متقدم

فهرس الكتاب

 

الأدهان والجبن المستورد مِن بُلدان أهل الكتاب وغيرهم

إنه قد شاع بين الناس القول بتحريم الأدهان النباتية وغيرها، بحجة أنه يوجد فيها شيء من دهن الخنزير، كما أشاعوا أيضًا عن الجبن المجلوب من بلدانهم، وأن فيه شيئًا من جبن الخنزير، فهذه الأدهان وهذا الجبن محكوم بطهارتها وإباحة أكلها كسائر الأدهان الطبيعية، ومتى علم فيهما شيء من دهن الخنزير أو جبنه عن طريق اليقين فإنه يجب اجتنابها، ولا ينبغي أن يعتمد في التحليل والتحريم قول العامة، إذ إن أكثر أقوالهم لا يعتمد على شيء من اليقين، لكن تعرف نجاستها بالكتابة المرقومة عليها، فمتى كتب عليها أن بها جزءًا من دهن الخنزير أو جبنه، وجب اجتنابها.

وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في صفحة 153 من المجلد الثاني من الفتاوى القديمة.. قال ما نصه:

إن مسائل الاجتهاد لا يسوغ فيها الإنكار إلا ببيان الحجة، وإيضاح المحجة، لا الإنكار المستند إلى محض التقليد إلى أحد العلماء أو الأئمة، فإن هذا من فعل أهل الجهل والأهواء.

قال: وإذا تنازع اثنان في لحوم أهل الكتاب، أحدهما يقول بالإباحة والآخر يقول بالتحريم، فإن القول هو قول من يدعي الإباحة، إذ هي الأصل.

ثم قال: الوجه التاسع أن يقال: ما زال المسلمون في كل عصر ومصر يأكلون ذبائح أهل الكتاب، ومن يسكن معهم في بلادهم، فمن أنكر ذلك قد خالف إجماع المسلمين.

قال: وهذه الوجوه تثبت بيان رجحان القول بالتحليل، وأنه مقتضى الدليل، وأن مثل هذه المسألة ونحوها من مسائل الاجتهاد لا يجوز لمن تمسك فيها بأحد القولين أن ينكر على الآخر بغير حجة ودليل، فإنه خلاف إجماع المسلمين.

فقد تنازع المسلمون في جبن المجوس والمشركين، فليس لمن رجح أحد القولين أن ينكر قول الآخر إلا بحجة شرعية، وكذلك تنازعوا في متروك التسمية، وفي ذبائح أهل الكتاب إذا سمّوا عليها غير الله. وتنازعوا في ذبح الكتابي للضحايا، ونحو ذلك من المسائل الاجتهادية. وقد قال بكل قول طائفة من أهل العلم المشهورين. فمن صار إلى قول منهم مقلّدًا لقائله، لم يكن له أن ينكر على من خالفه، ولا يجوز لأحد أن يرجح قولا على قول بغير دليل، ولا يتعصب لقول على قول بغير حجة، بل إن من كان مقلدًا لمذهبه لزمه حل ربقة التقليد عن عنقه، فلا يرجح ولا يزيف ولا يصوّب.

ومن كان عنده شيء من العلم والبيان فليقل به، ويجب أن يستمع ما يتبين أنه الحق، ويرد ما تبين أنه الباطل.. والله سبحانه قد فاوت بين الناس في قوى الأذهان كما فاوت بينهم في قوى الأبدان، فمن لم يعرف إلا قول عالم واحد، وحجته دون قول العلماء وحجتهم، فإنه من العوام المقلّدين، لا من العلماء المجتهدين الذين يرجحون.. والله الموفق.. انتهى.

وعلى كل حال، فإن هذه المسألة ليست من أصول دين الإسلام، ولا من عقائده وقواعده، وإنما هي مسألة فرعية يقع الخلاف دائمًا بين العلماء فيما هو أكبر منها، لا سيما على قول من يقول: إن الذبح من العادات..

والله يعلم أنني لم أتخوض فيما قلت بمحض التخرّص في الأحكام، ولا الاستهانة بأمور الحلال والحرام، وإنما بنيت ما قلت على صريح الدلائل من الكتاب والسنة، قارنًا كل قول بدليله، مميزًا بين صحيحه وعليله. وقد يظهر لقارئه ما عسى أن يخفى على قائله: ﴿وَفَوۡقَ كُلِّ ذِي عِلۡمٍ عَلِيمٞ ٧٦ [يوسف: 76].

فأيما عالم تبين له من الحق خلاف ما قلت بمقتضى الدلائل الواضحة من الكتاب والسنة، فإن من واجبه أن يبينه للناس ولا يكتمه، فإن الحق فوق قول كل أحد، والحق أحق أن يتبع، والعلم جدير بأن يستمع، وسبحان من لا رادّ لأمره ولا معقب لحكمه، نعم المولى ونعم النصير.

وفي الختام، فإن الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرّمه الله، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عفوه، واحمدوه على عافيته، ولا تغلوا في دينكم ﴿وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلٞ وَهَٰذَا حَرَامٞ لِّتَفۡتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ لَا يُفۡلِحُونَ ١١٦ [النحل: 116].

والله أعلم.. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

* * *