متقدم

فهرس الكتاب

 

تجاوز حدود الأدب في النقد والمناظرة

ثم إنه قد أساء الأدب في النقد والمناظرة، يتناقض بين بناء وهدم، فحينًا تراه يقول: معاذ الله أن نحلل أو نحرم دون يقين بسند من كتاب أو سنة، ومن إجماع أو قياس صحيح، والله يقول: ﴿وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلٞ وَهَٰذَا حَرَامٞ لِّتَفۡتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ [النحل: 116].

ثم هو يتناقض ويجزم بالتحريم قائلاً:

على العلماء المتجاهلين ما يجري حولهم أن يقرؤوا رسالة ابن حميد، والتي يرد بها على المحلل لما حرم الله المدعو عبد الله بن زيد آل محمود بدولة قطر، والذي خرج على الإجماع وعلى الكتاب والسنة.

وأقول: إن قول المشتهري هذا يدل على أنه يقول بالجزم بالتحريم، والامتناع عن تناول هذه اللحوم. وهو يتناقض مع قوله: إنه باق على الحياد، لا يقول بالتحريم.

ثم يقال له: إنك وصفت الشيخ ابن محمود بأنه المحلل لما حرم الله، وهو لم ينفرد بهذا القول عن غيره بل شاركه في القول علماء أجلاء يُقتدَى بقولهم ويُنتهَى إلى رأيهم، مثل شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن العربي إمام المالكية، ومحمد عبده، ومحمد رشيد رضا صاحب المنار، ويوسف القرضاوي، ومحمد نجيب المطيعي، فهؤلاء هم العلماء الذين ملؤوا الدنيا من المؤلفات التي تدعو إلى الحق وإلى طريق مستقيم، وكلهم يبيحون أكل اللحوم المستوردة من أهل الكتاب.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
إذا جمعتْنَا يا جريرُ المجامعُ
ومن لوازم قول المشتهري أن هؤلاء العلماء يحللون ما حرم الله.

ثم يقول في موضع آخر: وسبق أن قررت أننا من أنصار التيسير على الناس وكم أفتينا بحلها اعتمادًا على قاعدة: مجهول الأصل حلال. وذبائح الكتابي حلال.

وأقول: إن الرجل يتقلب مع الأهواء، ويخبط خبط العشواء، وهو من المقلدين الذين يقيدون الشريعة بقيود توهن الانقياد، والمقلد لا يعد من أهل العلم وقد شبهوه بالجنيبة[152] التي تقاد، وقد قيل في ذلك:
إذا العلم لم يفرج لك الشك لم تزل
جنيبًا كما استتلى الجنيبة قائد
أما ما أشار إليه من رد العلامة الشيخ ابن حميد علي فأهلاً وسهلاً فهو حبيبي في الأصل، وزميلي في الطلب، وأحمل له الود المكين وأُعامله بالإجلال والتكريم. فهو وإن رد علي أو رددت عليه فما هو إلا بمثابة حديث الفكاهة في الآداب تجري بين الأحباب ويبقى الود ما بقي العتاب. غير أنه لا يخفى على العقلاء أنه ليس كل رد صوابًا، فقد رأينا كثيرًا من الناس يردون الحق بالباطل وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، فلا فخر بمجرد الرد وإنما الفخر بصواب النقد. بحيث يقال: قرطس فأصاب.
فكم من مليم لم يصب بملامة
ومتبع بالذنب ليس له ذنب
ثم إن الشيخ المشتهري قد أقام نفسه مقام إمام العلماء وحاكم الحكام، فقد أشار إلى أنه يتلقى كل يوم عشرات الأسئلة ويلاحقه في الدروس والملاحظات جمهور غفير يتساءلون، فهو يَعِدُ الناس ويمنيهم بأنه سيأتيهم بفصل الخطاب في التحليل والتحريم.... وكلامه يدور على محور التحريم.. وقد استوفز لينادي الناس بالتحريم، فلو قال بالتحريم لقلنا له: لا سمعًا لك ولا طاعة، إذ ليس كل داع بأهل أن يصاخ له:
ما أنت بالحكم الترضى حكومته
................................
ثم إن الحكم بتحريم مثل هذه اللحوم والدجاج على الناس مع قوة الشبهة فيها هي أعظم جرمًا وأشد إثمًا من القول بإباحتها. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنه لو تنازع اثنان في هذه اللحوم، فقال أحدهما: إنها حرام، وقال الآخر: إنها حلال، فإن القول هو صحة من يقول: إنها حلال إذ الأصل الإباحة.

