متقدم

فهرس الكتاب

 

الرَّد على المعترضين

الحمد لله ثم الصلاة والسلام على محمد رسول الله.

أما بعد:

فقد وصل إليّ رسالة من باريس، يسأل صاحبها عن مسائل مما يتعلق برسالتنا فصل الخطاب في إباحة ذبائح أهل الكتاب.

قائلا: إنني تلقيت رسالتك فصل الخطاب في إباحة ذبائح أهل الكتاب، فرأيت فيها في صفحة 25 قولك: (وقد فتح الصحابة بلدان الروم وفارس وهي تغص بشتى الأمم الكافرة، فكانوا يأكلون ذبائحهم) فسألتك عن مصدر هذه المعلومات.

فأجبته قائلا: اعلم أخي أن من جهل شيئًا بادر بإنكاره وتكذيبه، وذلك لا يغنيه من الحق شيئًا، وأن الأمانة في النقل توجب على الناقل أن ينص الحديث إلى أهله كما قيل:
ونُص الحديث إلى أهله
فإن الوثيقة في نصه
وأنا أحيلك في ذلك إلى نقل الثقة الثبت العالم بالمعقول والمنقول وبالتاريخ والسير، أعني شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية رحمه الله فقد قال في المجلد الثاني من الفتاوى الكبرى في مسألة ذبائح أهل الكتاب ص 153، قال: إن مسائل الاجتهاد لا يسوغ فيها الإنكار إلا ببيان الحجة وإيضاح المحجة، لا الإنكار المستند إلى محض التقليد إلى أحد العلماء أو أئمة المذاهب، فإن هذا من فعل أهل الأهواء والجهل. ثم قال: الوجه التاسع أن يقال: ما زال المسلمون في كل عصر ومصر يأكلون ذبائح أهل الكتاب، ومن يسكن معهم في بلادهم. فمن أنكر ذلك فقد خالف إجماع المسلمين. انتهى.

إنك لو أعطيت الرسالة حقها من التأمل والتدبر، لوجدت فيها صريح ما ذكرنا. وقد كانت بلدان النصارى في قديم الزمان وحديثه مختلطة بشتى الأمم الكافرة.

وأما قولك: وهل يوجد في ذلك الزمان دكاكين تباع فيها اللحوم؟ فالجواب: أن هذا سؤال واقع في غير موقعه الصحيح، إذ من المعلوم أن أحوال الناس متجانسة، فما أشبه الليلة بالبارحة، فإن الدكاكين موجودة زمن الصحابة وقبلهم، ولا يزال لها ذكر في الكتب والعلوم الشرعية، وتسمى الحوانيت، ولم يزل من قديم الزمان البيع فيها، كما قالوا: إن عمر بن الخطاب حرق الحوانيت التي يباع فيها الخمر.

وليس من شأن علم الفقه والأصول أن يذكر ما تشتمل عليه الحوانيت من صغير وكبير، وجليل وحقير، حتى يذكر بيعها اللحم. إذ لا يتعلق بذكره حكم، فإن اللحم الحلال بيعه حلال. وكان ابن عباس يعطي خادمه دراهم يوم عيد الأضحى يشتري بها له لحمًا ويقول له: إن سألك أحد عن هذا اللحم قل: هذه أُضحية ابن عباس. ذكرها ابن قدامة صاحب المغني في كتاب الأضاحي.

ثم قلت: وهل القاضي ابن العربي رسول الله حتى يقبل كل ما أدى إليه اجتهاده، إذ المجتهد يخطئ ويصيب.

وأقول: إن شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن العربي وغيرهما من سائر الأئمة ليسوا بأرباب ولا أنبياء، ولكنهم مجتهدون، يؤخذ من قولهم ويترك، ومع هذا فإنهم أعرف مني ومنك بالمعقول والمنقول، وأقرب إلى فهم النصوص والأصول، لكن العلماء المؤلفين عندما يخوضون في بحور العلوم الواسعة، ويتعرضون فيها للمشاكل الغامضة التي من شأنها أن يخفى التحقيق فيها على بعض العلماء المشاهير فضلا عن العامة، فهم يسوقون أقوالهم مساق الاستئناس والتقوية حذرًا من دعوى الشذوذ بها، فهم يحتجون بها على سبيل الاعتضاد لا الاعتماد، عملا بقوله سبحانه: ﴿فَسۡ‍َٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٤٣ بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلزُّبُرِۗ [النحل: 43-44]. ولقول النبي ﷺ في صاحب الشجة: «هَلَّا سَأَلُوا إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا، فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ»[145] وكان بعض الصحابة قد تصدوا للإفتاء والنبي ﷺ حي.

وأنا أزيدك بحثًا مما عسى أن يزيدك علمًا، وذلك أن النبي ﷺ والذين أسلموا معه بمكة، وهم كبراء المهاجرين وعلماؤهم، مكثوا بمكة عشر سنين وهم يأكلون من اللحوم مما يأكله ويذكيه أهل مكة على كفرهم، ولم يثبت عن النبي ﷺ أنه نهى الصحابة عن أكل لحومهم، بل ثبت عنه في حديث الهجرة أنه لما أتى أُم معبد في خيمتها، وهي على دين قومها: الشرك، فكان أول ما بدأها به أن قال: «هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ لَحْمٍ أَوْ لَبَنٍ؟». فقالت: والله لو كان عندنا شيء من ذلك لم نحوجكم إلى القرى[146]. وكان القوم مسنتين (مجدبين) ذكره ابن هشام، وابن كثير. إنه لم يسألها عن اللحم إلا ليأكله، مع علمه ببقاء جاهليتها.

ولقد رأيت في فتاوى بعض علماء هذا العصر، لما طرق موضوع الكلام على تحريم ذبائح الشيوعيين، علل ذلك بأن الله سبحانه أباح ذبائح الأنعام للمؤمنين وأهل الكتاب يتنعمون بها في حياتهم، بخلاف الكافر الذي ينكر وجود الرب، ويجحد رسالاته، فإن الله سبحانه لم يعطه الحق في أن يذبح ويأكل من هذه الحيوانات والدجاج المخلوقة، إذ ليس له الحق في أن يزهق روح حيوان، وليس عنده إذْنٌ من الله في إباحة أكله فلا يحل ذبحه وذبيحته. ومن هنا نعلم أنه لا يجوز للمسلمين أن يأكلوا هذا الدجاج واللحوم التي تجلب من عند الشيوعيين، فقد ذبحها قوم ينكرون وجود الله عز وجل. انتهى.

وأقول: إن هذا العالم- عفا الله عنه- قد حصر جواز الذبح للحيوان والطيور والانتفاع بأكله لخواص المسلمين وأهل الكتاب، بخلاف الكفار. فإنهم بزعمه لا يجوز لهم أن يذبحوا، ولا أن يأكلوا، ولو لخاصة أنفسهم أو بني جنسهم، وهذا خطأ فهم يغفر الله له. ومن كان هذا غاية اعتقاده، وكونه علة التحريم لما ذبحه الكافر، فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر، فإن الحيوانات والطيور وذبحها والتمتع بأكلها هي من أُمور الدنيا التي يشترك فيها المسلم والكافر، والبر والفاجر؛ فإن الله سبحانه خلق البهائم كرامة ونعمة لجميع الناس، مسلمهم وكافرهم، كسائر الثمرات والخيرات، يقول الله تعالى: ﴿كُلّٗا نُّمِدُّ هَٰٓؤُلَآءِ وَهَٰٓؤُلَآءِ مِنۡ عَطَآءِ رَبِّكَۚ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحۡظُورًا ٢٠ [الإسراء: 20]. وقال: ﴿قُلۡ مَنۡ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيٓ أَخۡرَجَ لِعِبَادِهِۦ وَٱلطَّيِّبَٰتِ مِنَ ٱلرِّزۡقِۚ قُلۡ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا خَالِصَةٗ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ [الأعراف: 32]. للمؤمنين فلا يشاركهم فيها غيرهم. ثم قال سبحانه: ﴿وَإِنَّ لَكُمۡ فِي ٱلۡأَنۡعَٰمِ لَعِبۡرَةٗۖ نُّسۡقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمۡ فِيهَا مَنَٰفِعُ كَثِيرَةٞ وَمِنۡهَا تَأۡكُلُونَ ٢١ [المؤمنون: 21]. والخطاب لجميع الناس، فصرح القرآن بإباحة أكل هذا الحيوان لجميع الناس على حد سواء. يقول الله تعالى: ﴿وَٱلۡأَنۡعَٰمَ خَلَقَهَاۖ لَكُمۡ فِيهَا دِفۡءٞ وَمَنَٰفِعُ وَمِنۡهَا تَأۡكُلُونَ ٥ [النحل: 5]. والخطاب لجميع الناس مسلمهم وكافرهم.

