة والحس حتى لم يختلف فيه اثنان منهم، ولأجل رجحان ظنهم في أن وصوله في استطاعتهم عملوا عملهم في الصعود إليه، سواء قلنا: إنهم وصلوا أو فشلوا، ولا يلزم أن نقول في كل ما نقلوه لنا: إنه باطل لا حقيقة له إلا إذا كان مصادمًا لنص صريح من الكتاب والسنة، فقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن حزم وابن الجوزي يستدلون من أقوال أهل الهيئة ما يرونه موافقًا للحق؛ ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن علم الهيئة الذي هو أعظم علومهم الرياضية العقلية هو العلم بالأفلاك وحركاتها، فالحس لا يرى إلا حركة الأجسام المعينة، فيرى الشمس تتحرك والقمر يتحرك والكواكب تتحرك، هذا الذي يعلم بالحس، وأما كون بعض الأفلاك فوق بعض فقد علموه بكسوف الأعلى الأسفل، فلما رأوا القمر يكسف سائر الأفلاك استدلوا بذلك على أنه تحت الجميع. قال: فالعلم بقدر حركاتها وكسوف بعضها البعض ونحو ذلك مداره على الأرصاد. انتهى.
وقد نقل ابن القيم في مفتاح دار السعادة عن أرباب الهيئة في شأن الشمس والقمر والنجوم ما حاصله، قال: اتفق أرباب الهيئة على أن الشمس بقدر الأرض مائة مرة ونيفًا وستين مرة، وأن الكواكب التي نراها أصغرها بقدر الأرض، وبهذا يعرف ارتفاعها وبعدها. وقال: أنت ترى الكوكب كأنه لا يسير وهو من أول جزء من طلوعه إلى تمام طلوعه يكون فلكه قد قطع بقدر مسافة الأرض مائة مرة وذلك بقدر لحظة واحد. انتهى.
فالعلم بهذا مشهور عند المتقدمين كما أن أرباب الفلك يحققونه الآن، ولهذا قيل: والنجم تستصغر الأَبصار رؤيته والذنب للطرف لا للنجم في الصغر[157] وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضًا: "إن ما علم بالحساب وطريق الفلك علمًا صحيحًا فإنه لا ينافي ما جاء به السمع أي الكتاب والسنة، كما أن العلوم السمعية الصحيحة لا تنافي معقولاً صحيحًا، وقد أشكل على كثير من الناس حيث يرون أن ما يقال: إنه معلوم بالعقل إنه مخالف لما يقال: إنه معلوم بالسمع، وأوجب ذلك أن كذبت طائفة بما لم تحط بعلمه، حتى آل الأمر بقوم أن تكلموا في معارضة الفلاسفة في الأفلاك بكلام ليس معهم فيه حجة لا من شرع ولا من عقل، وظنوا أن ذلك من نصر الشريعة، وكان ما أنكروه معلومًا بالأدلة الشرعية، وصار ما فعلوه هو مما جرأ الملحدين على الطعن في الدين وعلمائه. فهؤلاء لا الحق نصروا ولا الباطل كسروا. انتهى كلامه رحمه الله.
إذا ثبت هذا فإن لفظ العلوم الرياضية يستعمل في ثلاثة أنواع: أحدها (رياضة الأبدان) بالحركة والمشي، والثاني (رياضة النفوس) بالأخلاق الحسنة المعتدلة والآداب المحمودة، والثالث (رياضة الأذهان) بمعرفة دقيق العلم والبحث عن الأمور الغامضة وهذا هو المراد هنا.
وأما استدلال بعض الناس بقوله تعالى: ﴿يَٰمَعۡشَرَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ إِنِ ٱسۡتَطَعۡتُمۡ أَن تَنفُذُواْ مِنۡ أَقۡطَارِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ فَٱنفُذُواْۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلۡطَٰنٖ ٣٣﴾ [الرحمن: 33]. ويزعمون أن السلطان المذكور في هذه الآية هو (العلم) وأنهم وصلوا به إلى السماء، فهذا الاستدلال باطل قطعًا ولا يمت للمعنى المراد من الآية بصلة لا بطريق المنطوق ولا المفهوم، وإنما حقيقته تحريف للكلم عن مواضعه، فإن النفوذ في اللغة هو جواز الشيء عن الشيء والخلوص منه، يقال: نفذ السهم الرمية إذا خرقها وخرج من الجانب الآخر، ويقال: نفذ الرجل القوم إذا مشى وسطهم، ونفذهم جازهم وتخلفهم، قاله في القاموس.
