حكم ذبائح الكفار والمشركين
إن هذه المسألة مبنية على تحريم ما ذبحه الكافر والمشرك لأكله، أو الإكرام به، وهل يحل للمسلم أكله أو لا؟
فعند العلماء وأئمة المذاهب الأربعة: أنه لا يجوز أكل ما ذكاه الكافر أو المشرك، حتى ولو سمّى الله على تذكيته، لاعتبار أن تسميته حابطة تبعًا لإحباط عمله، فيكون كمن لم يسمّ الله عليه. فعدم إباحة ما ذكاه المشرك هو أمر قد راج بين الصحابة.
ومعلوم أن قول الصحابي من شرط قبوله كونه لا يخالف نصًّا صحيحًا، والله سبحانه قد أوجب الرد عند التنازع إلى كتابه وسنة رسوله، لا إلى قول أحد غيرهما، وحصر المحرّمات في القرآن، وخاصة في آية المائدة التي هي من آخر القرآن نزولاً، وفيها تحريم الميتة، والدم المسفوح، ولحم الخنزير، وما أُهل به لغير الله، وتحريم ما لم يذكر اسم الله عليه، وتحريم ما ذبح على النصب، ولم يذكر تحريم ما ذبحه الكافر والمشرك، وما كان ربك نسيًّا.
وعلى كل حال فإنني مع الصحابة، ومن أتباع الصحابة في تحريم ما حرّموه من ذبيحة المشرك الوثني. كما اشتهر ذلك عنهم. فمتى علمت ذلك تبين لك أن لفظ الشرك والمشركين لا يتناول جميع الذين كفروا بنبينا محمد ﷺ ولا بالقرآن النازل عليه، ولم يدخلوا في دينه؛ لأن الشرك المطلق في القرآن ينصرف إلى المشركين الوثنيين؛ كمشركي العرب من أهل الحجاز ونجد وأمثالهم.
وحيث لم يثبت تحريم ذبائح الكفار لا في الكتاب ولا في السنة؛ فإننا نقتصر على تحريم ذبائح المشركين الوثنيين تمشيًا مع الصحابة، ولا نعديه إلى غيرهم من تحريم ذبائح سائر الكافرين؛ لعدم ما يدل على ذلك.
وما يقال في بلدان الصين من وقوع الاختلاط فيه بين سائر الأمم والأديان، فكذا يقال مثله في بلدان الروس والألمان واليابان وأمثالهم، فلم نجد لتحريم ذبائحهم نصًّا يجب المصير إليه، لا في القرآن ولا في السنة.
وإنني بمقتضى التتبع للدلائل من الكتاب والسنة لم أجد لتحريم ما ذبحه الكافر أصلاً يعتمد عليه، وإن المحرّمات في القرآن هي ما نص الله عليها بقوله: ﴿فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ إِن كُنتُم بَِٔايَٰتِهِۦ مُؤۡمِنِينَ ١١٨ وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تَأۡكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِۗ﴾.. إلى قوله: ﴿وَلَا تَأۡكُلُواْ مِمَّا لَمۡ يُذۡكَرِ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ وَإِنَّهُۥ لَفِسۡقٞ﴾ [الأنعام:118-121].
وهذه المحرّمات التي أشار إليها بقوله: ﴿وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِ﴾ [الأنعام: 119]. يعني بذلك قوله: ﴿حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةُ وَٱلدَّمُ وَلَحۡمُ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦ وَٱلۡمُنۡخَنِقَةُ وَٱلۡمَوۡقُوذَةُ وَٱلۡمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيۡتُمۡ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ﴾ [المائدة: 3]. وهي من آخر القرآن نزولاً فأحلوا حلالها وحرّموا حرامها، ولم يذكر فيها تحريم ما ذبحه الكافر.