والله سبحانه لم يبح أكل لحوم الأنعام لجميع الناس مسلمهم وكافرهم إلا وهو مستلزم لإباحة ذبحه لكل مسلم وكافر، لكونه من التمتع بأمور الدنيا كالألبان والثمرات وسائر أنواع الخيرات. وكذا السمك، صيده وأكله، إذ صيده بمثابة تذكيته المباحة في حق كل مسلم وكافر، فلا معنى لاختصاص المؤمنين بها دون غيرهم، ولا عبرة بغفلة العلماء والأئمة عن مثل هذه المسألة، إذ كلهم مجمعون على أن من استبان له الحق، فإنه يجب عليه اتباعه، وإن خالف جميع الناس، إذ لا يترك حق لانفراد قائله، كما أنه لا يقبل باطل لكثرة ناقله. وكما قال سبحانه: ﴿۞وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ وَحَمَلۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِيلٗا ٧٠ [الإسراء: 70].

واللحم وإباحته هو من أطيب الطيبات، كاللبن والثمرات، وسائر الخيرات المخلوقة بطريق الاشتراك بالتنعم بها بين المسلمين والكفار. وفي دعوة إبراهيم عليه السلام حيث قال: ﴿وَٱرۡزُقۡ أَهۡلَهُۥ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ مَنۡ ءَامَنَ مِنۡهُم بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ فقال الله: ﴿وَمَن كَفَرَ [البقرة: 126]. أي فإنني أرزقه من الثمرات وأنواع الطيبات، فلا نجد دليلاً قاطعًا من الكتاب والسنة يحرّم ذبح الكافر للحيوان والدجاج، ولا يحرم أكل ما ذبحه الكفار، سوى أقوال لا تقوم عليها الحجة، كقول هذا المفتي ونحوه من أقوال الفقهاء المتقدمين التي يتناقلونها بينهم بدون دليل.

والحق فوق قول كل أحد، ولا حرام إلا ما حرم الله ورسوله، خصوصًا عند من يرى أن الذبح من العادات لا من العبادات، إلا إذا قصد به العبادة، كذبح الأضحية، والنسك، والعقيقة، والمنذورة لله. وإن قصد به الشرك، كالذبح للقبر أو الولي، أو الجن، أو الزار، فإنه حرام ذبحه وأكله، لكونه مما أُهل به لغير الله. وقد نهى الله عباده عن أن يقولوا في الشيء: هذا حرام بدون يقين من التحريم، فقال سبحانه: ﴿وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلٞ وَهَٰذَا حَرَامٞ لِّتَفۡتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ [النحل: 116]. وقال: ﴿وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تَأۡكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِ [الأنعام: 119].

وهذه المحرمات التي فصّلها القرآن هي المذكورة في قوله سبحانه: ﴿فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَٰلٗا طَيِّبٗا وَٱشۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ إِيَّاهُ تَعۡبُدُونَ ١١٤ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١١٥ [النحل: 114-115].

