متقدم

فهرس الكتاب

 

فصْـل

ويظهر أن القول بتحريم ذبائح المشركين اشتهر بين الصحابة؛ لمبالغتهم في تحريم الشرك، والتنفير عن الذبح لغير الله، فكانوا لا يقربون الأكل من ذبائح المشركين؛ لكونها مظنة لذلك. ويحتمل أنهم قالوا ذلك في سبيل دعوتهم إلى دين الإسلام، حيث إنهم اشتد بغضهم للشرك والمشركين، وهم بنو العم والعشيرة، فأرادوا هجرهم بعدم إجابة دعوتهم، وتحريم ذبائحهم، فيحدث لهم بذلك شيء من الانكسار والذل، مما يرجى أن يحدو بهم إلى الالتجاء باعتناق الإسلام واعتقاده، ولأن من سياسة دين الإسلام التشديد في معاملة مشركي العرب، حتى لا يبقى في الجزيرة منهم أحد إلا ويدخل في الإسلام. وخفف في معاملة أهل الكتاب استمالة لهم إلى دين الإسلام، وبيان سماحته معهم. وإلا فإن الله سبحانه قال: ﴿وَلَا تَأۡكُلُواْ مِمَّا لَمۡ يُذۡكَرِ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ وَإِنَّهُۥ لَفِسۡقٞ [الأنعام: 121]. سواء فسرناه بمتروك التسمية، أو الميتة، أو بما ذبح لغير الله من الأصنام والقبور، ثم قال: ﴿وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تَأۡكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ [الأنعام: 119].

وإن سبب إباحة الذبيحة بالتذكية؛ هو البعد عن مشابهة المشركين في أكلهم الميتة من المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وأكيلة السبع، حيث كانوا يستبيحون أكل هذه الأنواع بعد موتها، ويقولون: كيف نأكل ما قتلنا ولا نأكل ما قتل الله؟

وإن سبب وجوب التسمية على الذبح والصيد هو إبعاد المسلمين عن مشابهة المشركين، أو مشاركتهم في الذبح لغير الله، وإهلالهم بالذبح لأصنامهم والمقبورين منهم. وكانوا يرفعون أصواتهم بالإهلال بها لأصنامهم، فأحب القرآن أن يطهرهم من كل ما كانوا عليه من أدران الشرك الذي هو شائع ومنتشر بينهم. وقد اعتادوا النطق عند الذبح بذكر أصنامهم، كاللات والعزى ومناة وهبل، وأصنام متعددة ومتنوعة، فهم غارقون في محبتها، وتقديم القرابين لها. ولما قدم وفد خولان على النبي ﷺ فقال لهم: «ما فعل عم أنس؟». وكان لهم صنم يعبدونه يسمونه عم أنس. فقالوا: أبدلنا الله به ما جئت به. وقد بقيت منا بقايا من شيوخ كبار وعجائز متمسكين به، وإننا منه في شر وفتنة. فقال رسول الله: «وما أعظم ما رأيتم من فتنته؟» فقالوا: لقد رأيتنا أسنتنا - أي أجدبنا - سنة حتى كنا نأكل الرّمّة، فجمعنا ما قدرنا عليه من المال حتى اشترينا مائة ثور، فنحرناها كلها قربانًا لعم أنس، وتركنا السباع ترتادها، وتتردد عليها، ونحن والله أحوج إليها من السباع[143]. فجاءنا الغيثُ من ساعتنا، ولقد رأينا العشب يواري الرجال، ويقول قائلنا: أنعم علينا عم أنس.... فرجعوا إلى قومهم، فلم يحلّوا عقدة حتى هدموا عم أنس.

ولهذا أكثر الله سبحانه من تحريم ما أُهل به لغير الله، وقد بقي في الناس بقايا من أثر الجاهلية الأولى، وعادات الشرك والمشركين، وذلك في ذبحهم حين يستجدون سكنى بيت، فيذبحون على عتبته ذبيحة أو ذبائح للجن لا يسمّون الله عليها، فهي مما أُهل به لغير الله، حرام أكلها. ومثله: ما ذبح للزار في سبيل رضائه؟ فهي مما أُهل به لغير الله. ومن الشرك بالله: الذبح لغير الله. وقد لعن رسول الله ﷺ من ذبح لغير الله.

وحاصل الأمر: أن بلدان الشيوعية، كسائر بلدان الكفار الذين لا يدينون بدين الإسلام. وحيث لم نجد لذبحهم وذبائحهم التي تذبح للأكل أو البيع نصًّا صريحًا يحرمها، كما حرّم سبحانه نكاح المشركين والمشركات في قوله: ﴿وَلَا تُمۡسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلۡكَوَافِرِ [الممتحنة: 10]. وفي قوله: ﴿وَلَا تَنكِحُواْ ٱلۡمُشۡرِكَٰتِ حَتَّىٰ يُؤۡمِنَّۚ وَلَأَمَةٞ مُّؤۡمِنَةٌ خَيۡرٞ مِّن مُّشۡرِكَةٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡ [البقرة: 221]. وتحريم نكاح المشركات لا يستلزم تحريم ذبائحهم، ولكل شيء حكمه.

وقد فتح الصحابة بلدان الروم وفارس، وهي تغص من شتى الأمم الكافرة، فكانوا يأكلون ذبائحهم، وجبنهم، ويدهنون بدهنهم، ولم يثبت عنهم نصب مراقبين على الجزّارين ليميزوا بين ذبيحة أهل الكتاب وذبيحة غيرهم، لكون الأصل في الذبائح المجهولة الإباحة.

ثم إنني بعد كتابتي لما ذكر رأيت في تفسير المنار التصريح بهذه المسألة قائلا[144]:

أخذ الجمهور من مفهوم قوله تعالى: ﴿وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حِلّٞ لَّكُمۡ [المائدة: 5]. أن طعام الوثنيين- أي ذبائحهم- لا يحل للمسلمين، أخذًا منهم بمفهوم اللقب، كما يحتج بعض الشافعية به، والجمهور لا يحتجون به. والقرآن لم يحرّم طعام الوثنيين، ولا طعام مشركي العرب مطلقًا، كما حرّم نكاح نسائهم، بل حرّم ما أهل به لغير الله من ذبائحهم.

وإن الصابئين والمجوس لا يطلق عليهم لقب المشركين؛ لأن القرآن عندما يذكر أهل الأديان يعد المشركين والذين أشركوا صنفًا، واليهود والنصارى والصابئين والمجوس أصنافًا أخرى، يعطف أحدها على الآخر، والعطف يقتضي المغايرة.

إذا علمت هذا: تبين لك أن العلماء لم يجمعوا على أن لفظ المشركين يتناول جميع الذين كفروا بنبينا وبالقرآن النازل عليه، ولم يدخلوا في دينه؛ وأن للاجتهاد مجالاً في جعل لفظ المشركين في القرآن خاصًّا بوثنيي العرب، فلا يكون استحلال ذبائحهم كفرًا، ولا خروجًا عن دين الإسلام. قال: ولسنا نقول بهذا بنظريات اجتهادية من عند أنفسنا، وإنما نقوله بما غفلوا عنه من كتاب الله، لظنهم أن أئمتهم من الفقهاء قد أحاطوا بكل شيء علمًا، وخفي عليهم أن كثيرًا من العلماء من أمثالهم قد خالفوهم في كثير من المسائل، ومن فوقهم من الصحابة والتابعين، والأصل هو الإباحة في الأشياء، حتى يرد الأمر بالنهي عنها، فيجب رد الأمر إلى الكتاب العزيز، وإلى السنة المطهرة. انتهى كلامه.

فقوله: إن بعض العلماء قد خالفوا أئمة المذاهب في كثير من المسائل، يشير بهذا إلى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وأنه قد خالف الأئمة الأربعة في سبع عشرة مسألة معروفة مشتهرة، ولو طالت به الحياة لاستظهر في خلافهم ما هو أكثر منها. ومثله العلامة ابن القيم رحمه الله فقد ذكر في كتابه إعلام الموقعين أن الفقهاء قد ردوا كثيرًا من السنن الصحيحة الصريحة لمخالفتها لمذهبهم، وما عليه فقهاؤهم، وقد قيل: كم ترك أول لآخر، وسبحان من لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه.

ثم إن هذه المسألة تعطي العالم العاقل شيئًا من التأني والتريث عن المبالغة بالجزم في تحريم ما لم يحط بعلمه، وتنهى عن الغلو والإفراط في التحريم بدون دليل.

وأكثر الذين يبالغون في التشنيع والتشديد في التحريم لمثل هذا الدجاج، هم يرونه من باب الورع عن أكل اللحم الحرام، وفي الغالب لن يستطيعوا التنزّه عن أكله، وإن تعففوا عنه في خاصة أنفسهم، فلن يستطيعوا التنزّه عنه في عامة أهلهم وعيالهم، ومن يأكل هذا اللحم وهو يعتقد إباحة حله، خير ممن يأكله وهو يعتقد تحريمه.

وقد وقعت مناظرة بيني وبين أحد العلماء المشهورين بالفقه في لحم هذا الدجاج، وكان هذا العالم يميل إلى كراهته، ويرجح القول بتحريمه، بناء على ما بلغه في صفة تذكيته، وبعد أن أوردت عليه ما عسى أن يحضرني من الدلائل المقتضية لإباحته، رأيته كأنه اقتنع بها، فقال قبل أن يقوم من المجلس: إني أقول بالتحريم، وإن الثلاجة في بيتي مملوءة من الدجاج المستورد من الخارج. وهكذا أكثر أحوال المتشددين.

إن الحاجات هي أُم الاختراعات، وإن غرق الناس في هذه اللحوم قد أكثر من سؤالهم عنها: أهي حلال أم من الحرام؟ لهذا وجب علينا بيان حكمها بما ظهر لنا من دلائل السنة والكتاب لإزالة ما غشيها من الشك والارتياب. والله الموفق للصواب.

* * *

[143] ذكره العلامة ابن القيم في (زاد المعاد) في فصل وفود العرب. [144] تفسير المنار- المجلد السادس- ص 185.