حكمة صلاة الكسوف
ومما يلحق بهذا الكلام ويجب التنبيه عليه للخاص والعام ما ينسب إلى بعض سفهاء الأحلام وضعفاء الأديان من طعنهم في صلاة الكسوف الثابتة مشروعيتها بالدلائل القطعية من دين الإسلام.
وذلك أن صلاة الكسوف هي نوع من الصلوات، وهي من آكد نوافل العبادات، شرعت الجماعة لها وأجمع العلماء على مشروعيتها على اختلاف بينهم هل تصلى جماعة أو فرادى. وقد صلاها النبي ﷺ جماعة فمن أنكر مشروعيتها فهو كافر لأن مسنونيتها معلومة بالدلائل القطعية من دين الإسلام.
انخسفت الشمس على عهد رسول الله ﷺ حين مات ابنه إبراهيم فقال الناس: انخسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال رسول الله ﷺ: «إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لَا يَنْخَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَصَلُّوا، وَادْعُوا حَتَّى يَنْكَشِفَ مَا بِكُمْ»[158].
فهذه الصلاة يستحب فعلها عند وجود سببها، كما تصلى صلاة العيدين عند وجود سببهما وكما تصلى صلاة الاستسقاء لطلب السقيا، وكما تصلى صلاة الاستخارة لطلب خير الأمرين؛ لأن العبادة هي ما أمر به الشارع حكمًا من غير اطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي، قال الله: ﴿وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْ﴾ [الحشر: 7].
فالذي أمر بصلاة الكسوف عند وجود سببها هو الذي أمرنا أن نصلي الفجر عند طلوع الفجر، وأمرنا أن نصلي المغرب بعد أن تغرب الشمس إذ الكل لله عز وجل، إلا أن هاتين فريضة وتلك نافلة، وقد استنبط العلماء مشروعيتها من قوله تعالى: ﴿فَإِنِ ٱسۡتَكۡبَرُواْ فَٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُۥ بِٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَهُمۡ لَا يَسَۡٔمُونَ۩ ٣٨﴾ [فصلت: 38].
إن الناس يعرفون سبب كسوف الشمس والقمر، فالفلكيون وغيرهم يرون أن السبب في كسوف الشمس هو توسط القمر بين الأرض والشمس، وأن خسوف القمر هو حيلولة الأرض بين القمر والشمس؛ لأن الكسوف للقمر عبارة عن ذهاب ضوئه وفلكه دون فلك الشمس، والأرض كرة فإذا وقع القمر في ظل الأرض انقطع عنه نور الشمس كسحابة تمر تحته إلى أن يتجاوزها من الجانب الآخر، فهذا ملخص كلام الفلكيين في سبب الكسوف والخسوف[159]، وقد عمموا التعليم بذلك في سائر المدارس العربية.
فمعرفة الناس لهذا السبب أضعف في نفوسهم شيئًا من حكمته وحكمة التخويف به والصلاة له، والسبب شيء وامتثال الأمر عند وجوده شيء آخر، وذلك أن الله سبحانه يحب من عباده أن يكونوا منتبهين دائمًا لعبادته والعمل للقائه والخوف من عقابه، لا سيما عند رؤية ما يذكرهم بالساعة وأهوال القيامة من كسوف وخسوف، حتى لا تستولي الغفلة واللهو عليهم فيؤخذوا على غرة وغفلة، يقول الله تعالى: ﴿ٱقۡتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمۡ وَهُمۡ فِي غَفۡلَةٖ مُّعۡرِضُونَ ١ مَا يَأۡتِيهِم مِّن ذِكۡرٖ مِّن رَّبِّهِم مُّحۡدَثٍ إِلَّا ٱسۡتَمَعُوهُ وَهُمۡ يَلۡعَبُونَ ٢ لَاهِيَةٗ قُلُوبُهُمۡ﴾
[الأنبياء: 1-3].
فالكسوف يذكر بقيام الساعة وأهوال الآخرة: ﴿... وَمَا يُدۡرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ قَرِيبٞ١٧ يَسۡتَعۡجِلُ بِهَا ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِهَاۖ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مُشۡفِقُونَ مِنۡهَا وَيَعۡلَمُونَ أَنَّهَا ٱلۡحَقُّۗ أَلَآ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُمَارُونَ فِي ٱلسَّاعَةِ لَفِي ضَلَٰلِۢ بَعِيدٍ١٨﴾ [الشورى: 17-18]. فالكسوف الأكبر للشمس والقمر يأتي على قرب ما نشاهده من الكسوف في الدنيا؛ لأن أول ما يبدأ به من أهوال الساعة هو خسوف الشمس والقمر، ثم تتناثر النجوم؛ لأن الله سبحانه إذا تم قضاؤه بفناء الدنيا وأراد أن يخلي الناس عنها وأن ينقلهم إلى دار أخرى ﴿لِيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ أَسَٰٓـُٔواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ بِٱلۡحُسۡنَى ٣١﴾ [النجم: 31]. فعند ذلك يخسف بالشمس والقمر ويزيل النجوم، فتتناثر شبه من يريد هدم بيته فيزيل عنه سائر الأنوار والتجميلات، فيفك المصابيح ويزيل المراوح والمكيفات وسائر ما ينقل من التجميلات ثم يدك أعلاه على أسفله، يقول الله تعالى: ﴿فَإِذَا بَرِقَ ٱلۡبَصَرُ ٧ وَخَسَفَ ٱلۡقَمَرُ ٨ وَجُمِعَ ٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ ٩ يَقُولُ ٱلۡإِنسَٰنُ يَوۡمَئِذٍ أَيۡنَ ٱلۡمَفَرُّ ١٠ كَلَّا لَا وَزَرَ ١١ إِلَىٰ رَبِّكَ يَوۡمَئِذٍ ٱلۡمُسۡتَقَرُّ ١٢ يُنَبَّؤُاْ ٱلۡإِنسَٰنُ يَوۡمَئِذِۢ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ١٣﴾ [القيامة: 7-13]. لهذا حث النبي ﷺ على الاستعداد لهذا الأمر عند ذكره وقبل وقوعه وذلك بفعل الصلاة المشروعة له التي هي من آكد التطوعات، كما أمر بالصدقات وأفعال الخيرات وقال: «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا، هَلْ تَنْتَظِرُوْنَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا، أَوْ غِنَىً مُطْغِيًا، أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا، أَوْ الدَّجَّالَ، فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوْ السَّاعَةَ، فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ؟»[160].
نسأل الله أن يعمنا بعفوه، وأن يسبغ علينا واسع فضله، وأن يستعملنا في طاعته، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
حرر في اليوم الثاني عشر من شهر جمادى الآخرة عام 1389 هجرية. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
* * *
[158] متفق عليه من حديث جابر. [159] المحققون من العلماء يقولون بهذا السبب ويقولون بجواز معرفة وقت الكسوف قبل وقوعه لكونه مما يدرك بالحساب كما ذكر ذلك شيخ الإسلام وابن القيم وابن حزم وغيرهم وكل ذلك بقضاء الله وقدره. [160] أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة.