فتوى صاحب المنار في ذبائح أهل الكتاب[137]
قال: إن المسألة ليست من المسائل التعبّدية، وإنه لا شيء من فروعها وجزئياتها يتعلق بروح الدين وجوهره؛ إلا تحريم الإهلال بالذبيحة لغير الله تعالى؛ لأن هذا من عبادة الوثنيين، وشعائر المشركين، فحرم أن نشايعهم عليه أو نشاركهم فيه. ولما كان أهل الكتاب قد ابتدعوا، وسرت إليهم عادات كثيرة من الوثنيين الذين دخلوا في دينهم، لا سيما النصرانية، وأراد الله تعالى أن نجاملهم، ولا نعاملهم معاملة المشركين استثنى طعامهم فأباحه لنا بلا شرط ولا قيد، كما أباح لنا التزوّج منهم، مع علمه بما هم عليه من نزعات الشرك التي صرّح فيها بقوله: ﴿سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ ١٨﴾ [يونس: 18]. على أنه حرّم علينا التزوّج بالمشركات بالنص الصريح، ولم يحرّم علينا طعام المشركين بالنص الصريح، بل حرّم ما أهل به لغير الله، فأمر الزواج أهم من أمر الطعام في نفسه، والنص فيه عام قطعي في المشركين، وهو لم يمنع من التزوّج بالكتابية.
ولأجل كون حل طعام أهل الكتاب ورد مورد الاستثناء من المحرمات المذكورة بالتفصيل في سورة المائدة صرّح بعض أئمة السلف بأن النصراني إذا ذبح لكنيسته، فإن ذبيحته تؤكل، مع الإجماع على أن المسلم إذا ذبح وذكر اسم النبي أو الكعبة، فإن ذبيحته لا تؤكل، وترى هذا في تفسير الإمام ابن جرير الطبري، وما نقلناه في المنار عنه وعن غيره كاف في هذا الباب. وقد رأيت في التفسير من هذا الجزء النسبة بيننا وبين أهل الكتاب، وما ورد فيهم وما أرشدنا إليه- سبحانه- من مجاملتهم ومحاسنتهم.
فهذه هي الحكمة في حل طعامهم، لا كونهم يذبحون على وجه مخصوص أو يطبخون بكيفية مخصوصة، ولو كان يجوز لنا أن نقيّد نصوص الكتاب المطلقة بمثل هذا التقييد، لكان يجب علينا أن ننظر في كل حكم فنقول: إن إحلاله أو تحريمه بما إذا كان على الكيفية التي كانت في ذلك العصر، فنقيّد بما كان عليه أهل العصر الأوّل في جميع عاداتهم وأحوالهم؛ لأنهم خوطبوا بالأحكام وهم على ذلك. وهذا حرج عظيم، وتحكم لم يقل به أحد، بل قال أهل الأصول: حكم المطلق يجري على إطلاقه، ومن ثم نقول: إنه لا وجه للبحث عن عدد الذين أقيمت بهم الجمعة أو صلاة العيد، ولا عن كيفية المسجد أو المصلى الذي صُلي فيه عند التشريع، والحكم بأن ذلك شرط لصحة الصلاة.
ثم إن المشاغبين الممارين لا يقنعهم شيء، فأنت ترى أن فتوى الأستاذ الإمام لم تكن في حل الموقوذة من أهل الكتاب، ولا كان السؤال عن ذلك. وقد سمّوا الذبيحة موقوذة، وأكثروا من اللغو، ولا غرض لهم من ذلك إلا إيهام العامة بأن فلانًا قال قولاً مخالفًا للشرع؛ لعلمهم أن العوام لا يفهمون الدلائل، ولا يميزون بين الحق والباطل، وإنما يفهمون بالإجمال أن فلانًا أخطأ فيخوضون في عرضه. وهذه هي لذة الذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا؛ ولذلك لم يورد الذين كتبوا في هذه المسألة شيئًا من كلامنا المؤيد بالكتاب والسنة، وفقه الشريعة وأسرارها، والمأثور عن سلفها، لا بالتسليم ولا بالإنكار، فذرهم في خوضهم، واشتغالهم بالسفاسف، وصرفهم قلوب المسلمين عن كل نابغ فيهم، ساع في إقالتهم من عترتهم، وإنجائهم من هلكتهم، حتى يبلغ انتقام الله تعالى بهم منهم، حيث خذ بما صفا، ودع ما كدر، وادع إلى الحق من تراه مستعدًّا له والله الموفق. انتهى كلامه.