ثم إن قوله بأن الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود الذي يحلل ما حرم الله، والذي خرج على الإجماع وعلى الكتاب والسنة، فهو لم يثبت دليلاً نقليًّا أو عقليًّا يؤكد بتحليلي لما حرم الله، إذ الشبهة قوية، والقائلون بالتحليل هم أسعد الناس بالدليل إذ الأصل الإباحة، ولا يوزن بهؤلاء سائر ما ينقله عن الطلاب والغوغاء أو عن رجل في نجران، أو عن علي صالح العود التونسي المقيم بفرنسا، فإننا لو جعلنا هؤلاء في كفة الميزان، وجعلنا أولئك العلماء الأجلاء، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية الذي تحدث عنه المشتهري معترفًا بفضله، وأنه الإمام المجتهد رأس مدرسة تحرير العقول من الخرافات والعالم الذي لا يشق له غبار، لو جعلنا هؤلاء في الكفة الثانية لثقل ميزان هؤلاء العلماء وخف ميزان أولئك الغوغاء.

إذ مبنى أمر هؤلاء على قالوا وزعموا. والنبي ﷺ قال: «بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا»[153].

وقد أوردنا في رسالتنا المسماة فصل الخطاب في إباحة ذبائح أهل الكتاب شهادة الشهود العدول المشاهدين لجزر البقر في سويسرا وأعدلهم عندي الشيخ محمد بن عبد العزيز المانع قاضي قطر سابقًا ثم الشيخ علي بن عبد الله الثاني حاكم قطر سابقًا، ثم أحمد بن يوسف الجابر ثم ثلاثون رجلاً من أتباع الحاكم. فكلهم شهدوا بما شاهدوه من أنهم يأتون بالأبقار والثيران ويذكرون من عظمتها وضخامة أجسامها فيوقفونها مخطومة ثم يقوم الجزار فيضرب الثور بين قرنيه بدبوس فيسقط مغشيًّا عليه، فيعاجلونه بالذبح وهو حي سوي، فعند ذلك قال هؤلاء: نشهد بأن القائلين: إنهم يقتلون الحيوان بالصعق أو بالضرب، أنهم كاذبون في أقوالهم. لهذا اطمأن جميع أهل البلاد على إباحة ما يأكلونه من اللحوم والدجاج ولم يخالطهم شك في صحة ذلك، فمن أراد أن يحرمها على نفسه فهو حر في تصرفه ولا حق له أن يحرمها على غيره.

كما أن الأمر الثابت في قتلهم للدجاج أنهم يصفون الأُلوف على سلك معلقة بأرجلها، ثم يسلطون عليها التيار الكهربائي فتذبح جميعًا في لمحة بصر، ثم يقذفون بها بعد ذبحها في الماء الحار. هذا هو الأمر الصحيح في ذبحها، وهذا العمل بهذه الصفة هو قتل مقصود لإباحة أكل لحمها عندهم، فمتى كانوا يفعلون ذلك ويعتادون أكله فإنه حلال لنا بنص القرآن في قوله سبحانه: ﴿وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حِلّٞ لَّكُمۡ [المائدة: 5]. وإن لم يخرج منه الدم، ولا ينبغي لنا أن ننقب عما يعلفونها به؛ إذ العلف يستحيل في حواصل الطير وكروش الأنعام، وما من إنسان إلا وبطنه مجوف على الغائط والبول والدم، وجسمه مع ذلك طاهر. أما لو علمنا بطريق اليقين أنهم يضربون البقر بالدبابيس حتى تموت، ويلقون الدجاج في الماء الحار وهو حي فإن هذا تعذيب له بغير حق ويوجب تحريمه كالمنخنقة والموقوذة. والنصارى هم أشد رفقًا بالحيوان ويجعلون الجزاء على من يسيء إليه. ومع هذا فإن الله سبحانه لم يكلفنا البحث عما خفي علينا.

ثم أين هذا الإجماع الذي يذكر المشتهري أن الشيخ ابن محمود خرقه؟

[152] الجَنِيبة: الدابة تُقاد. [153] أخرجه أبو داود من حديث أبي مسعود.