فبدأها بقوله: ﴿إِنَّمَا وهي أداة حصر، كأنه لا حرام غيرها، كما حصر بقوله: ﴿قُل لَّآ أَجِدُ فِي مَآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطۡعَمُهُۥٓ إِلَّآ أَن يَكُونَ مَيۡتَةً أَوۡ دَمٗا مَّسۡفُوحًا أَوۡ لَحۡمَ خِنزِيرٖ فَإِنَّهُۥ رِجۡسٌ أَوۡ فِسۡقًا أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦ [الأنعام: 145].

ثم عاد إلى بيان تحريم ذلك في سورة المائدة التي هي من آخر القرآن نزولاً، فأحلوا حلالها وحرّموا حرامها. قال: ﴿حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةُ وَٱلدَّمُ وَلَحۡمُ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦ وَٱلۡمُنۡخَنِقَةُ وَٱلۡمَوۡقُوذَةُ وَٱلۡمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيۡتُمۡ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ [المائدة: 3].

فهذا التحريم في هذه الآية هو نفس التحريم في الآيات قبلها، إلا أن فيها تقسيم أنواع الميتة، وأن منها ما يموت حتف أنفه، ومنها ما يموت بسبب الخنق بالحبل وغيره. ومنها ما يموت بمثقل، ويسمى بالوقيذ وهو المقتول بالمعراض والدبوس وغير ذلك، فإن قتل بحده فخرق حل أكله. ومنها المتردية من جبل أو سطح عال، ومنها ما أكلته السباع، فكل هذه متى ماتت فقد فاتت على صاحبها وحرّم أكلها، فإن أدركها صاحبها وبها حياة مستقرة، كأن تومئ بطرفها أو ذنبها، فذكاها، حلّ أكلها.

وإنما حرمت هذه الأنواع من أجل أن فيها تعذيب الحيوان عند إرادة ذبحه للأكل، وفي الحديث «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» رواه مسلم عن أبي يعلى شداد بن أوس.

لقد كان النبي الكريم، والرسول الرؤوف الرحيم، يراعي الإحسان إلى الحيوان برحمته في راحته عند ذبحه، بسرعة إزهاق روحه، حتى يموت فيستريح، فقال: «وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ»، وإن القصد هو إخراج روحه حتى لا يحس بالسلخ والطبخ. وإن الناس في هذا الزمان، وخاصة في بلدان النصارى، قد أحدثوا للذبح عملية مريحة، يرون أنها أرفق وأسهل للحيوان عند ذبحه، وخاصة الدجاج، فهم يصفّون ألفًا، أو عشرة آلاف دجاجة على سلك كهربائي، فيسلطون عليه تيار الكهرباء، فتموت كلها في لمحة البصر. وهذه عملية غاية في الراحة عند الذبح، وهو عمل مقصود للتذكية عندهم. لكن المسلمين ينكرون هذا الذبح بهذه الصفة، حيث لا يرون عليه أثر الدم، فهم يلحقونه بالميتة. ولأن النبي ﷺ قال: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ؛ فَكُلْ، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ، أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ» متفق عليه[147].

فالقتل بالظفر وبالسن هو تعذيب للحيوان، مضاد لراحته ورحمته عند ذبحه، ويظهر من الحديث أن ذكر الدم جرى مجرى العادة عند الناس وكونها لا يمكن أن تؤكل ويحل لحمها إلا بالتذكية المعتادة، التي من لوازمها خروج الدم وقطع الحلقوم والمريء بآلة حادة. وقد أجاز النبيﷺ ذبح المرأة لشاة بحجر ولم يسأل عن كيفية ذبحها. على أن خروج الدم ليس هو المبيح لأكلها، فلو طعنها بفخذها أو في بطنها، فظهر دمها، فماتت، لم يحل أكلها إذا كانت مقدورًا عليها؛ لأن هذه الصفة تعذيب للحيوان بغير حق. ويستثنى غير المقدور عليها كالبعير الناد، والتيس الشارد، والمتردية في البئر، فإنه إذا طعنها في أي موضع من جسدها أُبيح أكلها.