فقوله: ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيۡتُمۡ﴾ يعود إلى المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، فكلها متى أدركها صاحبها وبها حياة مستقرة وذبحها فإنها حلال، فإن فاتت عليه، وماتت قبل أن يدركها، فهي حرام، كتحريم الميتة حتف أنفها، فلا تبيحها التذكية. وهذه الآية توافق آية سورة الأنعام، وهي قوله تعالى: ﴿قُل لَّآ أَجِدُ فِي مَآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطۡعَمُهُۥٓ إِلَّآ أَن يَكُونَ مَيۡتَةً أَوۡ دَمٗا مَّسۡفُوحًا أَوۡ لَحۡمَ خِنزِيرٖ فَإِنَّهُۥ رِجۡسٌ أَوۡ فِسۡقًا أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦ﴾ [الأنعام:145]. وهي نص في حصر التحريم فيما ذكر، فتحريم ما عداه يحتاج إلى دليل. فالدم الحرام هو الدم المسفوح، بخلاف ما يوجد في خلال اللحم، فإنه حلال. ومثلها آية النحل، وهي قوله تعالى: ﴿فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَٰلٗا طَيِّبٗا وَٱشۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ إِيَّاهُ تَعۡبُدُونَ ١١٤ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١١٥﴾ [النحل: 114-115].
فهذه محرّمات القرآن.
وقد حرّمت السنة كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، وحرّمت أكل لحوم الحمر الأهلية؛ فإنها رجس. وفي أكلها الخلاف المشهور بين الصحابة ومن بعدهم.
وقد اتفق الفقهاء على مشروعية ذكر اسم الله تعالى على الذبيحة، ولكن اختلفوا: هل هي واجبة، وشرط لحل الذبيحة، أو هي مستحبة، أي ليست بشرط لحل الذبيحة؟ فقول الجمهور ومنهم الإمام أبو حنيفة ومالك وأحمد: أن التسمية شرط في حل أكلها؛ واستدلوا بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَأۡكُلُواْ مِمَّا لَمۡ يُذۡكَرِ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ وَإِنَّهُۥ لَفِسۡقٞ﴾ [الأنعام: 121].
فإن تركت التسمية عمدًا لم تحل، وكانت كالميتة، وإن تركت سهوًا فإنها مباحة الأكل.
وذهب الإمام الشافعي وأصحابه إلى أن التسمية مستحبة، وليست بواجبة، وإن تركها عامدًا أو ساهيًا أكلت. وليس في أكلها حرج. وهي رواية عن الإمام أحمد ومالك. واحتجوا بقوله تعالى: ﴿قُل لَّآ أَجِدُ فِي مَآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطۡعَمُهُۥٓ إِلَّآ أَن يَكُونَ مَيۡتَةً أَوۡ دَمٗا مَّسۡفُوحًا أَوۡ لَحۡمَ خِنزِيرٖ فَإِنَّهُۥ رِجۡسٌ أَوۡ فِسۡقًا أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦ﴾ [الأنعام: 145].
فهذه هي المحرمات، ولم يدخل فيها متروك التسمية. وقالوا: إن الله أحل لنا طعام أهل الكتاب، والمعروف عنهم أنهم لا يسمّون على ذبحهم. وقالوا: إن معنى ﴿وَلَا تَأۡكُلُواْ مِمَّا لَمۡ يُذۡكَرِ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ وَإِنَّهُۥ لَفِسۡقٞ﴾، أي لا تأكلوا مما ذُبح لغير الله، فهذه توجيهات الإمام الشافعي، ومن قال بقوله. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: ﴿وَلَا تَأۡكُلُواْ مِمَّا لَمۡ يُذۡكَرِ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ وَإِنَّهُۥ لَفِسۡقٞ﴾ [الأنعام: 121]. يعني الميتة.
فمتى تأملنا نصوص القرآن والسنة؛ نجدها متوافقة على تحريم ما أُهل به لغير الله، وعلى ما لم يذكر اسم الله عليه. وفي التسمية الخلاف المشهور كما ذكرنا، وكذا تحريم الميتة، والدم المسفوح، ولحم الخنزير.