وأقول: إن بعض الناس قد أجلبوا وأرجفوا على الناس بتشنيع ذبح أهل الكتاب للحيوان والدجاج، وتحريم أكل ذبائحهم، فكانوا يصفون ذبحهم بأوصاف متنوعة، كلها لا تعتمد على شيء من اليقين والصحة، وإنما هي من قبيل: قالوا أو زعموا، وفي الحديث: «بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا»[138].
فيصفون الحيوان بالصعق، أي بضربهم له حتى يموت. ويصفون الدجاج بإلقائه في الماء المحرق حتى يموت، وقد يبالغ في التنفير من له غرض خاص فيه كبعض التجار، يحاولون تأسيس مصنع لذبح الدجاج وبيعه، فتراه يحذر الناس من أكل اللحم الحرام، ليصرف الناس إلى الإقبال على عمله. وكم داع للخير وهو يدعو إلى نفسه.
وإن هذه المؤسسات لذبح الحيوان والدجاج في البلدان الأوروبية قد تحصّلوا وتوصّلوا إلى آلات كهربائية، تريحهم وتريح الحيوان والدجاج معهم بحيث يحصدون بها ألف دجاجة في طرفة بصر. وزعموا أن أصغر مصنع عندهم ينتج في الساعة الواحدة ألفي دجاجة مذبوحة ومنظفة ومغلفة، ولو أرادوا الذبح بالأيدي لما استطاعوا في الساعة الواحدة تنظيم عشر دجاجات؛ لأنهم بزعمهم يعيشون الآن في زمان السرعة. ولقد سافر أحد الأشخاص من المملكة العربية السعودية لقصد مشاهدته لعملية ذبحهم للحيوان والدجاج، فمنعوه من الاتصال بعملهم، لزعمهم أن السفارات من سائر الدول الإسلامية هي التي تتولى الكشف والإشراف على العمل، ومعاينة الذبح، وليس لأحد غيرهم غرض ولا مصلحة في التدخل في معاينة الذبح وكيفيته، وكانوا يحملون من السفارات شهادات بصحة ذبحهم، ويكتبون على كل مغلف دجاجة: (ذبح على الطريقة الإسلامية).
وعلى كل حال فإنه متى أباح الله لنا ذبائح أهل الكتاب بدون قيد ولا شرط، فإنه يباح لنا أن نأكلها بأي طريقة ذبحوها، فلا ينبغي أن نتكلف الكشف والتفتيش عن كيفيته، حتى لو فرض أن تذكيته وقعت على الأمر المكروه، أو الحرام، فإننا غير آثمين بأكله، لدخوله في الخطأ الداخل تحت العفو ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَا﴾ [البقرة: 286]. قال الله تعالى: «قَدْ فَعَلْتُ»[139].
وذكر ابن جرير عن أبي الدرداء وابن زيد: أنهما سُئلا عما ذبحه أهل الكتاب لكنائسهم، فأفتيا بأكله. قال ابن زيد: أحل الله طعامهم ولم يستثن شيئًا. وسئل أبو الدرداء عن كبش ذبح لكنيسة يقال لها: (جرجس) فأهدوا لنا منه، أفنأكله؟ فقال أبو الدرداء: اللهم عفوًا، إنما هم أهل كتاب، وطعامهم حل لنا، فأمر بأكله. وروى ابن جرير وغيره عن ابن عباس مثله. ولما أهدت المرأة اليهودية النبي ﷺ تلك الشاة التي دست فيها السم فأكلها النبي وأصحابه ولم يسأل عن كيفية ذبحها.
وحدثني أحد الأمراء الفضلاء، قال: شهدت جزر البقر في سويسرا ومعي جماعة من أصحابي، قال: فكانوا يأتون بالثيران، فوصفها بالعظمة في جسامتها، فيوقفون الثور الذي قدم للذبح، فيأتي الرجل بمقرعة من حديد فيضربه على قمة رأسه فيسقط مغشيًّا عليه فيعاجله الرجل بذبحه مع نحره كذبحنا له على حد سواء.. وهذه الضربة لا يقصدون بها قتله، وإنما يقصدون بها سكونه عن قوة الحركة والنفار مع بقاء حياته.