وقد ثبت بالكتاب وبالسنة جواز أكل نوع من الحيوان بدون تذكية، وبدون خروج الدم، وهو ما صاده الصقر، أو صاده الكلب المعلم، وذكر اسم الله عليه، فإنه يباح أكله، وإن لم يجرح، لقوله سبحانه: ﴿فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ وَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ [المائدة: 4]. والنبي ﷺ قال: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ، فَوَجَدْتَّهُ قَدْ قَتَلَ، وَلَمْ يَأْكُلْ، فَكُلْ إِنْ شِئْتَهُ»[148]. وقد بسطت الكلام وذكرت أقوال العلماء في متروك التسمية في رسالة فصل الخطاب. فليراجع، حيث فسرها بعض العلماء بالميتة، وفسرها بعضهم بالمذبوح للأصنام والقبور.

وقلت أيضًا في الرسالة: أفلا نجعل ما ذبحه أهل الكتاب بمثابة ما قتلته الصقور والكلاب، بحيث نسمي الله عليه ونأكله، ولا نسأل عنه، حتى ولو لم نجد عليه أثر الدم، لكون القتل بالكهرباء هو تذكية مقصودة لراحة الحيوان والدجاج، بإزهاق روحه بسهولة، فيقول بعض الفقهاء: إن الدم متى بقي في الجسم ولم يخرج منه فإنه ينجس اللحم، فهذا ليس بصحيح، فإن الدم متى بقي في الجسم فإن حكمه حكم اللحم طهارة ونجاسة، والله سبحانه إنما حرّم على الناس الدم المسفوح، وقد ذكرنا إباحة ما صاده الصقر والكلب وإن لم يجرحا.

والحاصل: أن الذبح بالكهرباء جائز، ويترتب عليه صحة مقتضاها من إباحة أكلها. وقد أهدت اليهودية إلى النبي ﷺ الشاة المشوية، فأكلها وأصحابه، ولم يسأل عن كيفية تذكيتها.

وقد جاءت السنة بتحريم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، وأكل الحمر الإنسية، وفي الجميع الخلاف المشهور عند الأئمة.

كيف يستدلون بحديث قوم حديثي عهد بجاهلية وهم مسلمون وليسوا بكفار على جواز ذبائح غير المسلمين؟

فالجواب: أن هذا الحديث مشهور، وله دخل في أُصول الأحكام، وأمور الحلال والحرام. رواه البخاري ومسلم عن عائشة أُم المؤمنين: أن قومًا قالوا: يا رسول الله، إن قومًا حديثو عهد بجاهلية يأتوننا باللحم، لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال: «سَمُّوا اللهَ أَنْتُمْ، وَكُلُوا».

وهذا دليل قاطع على أن جميع الأشياء المجهولة يرجع فيها إلى أصل الإباحة حتى يثبت دليل التحريم.

ولما جاء عمر بن الخطاب ومعه عمرو بن العاص إلى صاحب حوض فيه ماء فقال عمرو بن العاص: يا صاحب الحوض، هل يرد على حوضك الكلاب والسباع؟ فقال عمر بن الخطاب: يا صاحب الحوض، لا تخبرنا. وكذا يقال في المياه المتحجرة في الطرق وكونها محكومًا عليها بالطهارة. وكذلك اللحوم والدجاج والأدهان والألبان، وسائر ما يجلب من الخارج، فكل هذه محكوم بطهارتها وإباحة أكلها، فهي داخلة في عموم قوله: «سَمُّوا اللهَ أَنْتُمْ، وَكُلُوا».

ولم يكلفنا الله ولا رسوله البحث والتفتيش عما خفي علينا. وحيث يقول بعض الناس: إن في بعض الأدهان دهن خنزير، وإنهم يقتلون الحيوان بالصعق، بأن يضربه على رأسه حتى يموت، وإنهم يقتلون الدجاج بإلقائه في الماء المحرق وهو حي حتى يموت، فكل هذا من الدجل الذي يتلقفه بعضهم عن بعض، على سبيل: قالوا وزعموا.. وفي الحديث: «بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا»[149].