أما تحريم ذبح الكافر متى ذبح للبيع، أو ذبح لإرادة الأكل، فإننا لم نجد لتحريمها أصلاً في القرآن والسنة، سوى ما شاع على ألسنة الصحابة رضي الله عنهم من قولهم بتحريم ذبيحة المشرك الوثني، واستنبط بعض العلماء تحريمها من قوله: ﴿وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حِلّٞ لَّكُمۡ﴾ [المائدة: 5]. قالوا: فتخصيص إباحة ذبائح أهل الكتاب مما يدل على تحريم ذبائح غيرهم من سائر الكفار. وليس هذا بدليل يجب الأخذ به، فلا معنى للاحتجاج بمفهومه.
فلو كان كذلك لقلنا في قوله: ﴿وَطَعَامُكُمۡ حِلّٞ لَّهُمۡ﴾ [المائدة: 5]. أي أن ذبائحنا وطعامنا حل لأهل الكتاب، وحرام على غيرهم، ولم يقل بذلك أحد فيما نعلمه.
وإننا متى بحثنا في القرآن فإننا نجد فيه صريح الجواب وفصل الخطاب في إباحة ذبائح سائر الكفار من كل ما ذبحوه للأكل أو البيع. يقول الله تعالى: ﴿وَٱلۡأَنۡعَٰمَ خَلَقَهَاۖ لَكُمۡ فِيهَا دِفۡءٞ وَمَنَٰفِعُ وَمِنۡهَا تَأۡكُلُونَ ٥﴾ [النحل: 5]. وقال: ﴿وَإِنَّ لَكُمۡ فِي ٱلۡأَنۡعَٰمِ لَعِبۡرَةٗۖ نُّسۡقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمۡ فِيهَا مَنَٰفِعُ كَثِيرَةٞ وَمِنۡهَا تَأۡكُلُونَ ٢١﴾ [المؤمنون: 21].
وقال سبحانه: ﴿وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ حَمُولَةٗ وَفَرۡشٗا﴾ [الأنعام: 142]. فالحمولة ما يحمل عليه ويتبلغ به من بلد إلى بلد، والفرش هو ما يفرش ويؤكل.
وهذا الخطاب المتضمن لإباحة أكل لحوم الأنعام وشرب لبنها هو عام لجميع الناس مسلمهم وكافرهم، ولم يقل أحد من العلماء والفقهاء والمفسرين: إن هذه إباحة مختصة بالمسلمين دون الكافرين؛ لأن هذه من أمور الدنيا المشتركة بين المسلمين والكفار والمتقين والفجّار، كما قال سبحانه: ﴿۞وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ وَحَمَلۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِيلٗا ٧٠﴾ [الإسراء: 70]. فلم يبح سبحانه لجميع بني آدم التنعم بالطيبات في الدنيا من أكل اللحم وشرب اللبن وأكل سائر الفواكه والخيرات إلا وهو ملتزم الإباحة لما يترتب عليه من الذبح للحيوان، لا فرق في ذلك بين المسلمين والكفار.
ولا ينبغي أن ننخدع بنقل فقهاء المذاهب بقولهم بتحريم ما ذبحه الكفار مع قولهم بإباحة أكل لحم الحيوان في حق كل مسلم وكافر. وإنما استفاض القول بهذا بسبب تقليد الفقهاء وأئمة المذاهب من بعضهم لبعض وهم ينهون عن تقليدهم؛ لأنه قد خفي عليهم ما عسى أن يظهر لغيرهم.
وقد ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله مخالفة الفقهاء السنن الصحيحة الصريحة فيما يزيد على ثمانين مسألة، كما خالف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أئمة المذاهب الأربعة في سبع عشرة مسألة مشهورة ولم ينكر عليه في ذلك أحد.
والكلام هنا هو في ذبح الكافر للحيوان لإرادة الأكل أو البيع وأنه جائز وحلال بلا شك..
* * *