فنفوذ أقطار السماوات هو مثل نفوذ النبي ﷺ لها ليلة الإسراء حينما تجاوزها من سماء إلى سماء في صحبة جبريل عليه السلام، يستأْذن له جبريل عند كل سماء فيقولون له: من أنت؟ فيقول: أنا جبريل. فيقولون: من معك؟ فيقول: معي محمد، فيقولون: أَأُرسل إليه؟ فيقول: نعم. فيقولون: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء. ثم يصعد إلى السماء الثانية ثم الثالثة حتى انتهى إلى السابعة، فهذا هو حقيقة النفوذ لأقطار السماوات حقيقة، وأما معنى صعود هؤلاء فإنه بمثابة صعود الطائرة على السواء، وهم لم يصلوا في صعودهم إلى السماء وإنما وصلوا بزعمهم إلى سطح القمر، والقمر شيء والسماء شيء آخر، وما أشده من بأس وأعظمه من مكر ﴿وَقَدۡ مَكَرُواْ مَكۡرَهُمۡ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكۡرُهُمۡ وَإِن كَانَ مَكۡرُهُمۡ لِتَزُولَ مِنۡهُ ٱلۡجِبَالُ ٤٦﴾ [إبراهيم: 46]. وللمفسرين في الآية معنيان: أحدهما أن هذا الخطاب واقع على الجن والإنس في حالة الدنيا، وذلك حينما يكور بالشمس، ويخسف بالقمر، وتنزل الملائكة من السماء، فيفزع الجن إلى الإنس ويحاولون الفرار والهرب من هذا الفزع، ولات حين مفر. والقول الثاني أنه خطاب لهم في الآخرة وذلك حين يأمر الله بحشر عصاة الجن والإنس ويقال لهم: ﴿يَٰمَعۡشَرَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ إِنِ ٱسۡتَطَعۡتُمۡ أَن تَنفُذُواْ مِنۡ أَقۡطَارِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ فَٱنفُذُواْۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلۡطَٰنٖ ٣٣﴾ [الرحمن: 33]. وهذا القول هو أقرب للصواب، يدل له الآية التي بعده وهي قوله: ﴿يُرۡسَلُ عَلَيۡكُمَا شُوَاظٞ مِّن نَّارٖ وَنُحَاسٞ فَلَا تَنتَصِرَانِ ٣٥﴾ [الرحمن: 35]. فإن إرسال النار إنما يقع في الآخرة، والسلطان قيل: العذر، وقيل: البينة، وقيل: الحجة، وقد أخبر الله عن الجن أنهم قالوا: ﴿وَأَنَّا لَمَسۡنَا ٱلسَّمَآءَ فَوَجَدۡنَٰهَا مُلِئَتۡ حَرَسٗا شَدِيدٗا وَشُهُبٗا ٨﴾ [الجن: 8]. فهؤلاء الجن صعدوا إلى السماء فلمسوها لكنهم لم ينفذوا من أقطارها لأنهم وجدوها ملئت حرسًا شديدًا وشهبًا.
وقد حاول الصعود إلى السماء قبل هؤلاء أناس كما روي عن أبي إسحاق: أن جبارًا من الجبابرة قيل: إنه النمرود بن كنعان وهو الذي حاج إبراهيم في ربه، أنه قال: لا أنتهي حتى أعلم من في السماوات، فعمد إلى فراخ نسور فأمر أن تطعم اللحم حتى إذا اشتدت وعضلت أي غلظت فأمر أن يتخذ تابوت يسع رجلين وأن يجعل فيه عصًا في رأسها لحم شديد حمرته، وأن يستوثق من أرجل النسور وتشد إلى قوائم التابوت، ثم جوع النسور وجلس هو وصاحب له في التابوت، وأثار النسور فلما رأت اللحم طلبته من فوقها فجعلت ترفع التابوت بقوتها وبشدة نهمتها إلى اللحم حتى بلغت به ما شاء الله، فقال الجبار لصاحبه: افتح الباب فانظر ما ترى. فقال: أرى الجبال كأنها ذباب، فقال: أغلق الباب، ثم صعدت بالتابوت ما شاء الله أن تصعد فقال الجبار لصاحبه: افتح الباب فانظر ما ترى، فقال: ما أرى إلا السماء وما تزداد منا إلا بعدًا، فقال: نكس العصا. فنكسها من تحت فانقضت النسور بالنزول تطلب اللحم من أسفل حتى وقع التابوت بمن فيه على الأرض. انتهى، فهذا يحاول المحال من صعوده إلى السماء وهي السقف المرفوع والسقف المحفوظ.
كما قال الله تعالى: ﴿وَجَعَلۡنَا ٱلسَّمَآءَ سَقۡفٗا مَّحۡفُوظٗاۖ وَهُمۡ عَنۡ ءَايَٰتِهَا مُعۡرِضُونَ ٣٢﴾ [الأنبياء:32]. أي محفوظًا بالملائكة التي تحرسها.
والمقصود أن هذا الخبر في وصول هؤلاء إلى القمر هو مما يزيد المؤمن إيمانًا ويقينًا في معرفة هذا النظام السماوي القائم بقدرة الله وحكمته وعموم منفعته لجميع خلقه.
فأنت ترى هذا القمر المضيء بنوره الساطع مع هذا البعد الشاسع والفضاء الواسع، حتى إنه ليحسبه الرائي وقت إبداره كسراج وهاج في بيت أحدهم مع ارتفاع ذاته الارتفاع الهائل الذي لا يخطر ببال أكثر الناس، والذي مكث هذا المركب الفضائي أيامًا وليالي وهو يصعد بالسرعة الزائدة التي قدروا سرعته في الساعة الواحدة بأربعين ألفًا من الكيلومترات (40.000 كم) وهل هذا البعد الشاسع مع دنو نوره الساطع إلا آية باهرة سواء قلنا: إن نوره مقتبس من الشمس أو من ذاته بنفسه، فتبارك الله أحسن الخالقين.
وأمر آخر وهو إظهاره المعجزة التي أخبر بها النبي ﷺ، كما روى الترمذي من حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: «بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ مَسَافَةَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ» والمقادير المذكورة في مثل هذا الحديث تحمل على دبيب الأقدام ومسير الجمال بالأثقال، وهذه المسافة الساحقة التي قطعوها هي من الأرض إلى القمر لا غير، ومن المحتمل أن يكون من القمر إلى السماء أبعد من هذا، وبذلك تتضح المعجزة التي أخبر بها النبي ﷺ في بعد مسافة ما بين السماء والأرض، فدعوى بعض الناس أن القمر آية من آيات الله لا يدان لأحد بوصوله جوابه: نعم إن القمر آية من آيات الله لا يستطيع أحد تغييره عن صفته التي خلقه الله عليها، ولا أن يخلقوا مثل خلقه، وكونه آية لا يمنع من وصوله، كما أن السحاب آية من آيات الله كما قال تعالى: ﴿وَٱلسَّحَابِ ٱلۡمُسَخَّرِ بَيۡنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ﴾ [البقرة: 164]. وقد مكث أكثر الناس زمانًا وهم لا يظنون أن أحدًا من خلق الله يصل إلى منتهى السحاب من أجل أنه آية من آيات الله إلى أن حدثت الطائرات الجوية التي تخترق السحاب حتى ترتفع عنه ويمطر المطر من تحتها.
فقل لهؤلاء المرتابين: مَنْ خلق هذا القمر وأودعه هذا النور الساطع مع البعد الشاسع غير الله عز وجل؟ ومن وضعه بهذا الموضع العالي اللائق به غير الله عز وجل؟ ومن أمسكه بقدرته بدون عمد نراها غير الله عز وجل؟ ومن جعله يتنقل من حالة الصغر إلى حالة الكبر ومن منزلة إلى منزلة غير الله عز وجل؟ ومن جعله يضيء على جميع الناس في مشارق الأَرض ومغاربها غير الله عز وجل؟ ﴿هَٰذَا خَلۡقُ ٱللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِۦۚ بَلِ ٱلظَّٰلِمُونَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ ١١﴾ [لقمان: 11]. يقول الله: ﴿وَءَايَةٞ لَّهُمُ ٱلَّيۡلُ نَسۡلَخُ مِنۡهُ ٱلنَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظۡلِمُونَ ٣٧ وَٱلشَّمۡسُ تَجۡرِي لِمُسۡتَقَرّٖ لَّهَاۚ ذَٰلِكَ تَقۡدِيرُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ ٣٨ وَٱلۡقَمَرَ قَدَّرۡنَٰهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلۡعُرۡجُونِ ٱلۡقَدِيمِ ٣٩ لَا ٱلشَّمۡسُ يَنۢبَغِي لَهَآ أَن تُدۡرِكَ ٱلۡقَمَرَ وَلَا ٱلَّيۡلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِۚ وَكُلّٞ فِي فَلَكٖ يَسۡبَحُونَ ٤٠﴾ [يس: 37-40].
وقد دعا الله عباده إلى النظر والاعتبار في مخلوقاته ليزدادوا بذلك إيمانًا ويقينًا ﴿إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ ١٩٠ ٱلَّذِينَ يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَٰمٗا وَقُعُودٗا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمۡ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَٰذَا بَٰطِلٗا سُبۡحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ ١٩١﴾ [آل عمران: 190-191]. ﴿قُلِ ٱنظُرُواْ مَاذَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَمَا تُغۡنِي ٱلۡأٓيَٰتُ وَٱلنُّذُرُ عَن قَوۡمٖ لَّا يُؤۡمِنُونَ ١٠١﴾ [يونس: 101]. نعم إنها لا تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون، فالآيات والعبر والتفكر المعتبر إنما تستفيد به النفوس الخيرة المستعدة لقبول الحق والمتوجهة إلى طلبه واتباعه، أما النفوس الشريرة كالطبيعيين الذين ينسبون كل شيءٍ للطبيعة وينسبون آيات الله ومخلوقاته في أرضه وسماواته إلى الطبيعة ويسميهم العلماء عبّاد الطبيعة فإِن الآيات والعبر لا تزيدهم إِلا نفورًا واستكبارًا وإلا جحودًا وعنادًا ﴿وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسۡتَيۡقَنَتۡهَآ أَنفُسُهُمۡ ظُلۡمٗا وَعُلُوّٗاۚ فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُفۡسِدِينَ ١٤﴾ [النمل: 14].
* * *
[155] البيتان للإمام الشافعي. [156] أخرجه ابن جرير في تفسيره عن ابن عباس. [157] البيت لأبي العلاء المعري.