والصحيح أنهم إنما يضربون الحيوان - وخاصة الثيران- على رأسها بالدبوس، لغيبوبة إحساسه عن قوة الحركة والاضطراب، ثم يذكونه بالسكين وهو حي سوي، وكذلك الدجاج إنما يلقون به في الماء الحار بعد قتله بالكهرباء، وهو أمر جائز بدون ملام، إذ ليس بجرح ميت إيلام. أما الذين يحتجون بتحريم ما ذبحه الكفار فليس عندهم سوى مفهوم قوله سبحانه: ﴿وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حِلّٞ لَّكُمۡ [المائدة: 5]. وهذا مفهوم لقب، ولا يحتج به عند الجمهور، ولو كان حجة لقلنا في قوله سبحانه: ﴿وَطَعَامُكُمۡ حِلّٞ لَّهُمۡ [المائدة: 5]: إن ذبائح المسلمين حلال على أهل الكتاب وحرام على غيرهم، ولم يقل بذلك أحد، فبطل الاحتجاج به.

أما لو علمنا بطريق اليقين أنهم يلقونه في الماء الحار وهو حي حتى يموت، فإن هذا تعذيب له بغير حق، والله قد كتب الإحسان على كل شيء، فهو عمل حرام، حتى عند النصارى، فإنهم أشد رفقًا بالحيوانات، ولديهم جمعيات للرفق بالحيوان، ويوقعون الجزاءات والعقوبات على من يقع منه التعدي على الحيوان. ومع هذا كله فإننا لا نتكلف البحث عما خفي علينا. فلو تصدى شخص للسؤال عن كل ما يقدم إليه من اللحم، أو عما يشتريه، فإنه يعجز لا محالة عن الوقوف على اليقين فيه، يسأل عن ذابحه أهو كتابي أو مشرك؟ ثم يسأل: هل ذكر اسم الله عليه أم لا؟ ثم يسأل: هل قطع منه الحلقوم والمريء المشروط لصحة تذكيته عند الفقهاء أم لا؟

فلو فعل ذلك لعده الناس مجنونًا، لكونه غاية في التكلف، والنبي ﷺ قال: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ». قالها ثلاثًا[150]. ويكفي عن هذا كله في إباحة أكله أن يقول: باسم الله. ثم يأكل، فإن التسمية تقتضي تطهيره وإباحة أكله. وقد أهدت اليهودية للنبي ﷺ شاة مصلية، فأكل منها وأصحابه، ولم يسأل عن كيفية ذبحها ولا عن ذابحها، وقد قدمنا فيما سبق: أن الذبح هو من العادات وأمور الحياة التي يشترك فيها البر والفاجر، والمسلم والكافر، إلا ما استثنى الله من كتابه ورسوله في سنته من المحرمات. وقد قال مفتي المنار: إن مسألة الذبح والذبائح ليست من المسائل التعبدية، وإنه لا شيء من فروعها يتعلق بروح الدين وجوهره إلا تحريم الذبح لغير الله، لأن هذا من عادة الوثنيين، وشعائر المشركين، فحرم الله علينا أن نشاركهم فيها، كما حرم علينا التزوج بالمشركات بالنص الصريح في قوله سبحانه: ﴿وَلَا تَنكِحُواْ ٱلۡمُشۡرِكَٰتِ حَتَّىٰ يُؤۡمِنَّ [البقرة: 221]. وقال: ﴿وَلَا تُمۡسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلۡكَوَافِرِ [الممتحنة: 10]. ولم يحرم علينا ذبائح المشركين بالنص الصريح، بل حرم علينا ما أُهل به لغير الله. فأمر الزواج أهم من أمر الطعام، انتهى.

ثم إن السائل أورد علينا خبرًا زعمه حديثًا، وهو قوله في المجوس: سنوا بهم سنة أهل الكتاب، غير ألا تأكلوا ذبائحهم، ولا تنكحوا نساءهم، وزعم أنه رأى ذلك في فتوح البلدان للبلاذري، وفي تاريخ ابن جرير.