وصار المرجفون يصفون هذا الفعل بالصعق وبالوقذ، كما يصفون الدجاج بأنهم يلقونه في الماء المحرق وهو حيّ، وكل هذه الأقوال لا تتركز على دليل ولا على صحة من اليقين، كيف وصاحب المقالة الذي بالغ في التنفير عن الدجاج، فوصف عملهم في معملهم، وأنهم قد وضعوا لهم بركة تتلقى سوائل الدجاج، مما يدل على أن هناك دمًا يسيل من الدجاج بعد ذبحه. وكما أن التاريخ القديم يثبت عملية الأطباء القدامى متى أرادوا أن يعملوا عملية جراحية قاسية، أو قص عظم، أو بتر عضو، وأحبوا أن يغيب شعور الجريح عن التألم، أخذوا يضربونه بمقارع الحديد على رأسه حتى يغيب شعوره عنهم، ثم يعملون عملهم في التجريح والتقطيع، وهي نفس ما يفعلونه في ضربهم رأس الثور حتى يسقط مغشيًّا عليه كالميت.
وعن عدي بن حاتم أن النبي ﷺ قال: «إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْك فَأَدْرَكْته حَيًّا فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ أَدْرَكْته قَدْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْكُلْ فَكُلْهُ، وَإِنْ وَجَدْت مَعَ كَلْبِك كَلْبًا غَيْرَهُ وَقَدْ قَتَلَ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّك لَا تَدْرِي أَيَّهُمَا قَتَلَهُ، وَإِنْ رَمَيْتَ سَهْمَكَ فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ، فَإِنْ غَابَ عَنْك يَوْمًا فَلَمْ تَجِدْ بِهِ غَيْرَ أَثَرَ سَهْمِك فَكُلْ إنْ شِئْتَ، وَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقًا فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْ». متفق عليه.
وروى البخاري عن عدي قال: سألت رسول الله ﷺ عن صيد المعراض، فقال: «إِذَا أَصَبْتَ بِحَدِّهِ فَكُلْ، وإن أَصَبْتَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ فَإِنَّهُ وَقِيذٌ، فَلاَ تَأْكُلْ».
ففي هذه الأحاديث دليل على سماحة رسول الله ﷺ في التوسع في إباحة ما قتله الكلب، وما قتله الصقر من كل ما لا يقدر على تذكيته، لقوله سبحانه: ﴿يَسَۡٔلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمۡۖ قُلۡ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ وَمَا عَلَّمۡتُم مِّنَ ٱلۡجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُۖ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ وَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ﴾ [المائدة: 4]. أفلا نجعل ما قتله الإنسان بحدِّ المعراض وما قتلته الصقور والكلاب بمثابة ما قتله أهل الكتاب، فنأكله ولا نسأل عنه لاعتبار الكل حلالاً من الله؛ لأنه لا يكون تحريم لشيء إلا بخبر صريح يدل عليه، من كتاب الله، وسنة رسوله؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِ﴾ [الأنعام: 119]. فليس بعد تفصيل الله تأويل. وقد روى البزار والحاكم في صحيحه عن أبي الدرداء مرفوعًا، قال: «مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ حَلالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ، فَاقْبَلُوا مِنَ اللَّهِ عَافِيَتَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيَنْسَى شَيْئًا»، ثم تلا ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّٗا ٦٤﴾ [مريم: 64]. وقد اشتهر هذا الحديث عن سلمان أيضًا.. ويدل له ما روى الدارقطني عن أبي ثعلبة الخشني أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ، فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَّدَ حُدُودًا، فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلا تَبْحَثُوا عَنْهَا»[140]، فكل ما سكت القرآن والسنة عن بيان تحريمه فهو حلال من الله لعباده.
* * *
[137] فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا- المجلد الأول- ص 353. [138] رواه البخاري في الأدب المفرد عن ابن مسعود، ورواه الإمام أحمد وأبو داود عن حذيفة. [139] أخرجه مسلم من حديث ابن عباس. [140] أخرجه الدارقطني من حديث أبي ثعلبة الخشني.