فأجبته بأن هذا النص المقتضي للتحليل والتحريم لا ينبغي أن يؤخذ من التاريخ، إذ إن التواريخ على اختلافها مبنية على القصص والأخبار، فيدخل التساهل في النقل، ويدخل فيها الكذب والزيادة والنقص كما قيل:
لا تقبلن من التوارخ كلَّ ما
جمع الرواة وخط كل بنان
وقد حقق علماء الحديث عدم صحة هذا، وكونه لم يثبت فيه إلا قوله: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ». يعني في أخذ الجزية منهم، وهو حديث منقطع. قال ابن حجر العسقلاني في قوله: غير ألا تأكلوا ذبائحهم ولا تنكحوا نساءهم. قال: فهذه مدرجة وليست من أصل الحديث... والصحابة إنما حصل الكلام بينهم في ضرب الجزية على المجوس، حيث قال بعضهم: إنهم وثنيون يعبدون النار، فلا يجوز أخذ الجزية منهم، فشهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله ﷺ أخذ الجزية من مجوس هجر.

وأما تحريم ذبائحهم فلم يثبت تحريمها بنص صحيح، غير أن الصحابة لمّا هداهم الله إلى الإسلام صاروا يبغضون المشركين وذبائحهم، ويظنونها مما ذبح لغير الله، ويمتنعون عن أكل طعامهم، ويتلون قوله: ﴿إِنَّمَا ٱلۡمُشۡرِكُونَ نَجَسٞ [التوبة: 28].

ولما قدم أبو سفيان المدينة لمحاولة تجديد صلح الحديبية، فنزل على ابنته أُم حبيبة زوج النبيﷺ فجلس على حصير فطوته من تحته، فقال لها: أرغبت بي عن هذا الحصير؟ أم رغبت به عني؟ قالت: بل رغبت به عنك، إنه فراش رسول الله ﷺ وأنت مشرك نجس.[151] حسبت بدن المشرك وثيابه نجسة، والله سبحانه إنما عنى نجس الاعتقاد.

ولو كان كل ما ذبحه الكفار لإرادة الأكل أو البيع حرامًا كتحريم الميتة ولحم الخنزير، لما سكت القرآن والسنة عن بيان ذلك، فإنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه مع العلم بكثرة اختلاط المسلمين بسائر أمم الكافرين من وثنيين وشيوعيين ومجوس وصابئين في كل زمان ومكان، من قديم الزمان وحديثه. وما يشعرني أن سكوت القرآن والسنة عن تحريم ما ذبحه الكفار على اختلاف مللهم، أنه رحمة من الله لعباده، لعموم البلوى بكثرة اختلاط المسلمين بهم، وشدة حاجتهم إلى ذبحهم وذبائحهم؛ لما روى أبو ثعلبة الخشني أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ، فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَّدَ حُدُودًا، فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلا تَبْحَثُوا عَنْهَا» رواه الدارقطني بإسناد حسن.

فكل ما سكت القرآن والسنة عن تحريمه فإنه حلال قطعًا. والله يقول: ﴿وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِ [الأنعام: 119]. وحيث لم نجد تفصيل التحريم لما ذبحه الكفار في الكتاب ولا في السنة علمنا حينئذ أنه مباح قطعًا، فإن الحلال هو ما أحل الله ورسوله، والحرام ما حرّم الله ورسوله، وما سكت عنه فهو عفو، أي حلال، فاقبلوا من الله عفوه، واحمدوه على عافيته، ولا تغلوا في دينكم، ولا تقولوا على الله إلا الحق، ولا تحرّموا طيبات ما أحل الله لكم. ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين.. والله أعلم.. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم.

[145] أخرجه أبو داود من حديث جابر. [146] انظر السيرة لابن هشام. [147] متفق عليه من حديث رافع بن خديج. [148] انظر نحوه (مسلم) كتاب الصيد والذبائح عن عدي بن حاتم وعن أبي ثعلبة الخشني. [149] رواه البخاري في (الأدب المفرد) عن ابن مسعود، ورواه الإمام أحمد وأبو داود عن حذيفة. [150] رواه مسلم من حديث عبد الله بن مسعود. [151] أخرجه البيهقي في دلائل النبوة من حديث مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة.